كان السيّد حسن كبيراً في كلامه، في ابتسامته، في نظراته، يفصح عن فكره في أوّل جلسة من جلساته، ولا يخشى في الله لومة لائم، يثق بعد الله بنفسه، وما أكثر ما في سيرة هذا الرجل من مواقف ومحطّات مشرفة وأحداث بارزة وأعمال جليلة، يتألّق في مهد الوحي، ويرتفع علماً...
بقلم: سلمان هادي آل طعمة
آية الله السيّد حسن مهدي الحسيني الشيرازي: 1353هـ - 1400هـ
هو العالم الأديب الشاعر آية الله السيّد حسن بن آية الله العظمى المجتهد الأكبر السيّد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي الحائري.
ولد في كربلاء يوم 3 صفر سنة 1354هـ / 1934م، ونشأ وترعرع في كنف أُسرة علمية محافظة لها ماض مجيد في الفقه والمرجعية الدينية، وفتح عينيه في بيت مزدهر بالثقافة العربية والإسلامية، فلا غرابة أن تنجب تلك الأُسرة فتى ينهل العلم من ينابيعها، ويتشرّب الأدب واللغة من مصافيها.
درس على والده وعلى أخيه والسيّد محسن الجلالي والسيّد محمّد هادي الميلاني والشيخ محمّد الهاجري والشيخ محمّد رضا الأصفهاني والشيخ يوسف الخراساني والشيخ جعفر الرشتي والسيّد محمّد كاظم المدرّسي وغيرهم من العلماء(1).
فكان شاعراً تميّز بقوّة الأُسلوب ومتانة اللفظ، كما كان أديباً ساحر القلم، ذكي العقل والقلب، واسع الثقافة، لديه قدرة عالية على إلقاء الخطب الثورية في المهرجانات، سافر إلى سوريا ولبنان، قال عنه الأديب نور الدين الشاهرودي:
كان مصلحاً إسلامياً ومفكّراً مبدعاً قبل أن يكون عالماً دينياً محدود النشاط، كان مليئاً بالحيوية والجدّية والمثابرة، غزير العلم، كثير العمل، ذا مواهب عديدة ومتنوّعة(2).
وألّف كتباً تناولت مختلف جوانب العلوم الإسلامية. وهكذا استطاع أن يشقّ طريقه في الحياة بمهارة، حتّى قلب له الزمان ظهر المجن، فاستشهد في عصر يوم الجمعة 16 جمادى الثانية 1400هـ المصادف 16 / 4 / 1980م ونقل جثمانه إلى مدينة قم المقدّسة فدفن بها، فخلّد له التاريخ ذكراً جميلاً وسجلاً خالداً، كيف لا وهو من أكثر أفراد أُسرته شهرةً ونشاطاً وحيوية.
شعره:
للسيّد حسن (رحمه الله) قصائد خالدات في شتّى الأغراض الشعرية، وديوانه يحتوي على جميع ضروب الشعر كالمدح والرثاء للأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وقصائد مليئة بالملامح الإنسانية والوطنية. وفي شعره مرآة صادقة وصور واضحة للمشاهد التي ينقلها لنا عبر أحاسيسه ومشاعره الجيّاشة.
قال توفيق حسن العطّار: جعل شاعرنا من نظم الشعر هدفين وهما آل البيت الأطهار (عليهم السلام)، والهدف الآخر الوطن الحبيب الذي شبّ وترعرع فيه، وأقولها بصراحة إنّه غني عن التعريف بفضل ما يعرفه الأُدباء عنه متى ما دعي إلى المناسبات الدينية والأدبية، والكتب التي ألّفها في الدين والأدب والوطنية(3).
وقال عنه الأُستاذ موسى الكرباسي: تغلب بوجه عام مسحة التقليد على عمرم شعره، غير أنّ إشراقة التعبير وجزالة المعنى واضحتان في طابعه هذا(4).
