قدم وباء كوفيد 19 للعالم بعض الدروس الصعبة ولكنها مُفيدة حول الحكم الرشيد. لم تتمكن العديد من الدول الغنية من إدارة الأزمة كما كان مُتوقعًا، في حين فاقت العديد من البلدان الفقيرة والمكتظة بالسكان والضعيفة كل التوقعات. يُثير هذا الاختلاف أسئلة مهمة ليس فقط بشأن إدارة الصحة العامة...
بقلم: نغير وودز
أوكسفورد - قدم وباء كوفيد 19 للعالم بعض الدروس الصعبة ولكنها مُفيدة حول الحكم الرشيد. لم تتمكن العديد من الدول الغنية من إدارة الأزمة كما كان مُتوقعًا، في حين فاقت العديد من البلدان الفقيرة والمكتظة بالسكان والضعيفة كل التوقعات. يُثير هذا الاختلاف أسئلة مهمة ليس فقط بشأن إدارة الصحة العامة ولكن أيضًا حول حالة الحكم في أكبر وأقدم الديمقراطيات على مستوى العالم.
قبل اندلاع الوباء مباشرة، أطلق تحالف من المؤسسات الكبرى مؤشر الأمن الصحي العالمي (GHSI) الذي يهدف إلى تصنيف قدرة البلدان على منع انتشار العدوى واكتشافها والإبلاغ عنها والاستجابة السريعة لتفشي الأمراض. في ذلك الوقت، لاحظ أحد صحفيي البيانات في موقع "ستاتيستا" أن "البلدان ذات الدخل المرتفع تميل إلى تسجيل درجات مُرتفعة على المؤشر، وهذا ليس أمرًا مُفاجئًا". وقد تصدرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قائمة "البلدان الأكثر استعدادًا للتعامل مع الوباء".
بعد مرور عام واحد، تبدو هذه التصنيفات هزلية. وفقًا لدراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول الماضي، "تُعد الدول العشر الأكثر تضررًا جراء انتشار وباء كوفيد 19 من حيث عدد الوفيات لكل مليون نسمة من بين البلدان العشرين الأولى من حيث مجموع درجات مؤشر الأمن الصحي العالمي".
وبطبيعة الحال، من السابق لأوانه الإعلان عن "نموذج ناجح" للتعامل مع هذا الوباء. ومن ناحية أخرى، تؤثر موجات وبائية جديدة حتى على البلدان التي اعتقدت أنها قد تغلبت على الفيروس. ولكن من الواضح أن بعض الحكومات قد نشرت مواردها ومهاراتها ومؤسساتها بشكل أكثر فاعلية من غيرها. تُثير ثلاث دول احتلت المرتبة الأدنى بين الدول وفقًا لمؤشر الأمن الصحي العالمي اهتمامًا خاصًا.
لنتأمل حالة السنغال. مع عدد سكانها الذي يتجاوز 15 مليون نسمة ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ حوالي 1500 دولار، احتلت المرتبة 95 على مؤشر الأمن الصحي العالمي بمجموع 37.9 نقطة (تُعد الولايات المتحدة في المركز الأول، حيث سجلت ما مجموعه 83.5 نقطة). ومع ذلك، في يناير/كانون الثاني 2020، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية لأول مرة عن حالة طوارئ دولية في مجال الصحة العامة، كانت السنغال تستعد بالفعل.
عندما اكتشفت السنغال أول حالة إصابة بفيروس كورونا المُستجد في الثاني من مارس/آذار الماضي، سارعت إلى نشر وحدات اختبار مُتنقلة (أسفرت عن نتائج في غضون 24 ساعة)، وأنشأت نظامًا لتتبع الاتصال، إلى جانب توفير وحدات عزل في العيادات والمستشفيات والفنادق. كما حظرت الحكومة على الفور التجمعات العامة، وقررت فرض حظر تجول ليلي، وتقييد السفر الداخلي، وتعليق الرحلات الجوية التجارية الدولية. وبحلول أبريل/نيسان، تم الإعلان عن إلزامية ارتداء أقنعة الوجه في جميع الأماكن العامة. وفي أكتوبر/تشرين الأول، سجلت البلاد حوالي 15.000 حالة إصابة و 300 حالة وفاة.
بطبيعة الحال، لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق. أدت أعمال الشغب التي اندلعت في يونيو/حزيران الماضي إلى تخفيف القيود. لكن البلاد تكيفت بسرعة. ظل مركز عمليات الطوارئ الصحية التابع لها ملتزمًا بالانفتاح والشفافية. من خلال وسائل الإعلام، والجماعات الدينية، وقادة القرى والمجتمعات المحلية، وغيرها من الوسائل، أبقت الشعب على اطلاع دائم بالتطورات المُرتبطة بالوباء، بعد أن تعلمت أهمية الرسائل الواضحة والمباشرة خلال أزمة وباء إيبولا في الفترة ما بين عامي 2013 و 2016.
تُعد سريلانكا من بين الدول الأخرى التي فاقت التوقعات. احتلت سريلانكا التي يبلغ عدد سكانها 21.5 مليون نسمة المرتبة 120 في مؤشر الأمن الصحي العالمي، لكنها استجابت بسرعة للتقارير المُبكرة حول الفيروس. إلى جانب نشر القوات العسكرية للمساعدة، قامت الحكومة بإجراء اختبارات سريعة مُطورة محليًا (بنتائج في غضون 24 ساعة) واختبار تفاعل البوليميراز المُتسلسل العشوائي (PCR) في المناطق المُكتظة بالسكان. كما أنشأت نظامًا صارمًا لتتبع مُخالطي المُصابين، وقدمت الدعم للأشخاص الذين يخضعون للحجر الصحي، وفرضت ارتداء أقنعة الوجه في الأماكن العامة بصورة إلزامية، فضلاً عن تقييد حركة المسافرين وإخضاعهم للفحوصات الطبية اللازمة وحظر التجول على مستوى الجزيرة. وكما هو الحال في السنغال، أطلقت الحكومة السريلانكية حملات توعية عامة واسعة النطاق. اعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أبلغت البلاد عن 13 حالة وفاة فقط جراء الإصابة بفيروس كورونا المُستجد.
