العقل لا يتطور صدفة، ولا تُبنى الشخصيَّة القويَّة بالعاطفة وحدها، ولا تُنتج العقول أفكارًا ناضجة في بيئة مشتتة أو من مصدر واحد؛ وإنَّما القراءة هي البذرة، والتَّحقيق هو الغربال، وتنوع المصادر هو الماء، وأمَّا التَّركيز فهو أشعة الشَّمس التي تمنح الفكرة نضجها وقوَّتها. من أراد عقلًا حُرًا، وفكرًا ناضجًا...

في عالمٍ يضجُّ بالمعلومة، لا يُمنَح التَّفوّق لمن يعرف أكثر؛ وإنَّما لمن يفكِّر بعمق، ويتحرَّك بوعي، ويختار مصادره بعناية، ويمنح أفكاره حقَّها من التَّركيز والنُّضج.

لقد تحوَّلت المعرفة من كنز نادر إلى طوفان جارف؛ لكن العقول الواعية وحدها قادرة على التَّمييز بين الوميض الخادع والنُّور الحقيقي. فلا تكفي سرعة الوصول إلى المعلومة، إن لم نكن نُحسن قراءتها، ولا يكفينا حفظها إن لم نُحسن التَّحقيق فيها، ولا يُغني تكرارها ما لم نُحسن التَّنوّع في مصادرها، ولا تثمر فكرة إن لم نُحسن التَّركيز عليها حتَّى تنضج وتؤتي أُكُلها.

ها هو دربُ صياغة الذَّات وتشييد الفكر... مسارٌ ينطلق من كتاب، ويحييه السُّؤال، وتغنيه المصادر، ويزهو بالتَّركيز.

فهل أعددت نفسك لخوض هذه الرِّحلة؟

كي تكتشف خباياها؛ فإن كنت كذلك، فلنشرع بكشفها سرًّا تلو سر:

السر الأوَّل: القـــراءة والمطالعـــة.

القراءة والمطالعة تفتح آفاقًا واسعةً؛ إذ تشاركُ من خلالها عقولَ الآخرين؛ فالكتابُ هو جزءٌ من عقل إنسانٍ آخر، يعبر بوجوده الكتبي عن وجوده العقلي الذي تجسَّد في تلك الكلمات، وحينما نقرأ فإننا في الحقيقة نشارك الآخرين في أفكارهم وعقولهم، وهذا يفتح أمامنا آفاقًا لا حصرَ لها.

إنَّ القراءة والمطالعة تشكِّل جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان الطَّموح؛ فهي النَّافذة التي يطل من خلالها على عوالم مختلفة من المعرفة والحكمة. كما أنَّها تعمل على توسيع مدارك الإنسان وتزويده بالمعرفة، ويتعدَّى ذلك إلى بناء فكره ونضج أفكاره وتطوير قدراته العقليَّة على مستويات متعدِّدة؛ لأنَّ القراءة تغذِّي العقلَ بمعلومات متنوعة، ممَّا يساعد على تنمية الوعي والإدراك لدى الإنسان، وعندما ينخرط الفرد في القراءة، فإنَّه يدخل في تفاعل مع الأفكار والمعارف المطروحة في النُّصوص التي يقرأها، وهذا التَّفاعل ينتهي إلى تحفيز العقل على التَّفكير النَّقدي والتَّحليلي، ممَّا يمكِّن الفرد من فحص وتحليل المعلومات المطروحة، والتَّفكير في مضمونها من زوايا متعددة، ومع مرور الوقت تتراكم هذه المهارات الفكريَّة لتشكِّل ركيزة أساسيَّة لنضج الأفكار وقدرة العقل على التَّعامل مع المفاهيم المعقَّدة بمرونة وكفاءة.

إلى جانب ذلك، فإنَّ القراءة تشارك في تحسين القدرة على التَّركيز والانتباه، وهذا التَّدريب المستمر على التَّركيز والانتباه يزيد من قدرة العقل على التَّعامل مع المعلومات بشكل فعَّال، ويساعد على تحسين أداءِ العقل في مهام أخرى. 