وعرف شاعرنا بفصاحته وحلاوة منطقه وحسن سبكه وجودة نظمه. ففي وطنياته نار وحمم، وإنّ انشداده لحبّ الوطن جعله يواكب كلّ الحركات التحرّرية في الوطن العربي، فقد كتب قصائد عديدة عن حرب التحرير في الجزائر وفلسطين ولبنان وتونس، قارع فيها الاستعمار والصهيونية. وهذه إحدى وطنياته في فلسطين الشهيدة، وفيها يضع النقاط على الحروف:
كوكب قد هوى وجنّ ظلام ----- لا حياة لنا تلذّ وتسعد
إيهاً فلسطين الشهيدة كم لنا ----- فيها يطلّ دم ودمع يجمد
إيهاً فلسطين الشهيدة إنّنا ----- نهوى سواك وعن طريقك نقصد
دومي فلسطين الشهيدة ملجأً ----- في النائبات به نكنّ ونخمد
دومي لنا ذخراً فباسمك يرتقي ----- أعلى المناصب كلّ من لا يصمد
دومي لنا عيناً تنزّ دموعه ----- وجراحه المقصود لا تتضمّد
دومي وأنت وسيلة موصولة ----- دومي فأنت بضاعة لا تكسد
إيهاً فلسطين اصبري وتورّعي ----- أن تطلبي منّا الذي لا يوجد
أن تطلبي منّا الكلام فعندنا ----- نظم ونثر بعد ألفٍ يسند
أمّا الجنود فأجبنوا وتميّعوا ----- أمّا السلاح فبالشروط مقيّد
أمّا الجيوش فخانها ضبّاطها ----- أمّا الشعوب فإنّها لا تنجد
والقدس فليبن اليهود ترابها ----- فالأُمنيات على سواها تعقد
والقدس تحيا في القلوب فإنّها ----- عند الديانات الثلاث تمجّد
والأنبياء ففي الجنان محلّهم ----- وقبورهم دوماً تشاد وتعبد
والمسجد الأقصى فما نبغي به ----- ولنا بمكّة والمدينة مسجد
هذا اعتقاد الفاشلين وما عسى ----- يجدي فلسطين اعتزاز يفنّد
إنّي أقول ولا أقول مشجّعاً ----- وبكلّ آيات السماء أُؤكّد
إنّ اليهود سيتركون بلادنا ----- ويطهّر الآفاق سيل مزبد
لكنّنا نمضي ويمضي عارنا ----- ويجيء جيل مخلص وموحّد
فيشنّها حرباً تذر رمادهم ----- في البحر حتّى لا يرى متهوّد
* * *
وقصائده في مناقب آل البيت (عليهم السلام) كثيرة، فيها فصاحة وجزالة وسليقة عربية متينة وذوق حسّي سليم. اسمعه في قصيدة (صقر الحروب) التي قالها في ذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام):
صقر الحروب
الفجر شقّ عن الوجود غياهبا ----- وجلى بطلعته الضلال الكاذبا
والورد يهدي للبلابل بسمةً ----- مرض النسيم بها فأصبح نادبا
جذلان يجري في الرياض عليله ----- ويبثّ في سمع الورود مناسبا
ريّان يسكب في المروج لئالئاً ----- غرراً تلوح زبرجداً وكواكبا
ويشقّ عن وجه الورود خمارها ----- ويرشّ في فمها النضار الذائبا
يقسو على الأزهار في تقبيلها ----- فيرى بها ماء الصبابة ساكبا
والأرض يلبسها الربيع نضارةً ----- سحر الجمال جرى عليها ساربا
ملء العيون مباهج وغضاضة ----- يرتدّ عنها الطرف عجزاً خائبا
والجو يغمره الضياء فما ترى ----- في الأُفق في صفو الأثير غياهبا
والروض يعبق بالعبير مردّداً ------ كالفجر يطوي بالنشيد سباسبا
يابدر غضّ الطرف عن خجل فقد ----- فاض الوجود هدى ونوراً لاحبا
زر يا نسيم شعاب مكّة والثم الـ ----- ـأزهار واتّخذ الجنوب مصاحبا