الدولة الثالثة البارزة هي فيتنام. في حين تُعد موطنًا لحوالي 95 مليون نسمة مع نظام رعاية صحية غير مُتطور، فقد احتلت فيتنام المرتبة 50 على مؤشر الأمن الصحي العالمي، لكنها اتخذت إجراءات سريعة بشكل مثير للإعجاب بعد الإبلاغ عن أول حالة إصابة بالفيروس في الصين المُجاورة. بعد وقت قصير من تسجيل حالات الإصابة الأولى، قامت بإعداد المُختبرات وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة، فضلاً عن فرض قيود على جميع القادمين من الصين. وأعقب هذه التدابير إجراء اختبارات سريعة، وتتبع المخالطين، وتوفير العلاج لجميع المُصابين، وعزل جميع المُخالطين للحالات المشتبه فيها. بحلول أكتوبر/تشرين الأول، سجلت البلاد 35 حالة وفاة فقط.
إذا كانت هذه البلدان الفقيرة قادرة على إدارة الوباء بشكل جيد، فما سبب فشل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؟ من الواضح أن التجارب الأخيرة مع الأمراض المُعدية لعبت دورًا حاسمًا في التأهب على المستوى القطري. مثلما عانت السنغال من الإيبولا في الفترة ما بين عامي 2013 و 2016، استوعبت فيتنام وسريلانكا الدروس المُستفادة من السارس (2003) وفيروس كورونا (2012). وقد أنشأ كل منهما بنية تحتية لإدارة الأوبئة (وربما طور بعض السكان المناعة ضد سلالة فيروسات كورونا).
لكن التاريخ وحده لا يُفسر سبب قيام هذه البلدان الثلاثة بأداء أفضل بكثير من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. لماذا لم تقم هذه البلدان الغنية بإجراء فحوصات طبية سريعة، وتتبع المخالطين، وفرض الحجر الصحي على الحالات المشتبه في إصابتها؟ لماذا لم تحرص على فرض ارتداء أقنعة الوجه بصورة إلزامية وبذل المزيد من الجهود لمنع السفر والتجمعات الخاصة؟ بعد فترة طويلة من إثبات البيانات لفعالية هذه التدابير، استمرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في التردد بشأن اتخاذ إجراءات مُماثلة.
هناك دروس أعمق تتعلق بالحكم. توحدت حكومات السنغال، وسريلانكا ، وفيتنام خلف إستراتيجية مُحددة، وركزت على إطلاق حملات توعية عامة واضحة، وإقامة شراكات مع شبكات المجتمع. على النقيض من ذلك، لم تُثبت الولايات المتحدة ولا المملكة المتحدة قدرتها على حشد مؤسساتها الرائدة عالميًا خلف إستراتيجية وطنية مُتماسكة. وبدلاً من ذلك، استسلمت حكومتا البلدين للخلافات بين النخب.
فيما يخص الإستراتيجية، تسببت الانقسامات داخل الحزب الجمهوري الأمريكي وحزب المحافظين البريطاني في انتقال قادتهما من نهج إلى آخر. تنافس الخبراء الذين يُقدمون لهم المشورة على الاهتمام والنفوذ، وعملوا على الترويج لنماذجهم وأبحاثهم الخاصة، وغالبًا ما كانوا يفتقرون إلى التواضع لطلب النصيحة من العاملين في الخطوط الأمامية والبلدان الأخرى التي تتمتع بالخبرة اللازمة.
بخصوص التنفيذ، أصرّت كل من المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والصحة العامة في إنجلترا على ضرورة تطوير والتحكم في نظام الاختبارات من أجل خدمة مصالحها الخاصة. وقد فشل هذا النهج في كلا البلدين، بينما نجح نهج أكثر تعاونًا في بلدان أخرى. بدلاً من بناء شبكات محلية لتتبع جهات الاتصال (الأمر الذي سيكون مفيدًا لمكافحة الأوبئة المستقبلية)، كلّفت حكومة المملكة المتحدة شركة "سيركو" العملاقة وشركة تُسمى "سيتل" بهذه المهمة. وكانت النتيجة فشل مركز الاتصال الوطني ونظام تتبع وتعقب عبر الإنترنت في إتمام المهمة فضلاً عن فرق حماية الصحة المحلية في البلدان الأكثر نجاحًا.
في النهاية، كشف وباء كوفيد 19 عن ضعف الاستراتيجيات التي تستهدف الشعبية السياسية بدلاً من احتواء انتشار الوباء. وعلى نحو مماثل، فقد كشف عن محاولة الحكم من خلال قيادة مركزية بدلاً من التعاون. انتهى الأمر بحدوث خلاف بين مكتب رئيس الوزراء البريطاني وعمدة مانشستر، ورئيس الولايات المتحدة مع حاكم ولاية ميشيغان. كما لم تتدفق الموارد من المركز إلى المناطق حيث تشتد الحاجة إليها.
سلط الوباء الضوء على الحاجة المُلحة إلى التعاون وبناء روابط بين الحكومات والمؤسسات الوطنية ودون الوطنية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. هذا أمر بالغ الأهمية لمكافحة الوباء كما هو مهم لضمان انتعاش فعّال بعد الجائحة.
اضف تعليق