ومع زيادة القراءة، يصبح الفرد أكثر قدرة على التَّعبير عن أفكاره بوضوح ودقَّة، سواء في الكتابة أو في التَّحدث، وهذا التَّحسن في مهارات التَّواصل يرفع من قدرة الفرد على التَّعامل بشكل فعَّال مع الآخرين، سواء في الحياة الشَّخصيَّة أو المهنيَّة أو الاجتماعيَّة.

في عالمنا الحديث؛ الذي يمتلئ بالضُّغوط والإجهاد، يمكن أن تكون القراءة وسيلة للتخلص المؤقت من الواقع والدخول في عالم مختلف، وهذا يساعد العقل على الاسترخاء، ويتيح له فرصة للراحة والتَّجدد؛ لأنَّ القراءة توفر للعقل مساحة للتَّركيز على شيءٍ مختلف بعيدًا عن المشاكل والضُّغوط اليوميَّة، ممَّا يمكِّنه من العودة إلى الواقع بنظرة أكثر إيجابيَّة.

لقد منح الإسلامُ القراءةَ مكانةً سامية، وجعلها مفتاحًا للوعي وبابًا للفلاح، حتَّى كانت أوَّل كلمة خوطب بها النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) من السَّماء أمرًا بالقراءة؛ إذ قال (تعالى): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(1)، وفي هذه الكلمات الأولى من الوحي، يتجلَّى نداء السَّماء إلى الأرض بضرورة أن تكون المعرفة نقطة البداية، وأن يكون الكتاب سُلَّم الارتقاء، والعلم طريق النُّهوض بالحضارة وبناء المجتمعات؛ ولأنَّ القراءة في بعض صورها عبادة تُزكِّي النَّفس وتُنير البصيرة، جاءت النُّصوص الشَّريفة لتؤكِّد على فضل القراءة في المصحف نظرًا، فقد روي عن الإمام جعفر الصَّادق (عليه السلام) قوله: "مَنْ قَرَأَ الْمُصْحَفِ نَظَراً مُتِّعَ بِبَصَرِهِ وَخُفِّفَ عَلَى وَالِدَيْهِ، لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَشَدَّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ نَظَرًا"(2). وهنا تمتزج بركة الحرف بصفاء العين، لتتحوَّل القراءة إلى نور يملأ البصر، ويخفِّف الأوزار، ويقهر الشَّيطان.

وكما اهتمَّ الإسلام بعمارة العقل بالقراءة، فقد أولى التَّفقه في الدِّين منزلة عظيمة، حتَّى خصَّ يوم الجمعة بكونه فرصة للتزوّد من الفقه بمعناه الواسع؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): أُفٍّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لاَ يَجْعَلُ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ يَوْماً يَتَفَقَّهُ فِيهِ أَمْرَ دِينِهِ وَيَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ" (3). وهكذا تلتقي القراءة بالفقه في مسار واحد؛ مسارٍ يصوغ شخصيَّة المؤمن الواعي، الذي يجمع بين نور المعرفة ونور الهداية، ليكون لبنة صلبة في بناء الأمَّة ورسالتها.

السر الثَّاني: التحقيق في المعلومة.

في حياتنا اليوميَّة، نواجه الكثيرَ من المواقف التي تتطلَّب منَّا اتِّخاذ قرارات بناءً على معلومات معيَّنة، وغالبًا ما نقبل هذه الأمور كما هي دون أن نتساءل أو نحقق في دقَّتها، وقد يكون ذلك نتيجة للعادة أو الثِّقة في المصادر التي تقدِّم لنا هذه المعلومات؛ أو ربما لأننا لا نمتلك الوقت أو القدرة على التَّحقق، ولكن مع ازدياد كميَّة المعلومات التي نتعرَّض لها يوميًا، يصبح من الضَّروري أن نتعلَّم كيفيَّة التَّعامل معها بذكاء ونقد، وألَّا نقبلها بلا تحقيق. وهنا يبرز دور التَّفكير النَّقدي والتَّحقيق كأداتينِ أساسيتينَِ لحماية أنفسنا من الوقوع في فخاخ التَّضليل وسوء الفهم، وأمَّا قبول الأمور كما هي من غير تحقيق قد يقودنا إلى تكوين معتقدات وأفكار خاطئة تؤثِّر بشكلٍ سلبي على حياتنا وقراراتنا، وفي بعض الأحيان، يمكن أن ينتهي عدم التَّحقيق إلى تبني مواقف أو اتِّخاذ قرارات قد تكون لها تأثيرات سلبيَّة على النَّفس وعلى الآخرين وعلى المجتمع بشكل عام.