فلقد أطلّ على العوالم كوكب ----- نشر الضياء مشارقاً ومغاربا
* * *
يا كوكب السعد المنير تلفّه الأ ----- ضواء في أُفق السماء مواكبا
عنك النجوم تساءلت في أُفقها ----- والشهب بالبشرى تهبّ ثواقبا
وتباشرت فيك الورود بنفحها ----- والطير ردّدت النشيد الخالبا
وبك الجداول بالخرير تجاوبت ----- وروت حديثك للصخور مساربا
صهر النبي أبا الأئمّة من به الر ----- حمن باهى في السماء أطائباً
طهّرت بيت الله عن أوثانه ----- لمّا ثبتّ مجاهداً ومحاربا
تهب الجنان لمن تريد وتصطفي ----- والنار تدخل من أتاك مغاضبا
بحر الندى ترب الهدى ربّ النهى ----- رمز العلى خير الأنام مناقبا
الفكر يعجز حيث يجري مرسلاً ----- والعقل يعثر حين يمضي صائبا
والكون يخشع لاسمه متواضعاً ----- وسماته يزري السحاب الصائبا
نشر العجائب في الدنا فاستيقظت ----- أُمم لتشهد من علاه عجائبا
* * *
هو صاحب الغزوات والأسد الذي ----- أضحت بهيبته الأُسود ثعالبا
صقر الحروب يسدّ عرض جناحه ----- رحب الفضاء إذا أطلّ محاربا
إن هبّ للحرب العوان مشمّراً ----- تتفرّق الأبطال عنه كتائبا
والحرب تطفح باللظى فيخوضها ----- ناراً ويلقى البغي موجاً صاخبا
قطب الحروب يغوص في لهواتها ----- وتحوطه بيض السيوف قواضبا
يسطو فيختطف النفوس بصارم----- يدع النساء ثواكلاً ونوادبا
ويرنّ في سمع القرون صليله ----- فيبثّه رحب الفضاء منادبا
سل عنه (خيبر) كيف أردى (مرحباً) ----- نصفين يسبح في دماه شاحبا
وسل القبائل عن مدى سطواته ----- والسيف يعمل في الجماجم قاضبا
* * *
يا صارم الإسلام يا من شخصه ----- ملأ الحياة فضائلاً ومناقبا
طف في البلاد بنظرة حتّى ترى ----- ظلم العدى يلج السماء سحائبا
باعوا بلادك فالمسيح يسودنا ----- ونضوا على الإسلام سيفاً لاهبا
لعبوا كما شاءت لهم أهواؤهم ----- بالدين واتّخذوا الضلال جلاببا
مدّت يد الأعدا لنهب نفوسنا ----- فغدت تمزّق كلّ شمل جانبا
فابعث علينا من نداك صوائباً ----- وعلى عداك من العذاب جواصبا
قاسوك يا خير الأنام بشرّهم ----- واستبدلوا بالبحر إلّا كاذبا
وتغالبتك على الهدى ذؤبانهم ----- والحقّ بكر لا يزال مغالبا
هيهات لا يشفي السراب غليل من ----- يلوي عن البحر المزمجر راغبا
أنت الذي عمّ الأنام نوائلاً ----- وسواك طرّاً ليس يكفي شاربا
رفضوا برفضك مجدهم واستأثروا ----- بالذلّ واتّخذوا الضلال مذاهبا
فهم كمن ترك الهزار مجانباً ----- وانصاع يطلب في الحجور عقاربا
صوت الإباء
ويخصّ مولد الإمام الحسين السبط (عليه السلام) بالذكر والإطراء في قصيدة بعنوان (صوت الإباء) فما أحسن قوله:
فجر أطلّ ضحوك الوجه مبلولا ----- بدا فتوّج هام المجد إكليلا
بدا فغنّت له الأطيار من فرح ----- وهلّلت باسمه الآفاق تبجيلا
وأصبحت باسمه الأيّام هاتفة ----- تردّد الحب والأشواق تفصيلا
غنّى بأوصافه الحسنى النسيم هوى ----- فطبق الأُفق توراة وانجيلا
وسار هيمان عبر الحقل منطلقاً ----- ليوسع الورد في مسراه تقبيلا
