يتعين على الحكومات أن تتأكد من أن أحكام العقود تعكس الصالح العام وتنظم عملية جني الأرباح الزائدة. على نحو مماثل، ينبغي لجهود حوكمة الملكية الفكرية أن تسعى إلى تسهيل عمليات نقل المعرفة بين البلدان، لصالح المزيد من الإبداع والتصنيع اللامركزي. نحن في حاجة ماسة إلى إعادة تصميم قواعد وممارسات الملكية...
بقلم: ماريانا مازوكاتو
لندن ــ في الآونة الأخيرة، عادت حالات الإصابة بمرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) إلى الارتفاع مرة أخرى، وهذا يشكل تَـذكِـرة صارخة بالدروس التي كان من الواجب علينا أن نتعلمها من الموجات السابقة. أغلب هذه الدروس لا تقتصر على كوفيد، بل تنطبق على التهديد الذي تفرضه الأمراض المعدية في عموم الأمر.
لقد أثبتت الجائحة أننا نمتلك القدرات العلمية والتصنيعية اللازمة لتطوير وإنتاج لقاحات آمنة وفَـعّـالة بكميات ضخمة وبسرعة في مواجهة تهديدات جديدة. لكن نجاح لقاحات كوفيد-19 عكس أيضا عشرين عاما من الجهود الدؤوبة التي بذلها العلماء في الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص؛ وعندما أتت لحظة الحقيقة، كان ضخ الأموال العامة في الوقت المناسب كفيلا بدفع هذا العمل إلى خط النهاية.
لو كانت هناك تكنولوجيا واحدة لعبت دورا محوريا بشكل خاص في هذا الأمر، فهي تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA)، التي توفر مستوى من القدرة على التكيف والقابلية للتوسع يجعلها مناسبة تماما لجهود التأهب والاستجابة للجوائح الـمَـرَضية. وبالفعل، يجري الآن اختبار لقاحات وعلاجات الحمض النووي الريبي المرسال لمجموعة واسعة من الأمراض، وتتواصل الجهود لتوسيع نطاق استخدام هذه التكنولوجيا (من خلال تحسين استقرار درجة حرارتها، على سبيل المثال).
وعندما يضربنا الوباء الفيروسي التالي، ستكون لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال في الأرجح أول الحلول التي تخرج من البوابات. ولكن برغم أن هذا الإنجاز العلمي أنقذ أعدادا لا تُـحصى من الأرواح أثناء الجائحة الأخيرة، فإن تقاسم الفوائد لم يكن عادلا. فبعد عام واحد من طرح لقاحات كوفيد-19، كان ما يقرب من 73% من الجرعات المقدمة محصورا في البلدان المرتفعة الدخل وذات الدخل المتوسط الأعلى، في حين وصل 0.9% فقط منها إلى البلدان المنخفضة الدخل.
كان هذا التفاوت أشد وضوحا عندما نتحدث عن لقاحات mRNA، التي كانت تستخدم في المقام الأول في بلدان غنية كانت حريصة على تخزين الإمدادات في مستهل الأمر. من ناحية أخرى، حرصت شركات الأدوية على فرض رقابة مشددة على الترخيص والإنتاج، مما سمح لها بجني أرباح مذهلة. وعلى هذا فإن درسا آخر مستفادا من الجائحة يتلخص في حقيقة مفادها أن منصة تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال لن تحقق كامل إمكاناتها ما لم نتبن نهجا جديدا يؤكد على الوصول العادل والصالح العام. وهذا يعني السعي إلى إقامة تحالفات تكافلية بين القطاعين العام والخاص على أن تكون أفضل تصميما لتقاسم المخاطر والمكافآت.
عندما تستفيد الشركات من الأموال العامة ــ سواء كانت إعانات دعم، أو ضمانات، أو قروض، أو التزامات شراء، أو عقود مشتريات ــ يجب أن يكون ذلك مشروطا بعملها على تعظيم القيمة العامة لمثل هذه الاستثمارات. على سبيل المثال، من الممكن أن تضمن شروط التمويل العام لمشاريع البحث والتطوير والإنتاج والتوزيع المرتبطة بالحمض النووي الريبي المرسال الإتاحة بتكلفة ميسورة، والقدرة على الوصول العادل، وإعادة استثمار الأرباح في الإبداع الصحي. لا ينبغي لتكنولوجيات الحمض النووي الريبي المرسال الناتجة عن جهد جماعي أن تكون تحت السيطرة القصرية لعدد قليل من الشركات الخاصة؛ بل ينبغي اعتبارها جزءا من المشاعات الصحية العالمية، وإتاحتها وجعلها في متناول كل من يحتاج إليها.
تُظهِر مقارنة بين لقاحي أكسفورد-أسترازينيكا وفايزر-بيونتيك (mRNA) مدى أهمية توجيه الأمر على هذا النحو. تلقت هاتان الشراكتان تمويلا عاما ضخما ــ 445 مليون دولار لشركة بيونتيك و1.3 مليار دولار لشركة أكسفورد-أسترازينيكا ــ واستفادت كل منهما من التزامات الشراء المسبق الكبيرة. ولكن في حين كان التمويل العام لإنتاج لقاح أكسفورد-أسترازينيكا مشروطا بتحديد الشركة لأسعار أقل للقاح بغرض تمكين الوصول إليه، فقد سُمِح لشركة فايزر-بيونتيك بتحديد أسعار أعلى، ثم رفضت الشركة الدعوات الموجهة إليها لتقديم اتفاقيات الترخيص ونقل التكنولوجيا.