ويُعرف التَّفكير النَّقدي بأنَّه القدرة على تحليل المعلومات والادِّعاءات بدقَّة، والتَّأكد من صحَّتها قبل تبنيها؛ وطريق ذلك عندما نتعامل مع معلومةٍ أو موقفٍ ما، علينا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة الضروريَّة:

 ما هو مصدر هذه المعلومة؟

 وهل يمكن الاعتماد عليه؟

 وهل هناك أدلة تدعم هذه الادعاءات؟

 علينا أن ندرك أنَّ الكثير من المعلومات التي نتلقاها قد تكون غير دقيقة أو مغلوطة؛ ففي عصر التّكنولوجيا الحديثة أصبح من السَّهل نشر المعلومات بسرعة؛ ولكن منْ يدقق سيجد أنَّ العديد من المعلومات المتداولة عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي قد تكون مضللة؛ لذا، يصبح التَّحقيق في صحَّة المعلومات أمرًا ضروريًا للحفاظ على سلامة عقولنا ومعرفتنا. وينبغي الالتفات إلى أنَّ التَّحقيق عمليَّة تتطلَّب الصَّبر والجهد؛ ففي بعض الأحيان، قد يستغرق التَّحقيق وقتًا وجهدًا كبيرينِ، خصوصًا إذا كانت المعلومات معقَّدة أو متشابكة، لكن هذا الجهد لا يذهب سدىً، فهو يمنعنا من الوقوع في الأخطاء أو اتِّخاذ قرارات غير مدروسة، كما يساند التَّحقيق قدرتنا على فهم الأمور بشكل أفضل، ويمنحنا الثِّقة في صحَّة ما نؤمن به.

لا يعني التَّحقيق دائمًا السَّعي وراء الحقيقة المطلقة، ويمكن أن يكون وسيلة لفهم الأمور بعمق ودقَّة أكبر؛ فأحيانًا قد لا نصل إلى اليقين التَّام، لكن يمكننا تقليل الشُّكوك وتحسين مستوى الفهم، وهذا بحدِّ ذاته يمثِّل تقدمًا مهمًا.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم التَّحقيق في تطوير مهاراتنا العقليَّة وقدرتنا على التَّفكير النَّقدي والتَّحليلي، وعندما نتعلَّم كيف نحقق في المعلومات ونفكِّر بشكلٍ نقدي، نصبح أكثر قدرة على التَّعامل مع التَّعقيدات والاختلافات في الحياة، وهذا بدوره يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة المواقف الصَّعبة وتبني الأحكام الصَّائبة في ظلِّ ظروف عدم اليقين.

قد نشعر في بعض الأحيان بالضَّغط الاجتماعي لقبول الأمور كما هي من غير تحقيق، وقد نواجه ضغوطًا من الأصدقاء أو الزُّملاء أو حتَّى من المجتمع لتبني مواقف معيَّنة أو قبول معلومات مع عدم التَّشكيك فيها؛ لكن من المهم أن نتذكَّر أنَّ التَّفكير النَّقدي والتَّحقيق هما جزء من مسؤوليتنا الفرديَّة، ويجب أن نكون مستعدين لمواجهة هذه الضُّغوط والدِّفاع عن حقِّنا في التَّساؤل؛ فإننا حينما نقبل الأمور كما هي، نسمح للآخرين بالتَّأثير على أفكارنا ومعتقداتنا، وهذا التَّأثير قد يكون إيجابيًا في بعض الأحيان؛ لكنه قد يكون سلبيًا في أحيان أخرى.