وأرسلت باسمه الغدران ساكبة ----- لحن البشائر تصعيداً وتنزيلا
وأنزل الفجر من عليا فضائله ----- مدائحَ رتّلتها الطير ترتيلا
وزفّها البلبل الغرّيد منتشياً ----- عرائس البشر تكبيراً وتهليلا
هذا الحسين ونور الحقّ طوقه ----- ولفّه العزّ تمجيداً وتفضيلا
* * *
نور تلألأ فتّاناً بروعته ----- عبر النجوم ففرّ الليل مفلولا
يطوي الخلود بعزم جلّ مطلبه ----- حتّى غدا فوق متن العزّ محمولا
يفيض قدساً وإلهاماً ومكرمةً ----- فيترك الظلم مهزوماً ومخذولا
ويلهم الفكر من أنوار طلعته ----- فينثني عنه ليل الجهل مبتولا
سكبت في معدن الإخلاص عاطفتي ----- فحال نوراً وتقديساً وتجليلا
وفي لهيب ولاك الطهر معرفة ----- صهرت قلباً بماء الحبّ مجبولا
* * *
وهكذا سارت أشعاره مسير الشمس والقمر، وقد نشرت في المجلّات والصحف العراقية والعربية(5) والسمة البارزة في شعره أنّه كان معتزّاً بعروبته ودينه، ولا ينطق إلاّ من مبدأ القوّة.
آثاره:
1: إله الكون (ط: النجف 1380هـ).
2: أهداف الإسلام.
3: إنجازات الرسول (صلى الله عليه وآله).
4: رسول الحياة.
5: الشعائر الحسينية (ط: النجف 1384هـ).
6: الاشتقاق في النحو (ط: النجف 1963م).
7: كلمة الإسلام.
8: كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) (ط1 بيروت 1385هـ)، (ط2 النجف 1386هـ).
9: كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) (ط: بيروت 1967م).
10: موقف الإسلام الفاضل (ط: بيروت 1963م).
11: النصير الأوّل للإسلام (ط: النجف 1369هـ).
12: الوعي الإسلامي (ط: النجف 1960م).
13: بطل الإسلام الخالد (شعر).
14: كلمة الله.
15: ميلاد القيادة الإسلامية (شعر).
16: الاقتصاد الإسلامي.
17: حديث رمضان(6).
18: ديوان السيّد حسن الشيرازي (ط بيروت 2005م).
19: كلمة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
20: كلمة الإمام المهدي (عليه السلام).
21: خواطري عن القرآن.
إلى غيرها من المؤلفات التي تجاوزت الثمانين كتاباً وكراساً.
ذكرياتي عن آية الله السيّد حسن الشيرازي (رحمه الله)
ما أكثر الصور التي تزاحمت على خاطري وأنا أكتب عن هذا الرجل النبيل، فقد عرفت السيّد حسن بن المهدي الحسيني الشيرازي (قدس سره) في أواسط الخمسينات، وبالتحديد سنة 1954م، شاباً دمث الأخلاق، بشوش الوجه، طيّب السريرة، له أفكار صائبة يفتقر إليها الكثيرون من حاملي الشهادات العليا، شجاعاً، أميناً، نزيهاً، متوقّد الذهن، متمسّكاً بالفرائض الدينية، وكان مرحاً لطيف المعشر، والابتسامة لا تفارق شفتيه، ظهرت مواهبه في صباه، وكان الناس يجلّونه ويحترمونه، وقد عرف بصدق العزيمة وصادق الوطنية، يدافع عن الحقّ، ويبذل الجهد لتعرية الباطل.
ومن دواعي إحسانه الورع والتقوى مع فصاحة اللسان، وإلى الفصاحة العلوم الدينية والفقه، وإلى العلوم الضمير الحي، وهو يرمق الحقّ بنظرة كلّها شوق وأمل. إنّه شخصية نادرة، ذو أبعاد متعدّدة.
