الشيء اللافت في الانتخابات الاخيرة والذي يجب أن يتوقف عنده الكثيرون بالتحليل، هو إن القوى (الاسلامية) تحركت على العمق الاجتماعي، ودعت شخصيات كثيرة من خلفيات عسكرية وموظفين كبارا ووجهاء ليكونوا ضمن مرشحيهم، أي إن الإسلاميين تحركوا صوب القوى المدنية، التي لم تكن معهم سابقا سواء قبل 2003 أو بعده ولوقت قريب...

في عقود ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي، كانت ثنائية (اليسار – اليمين) مهيمنة على الحوارات السياسية للعراقيين، ومعروف أن لكلا المصطلحين دلالة متعارضة تماما مع المصطلح الآخر، فاليسار كما استقر في اذهان الكثيرين، يعني التقدمية والاشتراكية وغيرها من الصفات (الحميدة)، بينما يعني اليمين، التخلف والرجعية والظلم والاقطاع وغيرها!

خفّ حضور هذه الثنائية في حواراتنا منذ مطلع التسعينات، أو بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ودخلت مصطلحات جديدة إلى قاموس حواراتنا، التي لا تخلو بطبيعتها من انفعال وحدّة، ومن ابرز ما صرنا نسمعه عبارات مثل (الديمقراطية) و(حقوق الانسان) و(التعددية) وغيرها، وهذه جميعها أتت بخلفيتها السياسية (الليبرالية)، التي يتبناها المعسكر الغربي ويعمل عليها منذ قرون، والذي كان يوصف سابقا باليميني! وهكذا صار الكثيرون من (اليساريين) العراقيين وغير العراقيين يتغنون بهذه المصطلحات الجديدة، ويعدّونها معيارا لتقييم أي نظام في العالم ويتطلعون إلى اقامة نظام ليبرالي في العراق.

وللموضوعية نستطيع القول، إن بعضهم انضجتهم التجربة الحياتية والسياسية وصاروا يرون تحقق الخلاص يكمن في استيعاب جميع الأفكار، مهما كانت متعارضة، داخل الميدان السياسي للدولة، بدلا من اسلوب الاقصاء الذي تعتمده الانظمة الشمولية عادة، والذي انتهى إلى نتائج مؤذية واحيانا كارثية في البلدان التي اقيمت فيها. وفي المقابل هناك من ركب الموجة، وصار يتحدث بالليبرالية والديمقراطية من دون ان يتخلص من طريقته القديمة في الطرح أو في التعامل مع الاخرين، أي إنها صارت لهؤلاء شعارا جديدا بعد أن تخلّوا عن القديم وبالحماسة نفسها!

مع طول الجدل بشأن شكل الحكم في عراق ما بعد 2003 وصلنا إلى ثنائية جديدة تتمثل بـ(المدنيين – الاسلاميين)! وهذه حين نحللها نجدها عبارة ساذجة، مع انها في اذهان حامليها تنطوي على حمولة تعبّر عن تطلعات متعارضة لكلا الطرفين الرافعين لهذين الشعارين أو المصطلحين، فالدولة المدنيّة لا تضيق بطريقة حياة أي انسان يعتنق الفكر الذي يراه مناسبا، بل إن من سمات الحياة المدنيّة في أي بلد هي استيعاب جميع المتناقضات، ومنها بالتأكيد المتدينين والملحدين معا، وإن إنكار المدنيّة على حامل الافكار الاسلامية، يعد تعسفا كبيرا، اذا كان هذا لا يريد اقامة دولة شمولية مغلقة على افكاره. في المقابل ان الدعوة إلى الدولة المدنيّة لا تعني الرغبة في اشاعة الانحلال الاخلاقي، كما يفهمها بعض الإسلاميين ويروجون لها بقصد التشويه والتسقيط. ومن هذه البوابة وجدنا أنفسنا في جدل طويل عنوانه (الصراع بين المدنيين والاسلاميين) وفي الحقيقة لا المدني الحقيقي ضد الاسلامي، ولا الإسلامي الذي لا يريد إقامة دولة عقائدية ضد المدنيّة.

الانتخابات الاخيرة شهدت جدلا كبيرا محوره الصراع بين المدنيين والاسلاميين، ولعل هذا كان حاضرا في انتخابات العام 2021 التي جاءت في اعقاب ثورة تشرين وكانت من افرازاتها، بوصفها انتخابات مبكرة أتت تلبية لمطالب الثوار الذين يمثلون في اغلبهم ما يوصف بـ(التيار المدني)، علما أن بينهم (اسلاميين) كثيرين ايضا، وهؤلاء يتمثل مطلبهم بدولة تحترم الخيارات الثقافية العامة والشخصية للجميع وتتصدى للفساد، لكن الذي حصل هو أن التشرينيين بدلا من أن يشكلوا قائمة ويدخلوا الانتخابات بشعارهم هذا، اختاروا المقاطعة وتركوا الساحة لمن ثاروا عليهم، بل راح بعضهم يروج للمقاطعة ويخوّن من يشارك في الانتخابات من التشرينيين، الذين اجتهدوا ودخلوا سواء بقوائم صغيرة أو بوصفهم مستقلين، وكنتيجة لهذه المقاطعة الواسعة تقدمت القوى المنافسة واكتسحت مقاعد مجلس النواب، بينما بقي المقاطعون والمروجون يتوزعون مساءات المقاهي ويشتمون الواقع الذي لم يتغير! وحجتهم هو قانون الانتخابات غير مناسب وأسباب اخرى، يمكن أن يضعوا حدا لها أو التأثير في تغييرها، اذا ما أصبحوا قوة لها ثقلها في مجلس النواب، أو هكذا كان الكثيرون يتوقعون في حال دخول التشرينيين انتخابات 2021، لأن جمهورهم واسع وحرارة الثورة في صدورهم وصدور المتعاطفين معهم.

لقد كانت مقاطعة انتخابات العام 2021 درسا بليغا لكن للأسف لم يقرأه كثيرون من الراغبين في التغيير في انتخابات 2025، فبعد مرور أربع سنوات يكرر الذين يسمّون أنفسهم بالمدنيين، الخطأ نفسه ويقاطعون الانتخابات ويروجون للمقاطعة ما تسبب بشكل كبير في تخلف نحو 18 مليون ناخب عن التصويت.

الشيء اللافت في الانتخابات الاخيرة والذي يجب أن يتوقف عنده الكثيرون بالتحليل، هو إن القوى (الاسلامية) تحركت على العمق الاجتماعي، ودعت شخصيات كثيرة من خلفيات عسكرية وموظفين كبارا ووجهاء ليكونوا ضمن مرشحيهم، أي إن الإسلاميين تحركوا صوب القوى المدنية، التي لم تكن معهم سابقا سواء قبل 2003 أو بعده ولوقت قريب، وقد كان من نتائج ذلك أن الذين انتخبوا هؤلاء هم في معظمهم من جمهور المدنيين، وبذلك حصدت القوى التي يراها (المدنيون) اسلامية وتسعى لإقصاء التيار المدني اغلبية مقاعدها من خلال هؤلاء (المدنيين)! لتتحقق مفارقة غير مسبوقة. 

الخلاصة، هي أن السياسة فن التعامل مع معطيات اللحظة، كما نرى، وأن المقاطعة وغياب القراءة الواقعية والفرزنة الدقيقة هي من جعلت القوى، التي تحمل شعار (الدولة المدنية) تخسر الانتخابات، وليس هناك سببٌ آخر!.

اضف تعليق