نعم، ليس المطلوب أن نشكك في كلِّ شيءٍ باستمرار؛ فهناك أمور تستحق الثِّقة والتَّبني، حتَّى وإن لم نحقق فيها، خصوصًا إذا كانت مدعومة بأدلة قويَّة وموثوقة؛ ولكن في نفس الوقت، ينبغي أن نكون دائمًا مستعدين للتحقيق والتَّساؤل عندما تظهر معلومات جديدة أو عندما نشعر بالشَّك.

السر الثَّالث: خطورة الاعتماد على مصدر واحد.

في عصر المعلومات الذي نعيش فيه اليوم، أصبح الوصولُ إلى المعرفة أمرًا سهلًا وسريعًا بفضل الإنترنت والتّكنولوجيا الحديثة؛ إذ يمكن لأيّ شخص الوصول إلى كمٍ هائل من المعلومات في غضون ثوانٍ قليلة من خلال البحث على محركات البحث أو زيارة مواقع التَّواصل الاجتماعي، ومع ذلك، يواجه المستخدمون صعوبات كبيرة في التَّمييز بين المعلومات الصَّحيحة والمغلوطة؛ إذ يمكن لأيّ شخص نشر معلومات من دون رقابة أو تحقق من صحتها، ومن هنا تنبع أهميَّة التَّحقق من المعلومات من خلال مصادر متعدِّدة وعدم الاعتماد على مصدر واحد فقط.

قد نقع في فخ الاعتماد على المصدر الأوَّل الذي يظهر لنا عندما نبحث عن المعلومة. وهذا المصدر قد يكون موثوقًا وقد يكون غير دقيق؛ لذا، من الضَّروري أن نتأكد من صحَّة المعلومة عن طريق الرُّجوع إلى مصادر أخرى، والتَّحقق من المعلومة؛ وهذا يوفِّر لنا منظورًا أكثر شمولًا ويساعد على تقليل احتمالية الوقوع في الخطأ أو التَّلاعب بالمعلومات.

إنَّ تعدد المصادر يساعد في تأكيد المعلومة، ويعطينا أيضًا فهمًا أعمق للموضوع، وعلى سبيل المثال، إذا كنت تبحث عن معلومات حول حدث تاريخي معيَّن، فإنَّ قراءة تقارير أو مقالات من زوايا مختلفة يساعدك في تكوين صورة كاملة ودقيقة لهذا الحدث؛ فبعض المصادر قد تقدِّم تفاصيل غائبة، أو قد تقدِّم تحليلًا أو تفسيرًا مختلفًا يمكن أن يضيف إلى معرفتك وفهمك للموضوع؛ ولذلك من أكبر المخاطر التي نواجهها اليوم هو انتشار المعلومات المضللة أو الأخبار الكاذبة؛ ومع أنَّ الأخبار الزَّائفة والمعلومات المضللة ليست مشكلة جديدة؛ لكنها أصبحت أكثر انتشارًا في العصر الرَّقمي؛ فكثيرٌ من النّاس يشاركون المعلومات عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي؛ ولكنهم لم يتعبوا أنفسهم في التَّحقق من صحتها، وهذا يمكن أن يسفر عن انتشار واسع للمعلومات الخاطئة؛ وفي بعض الأحيان، قد تكون هذه المعلومات ضارَّة بشكلٍ كبيرٍ، خاصَّة إذا كانت تتعلَّق بدين الإنسان وصحَّته أو السِّياسة التي تحكمه.

والأمثلة على ذلك كثيرة خاصَّة في مواسم الانتخابات التي تحدد مصير الشُّعوب؛ في الوقت الذي تنتشر الكثير من الأخبار الكاذبة على وسائل التَّواصل الاجتماعي، وهذه الأخبار تشارك في تشكيل الرَّأي العام بطريقة أو بأخرى، وبعض هذه الأخبار من الصَّعب التَّحقق من صحَّتها إذا اعتمد الشَّخص على مصدر واحد فقط، ولكن عند البحث عن نفس الموضوع في مصادر أخرى من الممكن اكتشاف التَّناقضات وفهم الحقيقة بشكلٍ أفضل.

