في بلادِ ما بين النَّهرَين شُيِّدت عدَّة حَضارات وليست حَضارة واحدة، والغريب في ذلك هو أَنَّ كلَّ حَضارةٍ قضت على الحَضارة التي قبلها، وفِي بعضِ الأَحيان كانت تَستعين بالأَجنبي لتدمير الحَضارة القائِمة قبلَ أَن تحِلَّ محلَّها حَضارات بلاد ما بَبن النَّهرَين لم تتكامل مع بعضِها...
إِن صحَّ ما قيلَ [يُكرَمُ المرءُ في وُلدهِ] فصحيحٌ كذلكَ قَولنا [تُكرَمُ الحضاراتُ في أَقوامِها].
ولِمناسبة إِدراج بابل الحَضارة والتَّاريخ في قائمة مواقع التُّراث العالمي من قبل منظمة اليُونسكو التَّابعة للأُمم المتَّحدة، وددتُ أَن أُذكِّر بالمُلاحظات التَّالية فقد تنفعُ؛
١/ لا شكَّ أَنَّ القرار الدَّولي هذا مهمٌّ جدّاً والذي توَّجَ بنجاحٍ باهرٍ جهوداً كبيرةً مشكورةً بذلها المسؤُولون في وزارة الثَّقافة والآثار، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ مُتأَخِّراً جدّاً، مُتأَخِّراً عن موعدهِ أَكثر من [٥٠٠٠] سنة [٥٠ عاماً منذُ إِنطلاق برنامج مواقع التُّراث العالمي الذي تبنَّتهُ اليُونسكو في مُؤتمرِها العام المُنعقد في (١٦ تشرين الثَّاني ١٩٧٢)] فبابل التي هي مهدُ الحضارة الإِنسانيَّة على وجهِ البسيطة ما كان ينبغي أَن يتأَخَّر عنها مِثْلُ هذا القرار.
فلقد أَدرجت المُنظَّمة الدوليَّة الْيَوْم بابل بالتَّسلسُل ما بعد الأَلف والمِئة، ولذلك ففيهِ ظلمٌ كبيرٌ لمهدِ الحَضارات التي وردَ إِسمها في كلِّ الكُتُب السَّماويَّة المُقدَّسة.
لا أُريدُ أَن أُحمِّل أَحداً بعينهِ المسؤُوليَّة عن هذا التَّأخير إِلَّا أَنَّني أَعتقد بأَنَّ العراقيِّين كلَّهم مُجتمعِين يتحمَّلون المسؤُوليَّة فالحضارةُ مُلك الشَّعب والتَّاريخ هويَّة الأُمَّة ولا عِلاقةَ بالنُّظم السياسيَّة بالأَمرِ.
ولذلكَ فإِنَّ الإِنجاز الْيَوْم هو إِنجازُ الأُمَّة كلَّها بل الإِنسانيَّة بأَجمعِها لأَنَّ بابل تعبيرٌ عن حَضارة الإِنسان كإِنسان.
٢/ كلُّ الأَقوام التي شيَّدت الحَضارات المُتعاقبة في بلادِ ما بين النَّهرَين منذُ [٨] آلاف سنة إِنقرضت، ولذلكَ فإِنَّ حَضارة هَذِهِ البِلاد تُسمَّى بالحَضارة المُنقطِعة لتمييزها عن بقيَّة الحَضارات الأُخرى التي تُوصف أَو تُسمَّى بالمُتَّصلة كحَضارات بِلاد فارس ومِصر والهند والصِّين.
٣/ هذا يعني أَنَّ [الشُّعوب] الحاليَّة التي تعيش في بلادِ ما بَين النَّهرين لا عِلاقة لها أَبداً بتلكَ الحَضارات والأَقوام التي شيَّدتها سِوى أَنَّها ورِثتها من أَقوامِها التي انقرضَت، كما انقرضَت الدايناصُورات! على العكس من شعوب الحَضارات الأُخرى التي هي إِمتدادٌ للأَقوام التي شيَّدتها.
