الإسهام في تحمل مسؤولية توفير العلاجات والعناية الطبية بشكل مجاني للفئات الأكثر ضعفاً التي أشار إليها النص الدستوري وهي النساء والأطفال وكبار السن والمرضى ممن ابتلوا بأمراض مستعصية أو مزمنة، كما ان مشكلة العيادات الطبية الخاصة تؤرق المواطن العراقي وتحرمه من الحصول على الرعاية الصحية الحقيقية...
تحرص الحكومات العراقية المتعاقبة ومنها الحكومة الحالية على تضمين برنامجها الحكومي عبارات فضفاضة مضمونها السعي الحثيث لتوفير الضمان الصحي للمواطن العراقي، وكعادته رئيس وزراء العراق الحالي ضمن البرنامج وعود بـ(بتطوير المؤسسات الحكومية وإصلاحها، والنهوض بالواقع الصحي، والتركيز على معالجة التحديات الاقتصادية والمالية، ومكافحة الفساد وتحقيق العدل بوصفه معيار الدولة الناجحة).
ما يبعث الأمل في النفوس، ولكن كل الحكومات المتعاقبة حاولت وبذلت جهود إلا ان الضمان الصحي للمواطن لم يتحقق، حيث يعد الضمان من أهم حقوق المواطن العراقي التي ورد النص عليها بشكل صريح في الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (30) والتي نصت على أن ((أولاً: تكفل الدولة للفرد والأسرة وبخاصة الطفل والمرأة الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياة حرة وكريمة....
ثانياً: تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز.....))، ومن الثابت أيضا ان الحق في الضمان الصحي والحق بالصحة عموماً يرتبط بالحق في الحياة والحق في العدالة الاجتماعية بتوفير سبل الوقاية والعلاج لشرائح اجتماعية أكثر من غيرها عرضة لمخاطر المرض ومضاعفاته، وقد حرصت الوثائق الدولية على التأسيس لهذا الحق إذ ورد في المادة(12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صادق عليه العراق بالقانون رقم (93) لسنة 1970ما مضمونه بأن ((تقر الدول الأطراففي هذا العهد بحق كل إنسان بالتمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه)).
وتشير المادة ذاتها إلى التدابير التي يجب على الدولة ان توفرها إعمالاً للحق في الضمان الصحي وهي:
أ- خفض معدل موت المواليد الصغيرة والرضع وتأمين نمو الطفل نمواً نموذجياً.
ب- تحسين النظافة البيئية والصناعية.
ج- الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها.
د- تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الصحية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.
كما قامت الأمم المتحدة ووكالاتها المعنية برصد الامتثال للعهدين الدوليين في العام 2000 بإصدار توصية للدول لضمان الحق في الرعاية الصحية يتمثل بالآتي (ان الحق في الصحة لا ينطوي على توفير خدمات الرعاية الصحية في الوقت المناسب فحسب، بل لابد من توافر محددات أخرى مثل توافر المياه النقية الصالحة للشرب، وإمدادات كافية من الغذاء والأطعمة المغذية الأمنة، والسكن الملائم، وظروف عمل وبيئة مهنية صحية، والقيام بما يلزم من التثقيف الصحي بالمعلومات المناسبة....، أي ان الحق بالرعاية الصحية يتطلب:
أ- توافر القدر الكافي من المرافق الصحية والمؤسسات الرعاية الطبية والسلع والبرامج والخدمات ذات الصلة، والمناسبة لكل حالة مرضية على حدة، على أن تكون متناسبة مع الاحتياجات الحقيقية لكلا الجنسين بما يحفظ دورة الحياة.
ب- إمكانية الوصول والاستفادة مما تقدم في النقطة السابقة للجميع.
ج- ينبغي ان تحترم جميع المؤسسات الصحية في كل الظروف، ويلتزم العاملون بها بما تتفق مع الأخلاق الطبية، أو المهنية.
وقد ألزمت المادة (12) ذاتها من العهد الدولي الدول باتخاذ ما يلزم من تدابير وتهيأ الظروف التي من شأنها تأمين الخدمة الطبية والعناية للجميع في حال المرض.
بيد ان الواقع الصحي في العراق يواجه بتحديات كبيرة وخطيرة غابت عن البرامج الحكومية بشكل كامل أو نسبي ومن أهمها الآتي:
1- الفشل الحكومي المزمن في إدارة جميع الملفات المتصلة بالفرد ومنها الملف الصحي بسبب استشراء الفساد المالي والإداري بالدرجة الأساس.
2- ضعف التخطيط بسبب ان مجلس الوزراء لا يقوم بدوره الأمثل في رسم سياسة صحية وفق ما بينت المادة (80) من الدستور التي منحت المجلس التخطيط والتنفيذ المتعلق بالسياسة العامة ومنها على الصعيد الصحي، وغياب التنسيق الفاعل مع الجهات ذات العلاقة إذ يفتقد دور وزارة التخطيط كوسيط بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان والحافظات العراقية كافة كونها جهات خدمية هادفة إلى النهوض بالخدمات على مختلف المستويات، بيد ان عشوائية العمل والتعارض بالاختصاصات وعدم تقديم الأولويات أنتج تعطيل إنجاز مشاريع استراتيجية منها المستشفى التركي في كربلاء مثلاً.