ومثال آخر يمكننا النَّظر إليه هو مرض (كورونا جائحة كوفيد-19)؛ إذ انتشرت في بداية الجائحة الكثير من الشَّائعات والمعلومات الخاطئة حول الفيروس وكيفيَّة انتقاله والعلاج منه، والعديد من الأشخاص الذين اعتمدوا على مصادر وحيدة، سواء كانت وسائل التَّواصل الاجتماعي أو مواقع غير موثوقة، قد تأثَّروا بتلك المعلومات ممَّا أدَّى إلى تصرفات غير مناسبة أو حتَّى ضارة.

كيف نتحقق من صحَّة المعلومات؟

التَّحقق من المعلومات يتطلَّب بعض الجهد والصَّبر؛ وهذه بعض الخطوات التي يمكن اتِّباعها للتَّأكد من صحَّة المعلومة:

1. البحث عن مصادر متعددة: عندما تواجه معلومة ما، لا تكتفِ بها عند المصدر الأوَّل الذي وجدتها فيه، وإنَّما ابحث عن نفس المعلومة في مصادر (متعدِّدة) و(موثوقة). ووجود المعلومة متكررة وموثوقة عبر مصادر مختلفة يقوي احتمال صحَّتها ودقَّتها، ويمنحك ثقة أكبر في قبولها. وبهذا الأسلوب، تبني قاعدة معرفيَّة متينة، وتتجنب الوقوع في فخ المعلومات المغلوطة أو غير المؤكَّدة.

2. التَّأكد من مصداقية المصدر: قبل أن تثق بأيِّ معلومة، من الضَّروري أن تتحقَّق من مصدرها بدقَّة، وتتأكَّد إذا كان الموقع أو الكاتب يتمتع بسمعة جيِّدة وموثوقيَّة في تقديم معلومات دقيقة. كما ينبغي أن يكون المصدر معترفًا به في مجاله، ممَّا يدعم مصداقيته ويمنحك الطَّمأنينة بأنَّك تعتمد على بيانات صحيحة، تعينك على فهم الأمور بشكلٍ أفضل.

3. مراجعة التَّواريخ: احرص دائمًا على التَّأكد أنَّ المعلومات التي تعتمد عليها حديثة ومُحدَّثة؛ فالكثير من المعارف والبيانات قد تكون صحيحة في زمنٍ؛ لكنها مع مرور الوقت قد تفقد دقَّتها أو تفقد صلتها بالواقع الذي تعيشه؛ لذا، يبقى التَّحقق من تاريخ المعلومة وسياقها الزَّمني أمرًا ضروريًا لضمان صحَّتها وملاءمتها.

4. الانتباه للتَّحيزات: بعض المصادر قد تكون متحيزة لأجندة معيَّنة؛ سواء كانت سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو تجاريَّة؛ لذلك، من المهم أن تكون حذرًا من هذه التَّحيزات وأن تحاول الحصول على المعلومات من مصادر مختلفة لتعويض هذا التَّحيز.

وباتباع الخطوات التي تمَّ عرضها، نتمكَّن من بناء قاعدة معرفيَّة صلبة تعتمد على مصادر متنوعة وموثوقة. ومن الضَّروري أن نكون دائمًا يقظين في اختيار المصادر، مع مراعاة تحديثها في ظلِّ التَّغيرات المتسارعة. وبهذه الطَّريقة، نستطيع الوصول إلى فهم أعمق وأكثر دقَّة للواقع.

السر الرَّابع: التركيز على الفكرة.

عندما يركِّز الإنسان على فكرةٍ، فإنَّه يمنحها كلَّ اهتمامهِ، ويعمل بجد على تطويرها وتحقيقها، وهذا التَّركيزُ يشبه العدسة المكبرة التي تجمع أشعة الشَّمسِ في نقطةٍ واحدةٍ، فتتحوَّل إلى طاقةٍ مركزةٍ قادرةٍ على إشعال النَّار.