كنت ألتقيه في الأُسبوع مرّتين، وكنت معجباً بشخصيته ونشاطه، أزوره في المدرسة السليمية الدينية في كربلاء المقدسة، ويزورني في دارنا بمحلّة باب الطاق، نقتل الوقت في الحديث عن الشعر والشعراء، ومن طريف ما كان يحصل عند اللقاء أنّه عندما يمدُّ يده ليصافحني، يضغط على يدي بقوّة مداعباً بحيث أشعر ببعض الوجع، ونظراً لنحافة جسمي، كنت أشعر بعدم سحبها من بين أصابعه القوية، وكنت في المرّات الأُخرى أُحاول أن أُسلّم عليه باللسان فقط، وأتهيّب من قوّة يده، فيبتسم لذلك..
بعض القصص والخواطر التي تخصّ الشهيد:
دخل الشهيد السيّد حسن ميدان الشعر وحام حوله وانصرف إلى قرض الشعر وكان بالطبع قادراً على النظم، لأنّ عدته من علمي العروض والقوافي كانت مستوفاة.
وكانت كتاباته وأشعاره مرسلة تصدر عن طبع لا تكلّف فيه.
أتذكّر من المواقف الراسخة في جدار ذاكرتي حتّى الآن أنّ (الهيئة العلوية) التي تأسّست سنة 1954م وكانت تضمّ عدداً من الأعضاء منهم: السيّد حسن الشيرازي والسيّد مرتضى القزويني والسيّد صدر الدين الحكيم الشهرستاني والسيّد حسن أبو لحية والسيّد صادق آل طعمة والسيّد سلمان آل طعمة ــ مؤلّف الكتاب ــ، وكانت هذه الهيئة تقيم الحفلات في المواسم الدينية كميلاد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وميلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميلاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومناسبة عيد الغدير وغيرها، وكان من المشاركين في هذه الاحتفالات الشاعر عبّاس أبو الطوس، ولهذا الشاعر في ذاكرتي الكثير من المواقف والتواصل الثنائي بيننا، وفي إحدى المرّات طلب منّي سماحة السيّد حسن الشيرازي أن أدعو هذا الشاعر الشاب الفذ للحضور في الصحن الحسيني الشريف ليشارك معنا بإلقاء قصيدة بمناسبة مولد الصدّيقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، فكان يلبّي الطلب، إلّا أنّه يتأبّط مفرشه ولحاف نومه، وعندما سألته عن ذلك أجابني بأنّه سيقضي ليلته في السجن بعد فراغه من إلقاء القصيدة، حيث ينتظره الشرطي على باب الصحن، وهذا ليس بمستغرب على هذا الشاعر، فقد كان وطنياً حادّ اللسان على السلطة الحاكمة آنذاك، وشعره شاهد على ذلك، فكان يصعد المنصّة وهو يرتدي العباءة والكوفية والعقال فينشد قائلاً:
في يوم مولدك الأغر السامي ----- أصبو إليك بنشوة وغرامِ
وما أن يصل إلى هذا البيت يضجّ المستمعون بالتصفيق والاستعادة:
يتسامرون وما مدامة أُنسهم ----- إلّا عصارة أدمع الأيتام
وكنّا أعضاء الهيئة العلوية نقصد في اليوم الثاني أحد شخصيات المدينة ممّن له ارتباط بالمسؤولين كمدير الشرطة أو معاونه، فنتقدّم بكفالته لدى المركز، والتعهّد بعدم تكراره لهذا التجاوز غير المسموح، فيطلق سراحه بعد يوم أو يومين، ومع ذلك فإنّه يكرّر في مناسبات أُخرى.
وفي سنة 1956م أسّسنا جمعية أدبية باسم (رابطة الفرات الأوسط) هدفها نشر الثقافة في البلد وإقامة الاحتفالات في المناسبات الدينية، ومع كثرة مشاغل سماحة السيّد حسن الشيرازي فإنّه انضمّ إلينا كعضو بارز ومشجّع، وقد استمرّت هذه الجمعية ثلاث سنوات، ولدينا صور تذكارية تمثّل أعضاء الجمعية نشرت بعضها في مجلّة (المرشد) الدمشقية التي يصدرها الأُستاذ الشيخ حسين الفاضلي في العدد الخاصّ بآل الشيرازي.