٤/ ورُبما لهذا السَّبب نلحظ أَنَّ [الشُّعوب] العراقيَّة المُعاصرة لم تهتم كثيراً لا بآثار تلكَ الحَضارات والتي تعرَّضت للتَّدمير المُنظَّم على مرِّ التَّاريخ خاصَّةً منذُ سقوط نظام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين في ٩ نيسان عام ٢٠٠٣ ولحدِّ الآن وعلى وجهِ الخُصوص خلال فترة سيطرة الإرهابيِّين على نصفِ الأَراضي العراقيَّة، ولا في روحِ هَذِهِ الحَضارات وإِنجازاتها الإِنسانيَّة العِملاقة.
٥/ لقد زرتُ العام الماضي آثار بابل الحَضارة والتَّاريخ كما زرتُ أُور وآثارها في مدينة الناصريَّة، ولقد فرحتُ جدّاً بما رأَيتهُ من آثارِ تلك الحَضارات التي تتحدَّث عن إِنجازاتها العِملاقةِ فيفخر بها الإِنسان فضلاً عن العراقي، إِلَّا أَنَّني حزنتُ بشدَّةٍ فلم أَتمالك دمُوعي التي كانت تنهمر بغزارةٍ طِوال مدَّة السَّاعات الطويلة التي قضيتها وأَنا أَتنقَّل بين الآثار والأَطلال مع المُرافقين الخُبراء بالتَّاريخ بسبب ما رأَيتهُ من إِهمال عجيبٍ وتناسٍ غريبٍ لكلِّ تلكَ الآثار التي تحوَّلت في مساحاتٍ واسعةٍ منها إِلى مكبٍّ للنفايات!.
وهذا دليلُ عدم إِعتناء [شعوب] بلاد ما بين النَّهرَين بآثار تلك الحَضارات.
أَمَّا دليلُ عدم إِعتنائِها بروح الحَضارات وجَوهرها، فلا أَعتقدُ أَنَّنا بحاجةٍ إِلى أَن نُثبت ذَلِكَ [فمظهرُنا يُنبِئكَ عن مخبرِنا] كما يَقُولُ المَثل وواقعُنا المَرير يحدِّثنا بصدقٍ عن ذَلِكَ.
٦/ إِنَّ كلَّ الحَضارات، بصفتِها تجارِبَ إِنسانيَّة، توجد في طيَّاتِ تفاصيلِها أَشياءَ سلبيَّة والكثير من الأَشياء الإِيجابيَّة!.
للأَسف الشَّديد فإِنَّنا في بلادِ ما بين النَّهرَين لازلنا نأخُذ الجوانب السلبيَّة من حضاراتِنا، مثل عِبادة الشخصيَّة وتأليهِ الحاكِم، وأَهملنا في سلوكيَّاتِنا وأَسقطنا من ثقافاتِنا الجوانب الإِيجابيَّة!.
مثلاً؛ فإِنَّ حضاراتَنا علَّمت البشريَّة الكِتابة ولقد كان من أَهمِّ القوانين في عهدِ الحَضارة البابليَّة هو أَنَّ الموظَّف الحكومي يلزم أَن يكونَ مُتعلِّماً ويعرف القِراءة والكِتابة.
كما أَنَّ حضارة بابل زراعيَّة ١٠٠٪.
وهي التي علَّمت البشريَّة طُرُق الرَّي والتَّخزين.
وكان القانون هو الحاكِم.
أَمَّا الْيَوْم فإِنَّ عكسَ ذَلِكَ هو الذي يحكُم واقعنا.
٧/ المُلاحظة الخطيرة التي تُثير الإِهتمام والفضُول هي أَنَّهُ في بلادِ ما بين النَّهرَين شُيِّدت عدَّة حَضارات وليست حَضارة واحدة، والغريب في ذلك هو أَنَّ كلَّ حَضارةٍ قضت على الحَضارة التي قبلها، وفِي بعضِ الأَحيان كانت تَستعين بالأَجنبي لتدمير الحَضارة القائِمة قبلَ أَن تحِلَّ محلَّها!.
بمعنى آخر؛ أَنَّ حَضارات بلاد ما بَبن النَّهرَين لم تتكامل مع بعضِها وإِنَّما كانت كلَّ واحدةٍ منها تُشيِّد نفسها بنفسِها فلا تجد إِحداها نفسها إِلَّا بتدميرِ أُختها!.