في المرة القادمة، يتعين على الحكومات أن تتأكد من أن أحكام العقود تعكس الصالح العام وتنظم عملية جني الأرباح الزائدة. على نحو مماثل، ينبغي لجهود حوكمة الملكية الفكرية أن تسعى إلى تسهيل عمليات نقل المعرفة بين البلدان، لصالح المزيد من الإبداع والتصنيع اللامركزي. نحن في حاجة ماسة إلى إعادة تصميم قواعد وممارسات الملكية الفكرية لضمان إدارة التكنولوجيات الصحية الـحَـرِجة ــ وخاصة تلك التي تعتمد بدرجة كبيرة على أموال دافعي الضرائب ورأس المال البشري (من الباحثين إلى المشاركين في التجارب السريرية) ــ على نحو يحقق الصالح العام.
ولهذا السبب، دعا مجلس اقتصاديات الصحة للجميع التابع لمنظمة الصحة العالمية، والذي أتولى رئاسته، إلى إدارة براءات الاختراع المرتبطة بتكنولوجيات الحمض النووي الريبي المرسال من منظور الصالح العام، وليس منظور الـمِـلكية. في الممارسة العملية، يعني هذا أن معايير منح براءات الاختراع ــ بما في ذلك براءات الاختراع الثانوية ــ لابد أن تكون أكثر صرامة، بما في ذلك من خلال اشتراط الكشف الإضافي عن المعلومات التي قد تساعد الحكومات في تقييم حجم القوة السوقية التي تمنحها للمستفيدين من خلال براءات الاختراع. ينبغي لبراءات الاختراع أيضا أن تغطي فقط ابتكارات وإبداعات جديدة جوهريا، ولابد أن تقتصر على التكنولوجيات النهائية، من أجل منع خصخصة أدوات وعمليات ومنصات البحث الأساسية. يجب أن يكون الغرض من الإبداع الطبي هو تحسين "الصحة للجميع" ــ وهي مهمة منظمة الصحة العالمية المركزية ــ وهذا يتطلب تعزيز الوصول إليه في الوقت المناسب وعلى نحو عادل.
تشكل القدرة على الوصول إلى الملكية الفكرية الأساسية ورأس المال أمرا شديد الأهمية لإنشاء البنية الأساسية المحلية والإقليمية اللازمة لإنتاج المنتجات القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال. وقد أدركت منظمة الصحة العالمية هذه الحاجة بوضوح، فأطلقت برنامجا لنقل تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال، وأقامت له مركزا في جنوب أفريقيا، كما أقامت شراكات جديدة لتقاسم التكنولوجيا بين الشركات في 15 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل على الأقل. ولكن تظل الحاجة قائمة إلى الدعم المالي والسياسي القوي لضمان نجاح هذه المبادرة.
على سبيل المثال، تستطيع حكومات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل أن تتخذ خطوة إضافية بإنشاء مراكز إقليمية لمشاريع البحث والتطوير لتعزيز التعاون بين القوى الفاعلة في القطاعين العام والخاص في مشاريع البحث والتطوير المشتركة. في عموم الأمر، مع تجدد اهتمام الحكومات بالسياسة الصناعية، ينبغي لها أن تدرك الفرصة المتاحة لحشد قدر أعظم من الاستثمار، والإبداع، والنمو حول هدف الصحة للجميع.
يُحسَب للبرازيل أنها عملت بالفعل على المواءمة بين جهود التأهب والاستجابة للجوائح الـمَـرَضية والسياسة الصناعية عبر مجمعها الاقتصادي الصناعي الصحي، الذي سيستخدم المشتريات العامة لإنشاء سوق محلية للقاحات الحمض النووي الريبي المرسال المطورة محليا، وهذا من شأنه أن يحقق فوائد صحية واقتصادية على جانب عظيم من الأهمية.
مع إحراز تقدم في المفاوضات الدولية بشأن اتفاق الوقاية من الجوائح الـمَـرَضية والتأهب والاستجابة لها، يجب أن تحتل قضية ضمان الوصول العادل في الوقت المناسب إلى تدابير المكافحة الطبية ــ بما في ذلك تكنولوجيات الحمض النووي الريبي المرسال ــ مركز الصدارة. تتمتع منصة تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال بإمكانات هائلة في ما يتصل بتقديم علاجات ولقاحات رائدة للأمراض التي تصيب البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في المقام الأول ويمكن إنتاجها محليا بأسعار معقولة في ظل نظام الملكية الفكرية الملائم.
لبناء هذا الشكل من المرونة والقدرة على الصمود، يتعين علينا أن نعمل على تمكين الباحثين والمصنعين والحكومات في تلك البلدان من تشكيل أنظمة البحث والتطوير والتصنيع الإقليمية على النحو الذي يخدم الصالح العام. آنذاك فقط يتسنى لتكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال تحقيق كامل إمكاناتها.
اضف تعليق