ولأجل بيان قيمة هذه النقطة، دعنا نتأمَّل في الشَّخصيات التاريخيَّة أو المعاصرة التي حققت نجاحات بارزة. سنلاحظ أنَّ جميعهم كان لديهم قدرة استثنائيَّة على التَّركيز، وبعد ذلك استطاعوا أن يقدِّموا للعالم نظريات عظيمة بفضل تركيزهم العميق على أفكارهم.

وهنا يبرز هذا التَّساؤل: ما هي العوامل التي تساعدنا في عمليَّة التَّركيز على الفكرة؟

والإجابة على ذلك تكمن في مجموعة من العوامل؛ أبرزها:

1. يشكِّل الإصرار جسرًا قويًا يعبر بنا نحو النَّجاح الحقيقي؛ فهو الرَّكيزة الجوهريَّة التي لا غنى عنها في رحلة التَّميُّز؛ لأنَّ العلاقة بين التَّركيز والإصرار متينة وعميقة؛ فالأفكار العظيمة لا تنمو في عقول مشتَّتة أو متسرعة؛ وإنَّما في عقول تغوص في التَّفاصيل وتتأمَّل الموضوع بتمعّن. وحينها تبدأ الرؤى الجديدة في التكوّن والوضوح، فتصبح تلك الأفكار التي بدت في البداية مستحيلة أو بعيدة المنال إلى تصوّرات واضحة، قابلة للتحقيق والتَّنفيذ.

2. التَّدريب المستمر، والممارسة المتأنية، والانضباط الصَّارم، إلى جانب التَّخطيط الدقيق للأوقات والمهام، كلها عوامل تساند القدرة على التَّركيز؛ فهذه العادات تمكِّن من مواجهة التَّشتت والمشتتات، ليصل إلى حالة ذهنيَّة متجدِّدة، تسهِّل عليه الإنجاز والإبداع بثبات وفعَّاليَّة.

3. تلعب البيئة المحيطة دورًا محوريًا في مضاعفة التَّركيز؛ فالمكان الهادئ والخالي من الضوضاء يُشكِّل بيئة خصبة للعقل لينمو ويتألق، كما أنَّ اختيار الوقت الأمثل للعمل يرفع من جودة التَّركيز ويزيد من مستوى الإنتاجيَّة بشكل ملحوظ، ممَّا يجعل الجهد المبذول أكثر فاعلية وتأثيرًا.

4. العناية بالصحَّة الجسديَّة والعقليَّة، لا تقلُّ أهميةً عن العوامل السَّابقة، وتشكّل حجر الزَّاوية في رفع مستوى التَّركيز؛ فالنوم الجيِّد والتَّغذيَّة السَّليمة، إلى جانب الاهتمام بالصحَّة النَّفسيَّة، عناصر متكاملة تساند بعضها البعض، وتمنح الإنسان القدرة على التَّركيز العميق والإبداع المستمر.

5. الحبُّ والرَّغبة في الموضوع يمثِّلان وقود التَّركيز الحقيقي؛ فإذا لم نكن نمتلك حبًّا للفكرة أو لا نشعر بالرَّغبة اتِّجاهها، فلن نستطيع التَّركيز عليها بفعَّالية. وأمَّا إذا أحببنا الفكرة واشتدَّت رغبتنا في فهمها وتحقيقها، فإنَّ التَّركيز عليها يصبح أمرًا طبيعيًا وسلسًا؛ ولهذا السَّبب، حاول أن تقرأ عن كلِّ فكرة ترتبط بحياتك بتدبر، واستمع لما يقال عنها بانتباه، وتأمَّل في فضائلها وآثارها العميقة. وعندما تنشأ في قلبك المحبَّة لها، ستجد نفسك قادرًا على التَّركيز بعمق، ممَّا يفتح أمامك آفاقًا جديدة من الإبداع والإنجاز.