ومنذ ذلك الْيَوْم وإِلى الآن فإِنَّ صِراع الحَضارات والنُّظم السياسيَّة قائمٌ في بلادِ ما بَين النَّهرَين ولذلك لم يتراكم عندنا شيءٌ أَبداً، لا الحَضارة ولا الخِبرة والتَّجربة ولا البناء والمدنيَّة والنُّهوض ولا النِّظام السِّياسي!.
هذا أَمرٌ ينبغي أَن نتوقَّف عندهُ كثيراً لندرسهُ دراسةً مُعمَّقةً وحقيقيَّةً بعيداً عن المُجاملات والشِّعارات والأَوهام والفَخر الكاذِب والمُضلِّل، حتى نوقفَ هَذِهِ المهزلة ولا تستمرَّ عليها الأَجيال القادِمة!.
وبرأيي وبعجالةٍ فإِنَّ السَّبب الرَّئيسي لهذهِ الظَّاهرة الفريدة من نوعِها هو عدم قُدرة سُكَّان بلاد ما بين النَّهرَين على التَّعايش مع بعضهِم، لأَنَّهم لا يعترفُونَ بالتنوُّع ولذلك نُلاحظ أَنَّ الصِّراعات الداخليَّة الأَزليَّة مُستدامة وهي السِّمة التي تتَّصف بها [شعُوب] هذه الأَرض!.
كما أَنَّ الطَّبيعة العُنفيَّة والتشدُّد حدِّ التزمُّت الذي تتَّصف بهِ شخصيَّة المُواطن في بلادِ ما بَين النَّهرَين سببٌ مهمٌّ بهذا الصَّدد.
حتَّى اليَهود الذين عاشُوا على هَذِهِ الأَرض أَكثر من [٢٥٠٠] سنة وكتبُوا فيها توراتهُم بنُسختِها المُعتمدة لحدِّ الْيَوْم والذين كانَ لهم الدَّور الأَبرز والمِفصلي في تأسيس الدَّولة العراقيَّة الحديثة عام ١٩٢٠، تمَّ طردهُم منها عن بِكرَةِ أَبيهم، بعدَ أَن كانُوا يشكِّلون الأَغلبيَّة في العديدِ من المُدُن والبلدات مثل زاخو في أَقصى شِمال البِلاد.
أَمَّا الآشوريُّون والكِلدان الذين نتغنَّى الْيَوْم بحضاراتهِم فقد تعرَّضُوا إِلى ظُلمٍ كبيرٍ إِضطرَّهم إِلى هجرة أَرض الأَجداد وكادُوا أَن ينقرضُوا فيها كذلكَ، فيما كان ينبغي أَن يُكرمُوا كرامةً للحَضارات العظيمة التي بنَوها!.
وهذهِ واحدةٌ من تناقُضاتِ هَذِهِ الأَرض؛ تُكرِّم الحِجارة وتقطع اليدِ التي شيَّدتها والإِنسان الذي رعاها!.
٨/ وأَخيراً؛ فإِذا أَردت أَن تعرف مدى وعي الشَّعب، أَيَّ شعبٍ، لحَضارتهِ وروحها وقِيَمها، وحجم اهتمامهِ بها واحتضانهِ لها فانظر إِلى حجمِ الإِضافات التي يُضيفَها كلَّ جيلٍ من الأَجيال.
فالشُّعوب الحضاريَّة هي التي تتغنَّى بالتَّاريخ وتُضيفُ عليهِ فلا تتوقَّف عندهُ، أَمَّا الشُّعوب غير الحضاريَّة فتتغنَّى كذلكَ بتاريخِها ولكنَّها تتوقَّف عندهُ فلا تُضيفُ لهُ شيئاً أَبداً، وقد تأكلُ من جُرفهِ!.
العراقيُّون أَكثر شعُوب العالَم تداوُلاً لمُصطلح [العهدِ البائِد] فكلُّ جيلٍ هُوَ [عهدٌ بائِدٌ] للجيلِ الذي يليه!.
...والى متى؟!.
اضف تعليق