وموقف آخر أتذكّره أنّ الشهيد السعيد السيّد حسن الشيرازي كان قد أرسل لي قصيدة كتبها بمناسبة مولد أحد الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بيد الصديق المتغمّد بالرحمة العالم السيّد محمّد علي الطبسي (رحمه الله)، وذلك للإطّلاع وإجراء التعديلات عليها إن وجدت، والغرض منها نشرها في مجلّة (ذكريات المعصومين (عليهم السلام)) التي يصدرها في المدرسة السليمية الدينية في كربلاء المقدسة، فكنت أُراجعها وأضع الخطوط تحت بعض الأبيات التي أرى فيها رأياً أو ملاحظة، وكنت أتصوّر أن يحذفها أو يعدّل في صياغتها، ولكنّي أُفاجأ بأن تبقى الأبيات كما هي دون تغيير أو تبديل وذلك بصدور العدد الجديد الذي يحمل القصيدة ذاتها. ولدى التقائي بسماحة السيّد حسن بعد يوم أو يومين بالمدرسة السليمية، أُعاتبه على نشر القصيدة كاملة دون الالتفات إلى ملاحظاتي، فكان يبتسم ويقول لي إنّ الأبيات كلّها سليمة والملاحظات ليست بذات أهمية، ويكرّر هذا الموقف معي مرّة أُخرى أي إنّه يرسل السيّد الطبسي ثانية وثالثة وهو يحمل قصيدة جديدة، أتصوّر أنّ سماحته يقدّر ما أُدوّنه له من ملاحظات ولكنّه من باب (المؤمن مرآة أخيه المؤمن) لينظر ما يمكن إليه من ملاحظات من وجهة نظر أُخرى.
دوره (رحمه الله) في احتفالات (المهرجان العالمي لمولد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام))
أقام الكربلائيون في السنوات 1959 – 1966م المهرجان العالمي في ليلة 13 رجب بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لم يشهد العراق له مثيلاً، شارك فيه كبار الأُدباء العرب أمثال جورج جرداق وسليمان كتاني وروكس بن زائد العزيزي والدكتور مصطفى جواد والسيّد مصطفى جمال الدين والسيّد محمّد جمال الهاشمي والسيّد محمّد الحيدري والشيخ أحمد الوائلي والسيّد حسن الشيرازي وأضرابهم، فكان للسيّد الشهيد السيّد حسن الشيرازي مساهمة كبرى في توعية الجماهير وبثّ الروح الوطنية فيها، يلقي قصائده الحماسية وفيها حملة شعواء ضدّ حزب البعث العميل، وسرعان ما تكهرب الجو وتأزّم الوضع، المهم في الأمر أنّنا نلاحظ القصيدة التي كان يلقيها تهزّ النفوس وتحرّك الضمائر، وكان لها دوي في الأوساط الشعبية، فقد حارب الظالمين الطغاة والنظام البائد في العراق، وقد نالت التأييد والإعجاب من لدن الآلاف المحتشدة في ساحات المدينة وشوارعها. وإليك بعض المقاطع:
فالشعب لا يحميه غير قيادة الـ ----- ـإسلام، خير قيادة وإمامِ
والحكم منهار إذا لم يستلم ----- دستوره من خالق علّام
فالكفر أفيون الشعوب وديننا ----- أمل الشعوب وفوق كلّ نظام
هذا طريق الثائرين لشعبهم ---- وشعار كلّ مجاهد مقدام
* * *
وفي قصيدة أُخرى يحيي بها بطل الإسلام الخالد أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ يطلق صيحاته بوجه حزب البعث العميل فيقول:
والاشتراكيون أضحوا برجوا ----- زيين في جمع الثراء سواءُ
وتعوّدوا أن يسلبوا الثروات ----- والثورات فانتهزوا وهم جبناءُ
داسوا عفاف المحصنات لأنّهم ----- لقطاء لم يعرفهم الآباءُ
وهم الشيوعيون إلّا أنّه ----- زادتهم الأُموية النكراء
لو لم يكونوا ملحدين لما رضوا ----- بالمشركين وفيهم الدخلاءُ
لكنّهم راموا قيادة عفلقٍ ----- إذ لم يكن فيهم لهم أكفّاءُ
أو ليس قد سماه يعرب عفلقاً ----- ولديه أحقاد الصليب دماءُ
وأبوه جاء لسوريا مستعمراً ----- والأُمُّ باريسية عجماءُ
* * *
وجاءت حكومة البعث العميل سنة 1968م فألقت القبض على شاعرنا الكبير آية الله السيد حسن وزجّته في سجن بعقوبة، وقد زاره في السجن العشرات من أصدقائه الكربلائيين وغيرهم، وعندما أُفرج عنه، استُقبل استقبالاً رائعاً في منزله بكربلاء، وراح يقصّ على أصدقائه نوادر لطيفة وحكايات طريفة من تجاربه في التوقيف وفي السجن وما لاقاه من اضطهاد وجور المتزلّفين والمنافقين الذين يحرقون البخور أمام رجال الحكم الجائر، لكن الله لهم بالمرصاد، والويل كلّ الويل للظلمة، والظلم مرتعه وخيم.