حقائق ثمينة تستحق التأمل:

 الحقيقة الأولى: عندما يعتاد العقل على التَّركيز على مجموعة من الأفكار، يتحوَّل إلى مصدر للإبداع في تلك الأفكار تحديدًا. فمثلًا، التَّركيز المتواصل على الشِّعر قد يُثمر شاعرًا فذًّا، بينما الانشغال العميق بالدِّراسة يقود إلى النَّجاح والتَّميز في العلم، وهكذا في مختلف ميادين الحياة. وقد وردت نصوص شريفة تؤكِّد هذه الحقيقة؛ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَصِيرَ مِنْهُمْ" (4). 

وعنه (عليه السلام): "من تعلَّم علم" (5). وعنه (عليه السلام): "من تفهَّم فهم" (6)؛ فالتَّركيز المتواصل على أي موضوع، مهما كان، يجعل العقل يعمل بفعَّالية أكبر في ذلك المجال، ليصبح الإنسان أكثر قدرة وتمكّنًا فيه، وهذا سرُّ من أسرار التَّميُّز والتَّفوّق.

الحقيقة الثَّانية: التَّركيز هو مفتاح النَّجاح في كلِّ مجالات الحياة، ولا يختلف الأمر في العبادات التي تمثِّل أسمى تجلّيات الإنسان في علاقته بربِّه (سبحانه). وبدون التَّركيز الحقيقي في أداء العبادات، تتحوَّل هذه الشَّعائر إلى حركات رتيبة تفتقر إلى الرُّوح والخشوع، ولتحقيق الخشوع، لا بدَّ من حضور القلب والانتباه الكامل. ومن هنا، تتضح أهميَّة التَّركيز في جميع أفعال الطَّاعة التي تقرِّبنا إلى ربِّنا (تبارك وتعالى).

لذلك، سنستعرض معًا نصوصًا وأحاديث شريفة وقصصًا تحمل في طيَّاتها دروسًا ثمينة حول دور التَّركيز في العبادات، وكيف أنَّ الانتباه الحقيقي للقلب والفكر يرفع من قيمة أعمالنا وطاعاتنا.

رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أنَّهُ قَالَ: "بُنِيَتِ الصَّلَاةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ:

سَهْمٌ مِنْهَا إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ.

وَسَهْمٌ مِنْهَا الرُّكُوعُ.

وَسَهْمٌ مِنْهَا السُّجُودُ.

وَسَهْمٌ مِنْهَا الْخُشُوعُ.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْخُشُوعُ؟

فَقَالَ: "التَّوَاضُعُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُقْبِلَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا هُوَ أَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَأَتَمَّ سِهَامَهَا صَعِدَتْ إِلَى السَّمَاءِ لَهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهَا، وَتَقُولُ: حَافَظْتَ عَلَيَّ حَفِظَكَ اللهُ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: صَلَّى اللهُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الصَّلَاةِ" (7).

وكان ممَّا أوصى به الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لكميل أنَّه قال: "يَا كُمَيْلُ: لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ وَتَتَصَدَّقَ، الشَّأْنُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ بِقَلْبٍ نَقِيٍّ، وَعَمَلٍ عِنْدَ الله مَرْضِيٍّ، وَخُشُوعٍ سَوِيٍّ. وَانْظُرْ فِيمَا تُصَلِّي، وَعَلَى مَا تُصَلِّي، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَجْهِهِ وَحِلِّهِ فَلَا قَبُولَ.

يَا كُمَيْلُ: اللِّسَانُ يَنْزَحُ الْقَلْبَ، وَالْقَلْبُ يَقُومُ بِالْغِذَاءِ، فَانْظُرْ فِيمَا تُغَذِّي قَلْبَكَ وَجِسْمَكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَالًا لَمْ يَقْبَلِ اللهُ تَسْبِيحَكَ وَلَا شُكْرَك" (8).

وعَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ الإمام عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) أنَّه قَالَ: "... وَحَقُّ الصَّلَاةِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا وِفَادَةٌ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتَ فِيهَا قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ قُمْتَ مَقَامَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ الرَّاجِي الْخَائِفِ الْمُسْتَكِينِ الْمُتَضَرِّعِ الْمُعَظِّمِ لِمَنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَتُقْبِلَ عَلَيْهَا بِقَلْبِكَ وَتُقِيمَهَا بِحُدُودِهَا وَحُقُوقِهَا" (9).

الحقيقة الثَّالثة: في كثير من الأحيان، تتوقف حياة الأجيال القادمة على مدى تركيزنا واهتمامنا في تربيتهم ورعايتهم؛ وغياب الانتباه والتَّوجيه الصَّحيح للأطفال يؤثِّر على حاضرهم، ويمتد ليشكِّل مستقبلهم كله. 

وممَّا يُذكر في هذا السِّياق:

رأى حكيم ولدًا جميلًا عليه آثار الهيبة والوقار، فسأله عن عمله.

فقال الولد: إنِّي حمَّال.

فتعجَّب الحكيم، وقال: هل لك أب؟

قال الولد: نعم.

قال الحكيم: وما عمل أبيك؟

قال الولد: إنَّه عالم.

قال الحكيم: نعم الأب، وبئس الولد.

قال الولد: لا تقل هكذا؛ بل قُل: نعم الجد، وبئس الأب.

قال الحكيم: ولمَ؟!

قل الولد: لأنَّ جدي ربَّى أبي عالمًا، وربَّاني أبي حمَّالًا.

قال الحكيم: صدقت وأحسنت (10).

فالأجداد قد يزرعون العلم والمعرفة في الأب؛ لكن إذا غفل الأب عن تربيَّة أبنائه وتوجيههم، فإنَّ ما تمَّ بناؤه قد ينهار أو يتلاشى. وهذه الحقيقة تلقي الضَّوء على محوريَّة التَّركيز الكامل والمستمر في مسيرة التربيَّة؛ لأنَّها مسؤوليَّة مصيريَّة تؤثِّر في مصير الأجيال القادمة.

لقد أصبح واضحًا أنَّ العقل لا يتطور صدفة، ولا تُبنى الشخصيَّة القويَّة بالعاطفة وحدها، ولا تُنتج العقول أفكارًا ناضجة في بيئة مشتتة أو من مصدر واحد؛ وإنَّما القراءة هي البذرة، والتَّحقيق هو الغربال، وتنوع المصادر هو الماء، وأمَّا التَّركيز فهو أشعة الشَّمس التي تمنح الفكرة نضجها وقوَّتها.

من أراد عقلًا حُرًا، وفكرًا ناضجًا، وقرارات راشدة، لا بدَّ له أن يتحمَّل مسؤوليَّة "طريقة تفكيره"، وليس فقط "كميَّة المعلومات التي يمتلكها"؛ ففي زمن تتصارع فيه الأصوات وتتداخل الآراء، لا ينجو الإنسان إلَّا بمنهج تفكير سليم يجمع بين القراءة العميقة، والتَّمحيص الواعي، والانفتاح على التَّعدد، والقدرة على التَّركيز وسط ضجيج الحياة.

 كن أنت ذلك النموذج الذي يبدأ بتربية عقله كما يُربّي حلمًا كبيرًا؛ فالعقل هو أوَّل مشروع يجب أن نبنيه بحبّ وصبر ووعي، ليكون النَّواة الصلبة التي يبنى عليها كلّ نجاح وازدهار.

................................................

الهوامش:

1. سورة العلق/ الآيات: 1 – 5.

2. الدعوات (سلوة الحزين): ص 197.

3. بحار الأنوار: ج 1، ص 176.

4. عيون الحكم والمواعظ: ص162.

5. غرر الحكم ودرر الكلم: ص 574.

6. المصدر نفسه.

7. مستدرك وسائل الشيعة: ج 4، ص 103.

8. بحار الأنوار: ج 74، ص 417.

9. من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 619.

10. النازحون من العراق: ص22.

اضف تعليق