نعم، أخذ السيّد حسن يسرد ذكرياته ومواقفه من البعثيين، قال من جملة ما قال: لقد أوقفوني في بغداد ثمّ سفّروني إلى سجن بعقوبة، تصوّر ياأخي ما قاسيته من ظلم وتنكيل في ذلك السجن الذي لا يطاق، أدخلوني في غرفة خاصّة لتعذيب المجرمين بقصد الزجر والإرهاب، وكدتُ أستسلم لليأس من الحياة، وصرت أستقبل الموت، لولا رحمة الله تعالى التي وسعت كلّ شيء، فلم أيأس من رحمته، ورحت أُسبّح الله وأحمده وأستنجد برحمته، ومرّت الأيّام وخرج السيّد حسن من السجن، وكانت أحاديث رائعة وقصص شائقة بعضها يبكي وبعضها يضحك الثكلى. ما أجملها من ذكريات وما أبغضها من مصائب شهدها بأُمّ عينه. كلّ ذلك من أجل الدفاع عن الدين الإسلامي، جهاد لا يضاهيه جهاد، وجرأة وشجاعة كسب بها ثقة المجتمع، ومضى في السبيل الذي اختطّه السيّد حسن لإيمانه العميق بأنّ الظروف التي يجتازها العراق ابّان تلك المرحلة تسبّب له المتاعب، وخوفاً من أن يتعرّض ثانية إلى انتقام شديد، غادر العراق على مضض إلى سوريا ولبنان.
لا ريب في أنّ أهميّة السيّد حسن ظهرت بشكل خاصّ في فترة الستّينات، وكان موضع عناية المعارضة في الخارج، يتسابقون للقاء به، فضاعف ذلك من طموحه، وغدت شهرته تسبقه تنمو وتتّسع يوماً بعد يوم، وهو لا يكلّ ولا يملّ من العمل، وبلغ ذروة سعادته عند اكتماله الحوزة العلمية الزينبية في دمشق الشام التي ما تزال تشعّ بأنوارها على العالم العربي والإسلامي، ثمّ مضى يقيم الصلاة جماعة في الصحن الزينبي. وبباعث من تلك المشاعر التي كانت تتأجّج في صدره، كان يتحسّس بمظلومية، لكنّه ما لبث يتابع بإعجاب بنهضات الأُمم عساه أن يجد الطريق الواضح الذي انتهجته تلك الأُمم سبيلاً يصلح لأُمّته أن تنتهجه، وأخذ يتنقّل بين دمشق وبيروت وسيراليون وساحل العاج وبعض بلدان افريقيا لمواصلة نشاطه الديني والسياسي، لكن السلطات الحاكمة في العراق لم تكن غافلة عمّا يقوم به من دور فاعل في خدمة الدين، لا سيّما وهي تعرف صلاته بالمعارضين العراقيين في الخارج ودوره البارز بينهم، فأحكمت عليه رقابتها، وراحت تترصّد حركاته وسكناته، وتلاحق تنقّلاته حتّى اقترفت جريمتها النكراء يوم 16 / 4 / 1980م حينما كان متوجّهاً لحضور مجلس فاتحة الشهيد سماحة السيّد محمّد باقر الصدر، فاعترضته في الطريق وبالتحديد على شارع البحر وفي طريقه إلى المجلس التأبيني الذي أقامه للشهيد الصدر، وأردته قتيلاً.
لقد كان للسيّد حسن في ساحة العلم المكان المميّز بالحرص والمثابرة وبحكم علاقاته الجيّدة بالجميع، وكان له الفضل في إعلاء كلمة الأُمّة والوطن، فقد خلّف مآثر هيهات أن تنسى على كرور الليالي والأيّام، ولا يمكن أن يسدل الزمن عليها ستار النسيان.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ مناحي الرجل في التأليف تغلب عليها الروح الإسلامية القوية، فقد كان مستقيم العقيدة، متين الديانة، وكان فيه حكمة مضيئة، ونظرة إصلاحية صحيحة لا غبار عليها.
أمّا أُسلوبه في الكتابة، فكان بلغة بسيطة متحرّكة شفّافة وبالمقدرة الفنّية ودقّة الملاحظة والنكتة الأدبية البارعة وسمو الخيال الشعري.
كان السيّد حسن كبيراً في كلامه، في ابتسامته، في نظراته، يفصح عن فكره في أوّل جلسة من جلساته، ولا يخشى في الله لومة لائم، يثق بعد الله بنفسه، وما أكثر ما في سيرة هذا الرجل من مواقف ومحطّات مشرفة وأحداث بارزة وأعمال جليلة، وأصبح أحد أعلام كربلاء المقدسة المشهود لهم بالوثاقة العلمية والأخلاقية وبقي حتّى أيّامه الأخيرة يعطي من ثمار تجاربه، ويتألّق في مهد الوحي، ويرتفع علماً فوق الأعلام، حتّى أعاد لدينا الإسلام نضارتها وشبابها.
أصدقاء الشهيد وأعوانه
الذي أتذكّره أنّ أصدقاءه معظمهم كبار رجال الدين والعلماء الأعلام وخطباء المنبر الحسيني، منهم: العلّامة الشيخ محمّد صادق الكرباسي، والخطيب الشهير الشيخ عبد الزهراء الكعبي، والعلامة الشيخ عبدالحميد المهاجر، وسماحة السيّد محسن الخاتمي والسيّد سعيد زيني والسيّد عبّود الشروفي والسيّد جواد محمّد علي آل طعمة وولده السيّد عبدالرسول والحاج حبيب القهواتي والحاج موسى الحلّاق وغيرهم كثيرون. أمّا رجال الدين فهم أكثر ممّن زاملوه وعرفوه حقّ المعرفة.
كيف استطاع أن يكتب هذه الكتب؟
من أروع ما كتب السيّد الشهيد موسوعة الكلمة (كلمة الله، كلمة الإسلام، كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، كلمة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)) وهكذا بقيّة الأئمّة إلى الإمام المهدي (عليه السلام).
وبالنسبة للشعر ونقد الشعر فلديه دراسات عميقة، وكان رائداً للشعر الحرّ في العراق بالنسبة لرجال الدين، ذلك الشعر الذي يلغي نظام الشطرين، كما كان رائداً في نقد الشعر لا سيّما حين تقرأ كتابه (الأدب الموجّه)، وحبّذا لو يتصدّى أحد المهتمّين بأدب العلماء لطباعة المجموعة الكاملة لأشعاره(7) ليتسنّى للباحثين والمختصّين الحصول عليها ودراستها. وباختصار فإنّ حياة الشهيد صفحة مرصّعة بالدرّ المكنون.
عاش في هذه الدنيا 46 عاماً ملأها بالعلم والتقوى والجد والتحصيل والدأب والتأليف والتصنيف والجهاد في سبيل الله، عرفناه عن كثب، ولمسنا نشاطه ووطنيّته وإخلاصه وتفانيه لخدمة الأُمّة.
تلك هي خواطر عن صاحب القصائد الإسلامية الرنّانة، والعلم الغزير، والقلم السيّال، والبيان العذب.
اضف تعليق