3- تتأثر صحة البشر في العراق بشكل رئيس بأعمال الصناعة النفطية وما تفضي إليه من تلوث كبير يصيب البيئة المحيطة بالناس وما تخلفه من آثار مدمرة تترجم إلى أمراض مستعصية وتشوهات في الأجنة وما شاكل ذلك، والمؤلم ان مؤسسة بحجم وزارة النفط لا تتحمل أي التزام تجاه الضحايا في المحافظات النفطية، وليس الأمر مقتصرا على المؤسسات النفطية الوطنية بل ينصرف إلى المؤسسات النفطية الأجنبية العاملة في البلد فهي الأخرى المفترض ان تتحمل جزء من تبعات التلوث المدمرة.
4- الظروف الأمنية والأنشطة العسكرية التي تجري في العراق والتي خلفت الألاف من المعاقين والمرضى والمتضررين نفسياً وما شاكل ممن يحتاجون إلى رعاية صحية مناسبة تنتشلهم من الواقع الذي يعيشونه.
5- تفشي وباء كورونا زاد من مصاعب القطاع الصحي في العراق إذ ان الحظر والتباعد والإغلاق جعل من شرائح اجتماعية كبيرة أمام مصاعب جمة في الحياة وتيسيرها.
6- المشاكل الفنية التي يعاني منها القطاع الصحي مسبقاً ومنها على سبيل المثال تقادم الأبنية والأجهزة الطبية، النقص الحاد بالأدوية، النقص في الكوادر الصحية ذات التخصصات الدقيقة، إضافة إلى ترهل الجهاز الإداري الوظيفي الساند، ومن الملاحظ ان الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي في العراق متواضع جداً لاسيما في الجانب الاستثماري المتمثل بالتوسع في الأبنية والتجهيزات اللازمة لعناية الصحية.
7- العلاج خارج العراق على نفقة وزارة الصحة ملف أخر محزن فهو ملف يتجاوز في الكثير من الأحيان سلم الأولويات لتداخل الفساد الإداري فيه، كما أنه يتنافى مع مبدأ مساواة العراقيين الذي أقره الدستور العراقي للعام 2005 ويتنافى مع الحق في الرعاية الصحية التي أوجب الدستور على المؤسسات العامة توفيرها فالضمان الصحي حق دستوري والانتقائية في العلاج خارج العراق ستتنافى مع هذا الوجوب.
8- الضمان الصحي في العراق يفترض ان يكون مجانياً، ومن يرغب في العلاج في المؤسسات الصحية الأهلية فيكون ذلك على حسابه الخاص، وان حرية الاستثمار في القطاع الخاص مكفولة لحرية الاقتصاد العراقي، بيد ان الملاحظ ان سبب انتعاش هذا القطاع هو إهمال الحكومة للقطاع الصحي الحكومي.
9- مراكز البحث والتطوير الصحي تقف اتفاقيات حماية حقوق الإنسان حائلاً دون تطور الصناعة الدوائية في العراق ما يستدعي تظافر جهود وزارتي الصحة والتعليم العالي لإنتاج أدوية وأمصال بجهود الباحثين العراقيين وهذا مالم يحصل طوال الفترة السابقة بل بقيت شركات الأدوية العراقية تنتج أصناف بسيطة من العلاجات، والأمر ينطبق أيضاً على صناعة الأجهزة الطبية فقد أثبتت جائحة كورونا ان هنالك تنافس غير مشروع بين الدول للحصول على بعض التجهيزات والأجهزة الطبية والعراق يزخر بخبرات أكاديمية استطاعت ان تصنع بدائل للأجهزة الطبية محلياً بجهود ذاتية وبدون أي تمويل أو مساعدة حكومية ما يتطلب قرارا جريئا من مجلس الوزراء باتجاه تأسيس مؤسسة صحية تستقطب كافة العلماء العراقيين للبدء محلياً بإنتاج الأجهزة والأدوية والسير باتجاه الاعتماد على النفس.
10- ينبغي التفكير ملياً في وزارة التعليم العالي بالسير قدماً نحو الكليات الطبية التخصصية والتي بادرت الوزارة إلى تأسيس بعضها ومنها هندسة الأطراف الصناعية والهندسة الطبية وغيرها لتكون مخرجاتها مغذية للمصانع أو المعامل في القطاع العام أو الخاص المتخصصة في صناعة الدواء أو الأجهزة التي من شأنها إنقاذ الحياة.
11- مؤسسات التعليم والتدريب الطبي والتمريضي: فمن مسؤولية الدولة إنشاء مدارس وطنية من شأنها رفع كفاءة الكوادر الصحية والتمريضية للتعامل مع أي مستجد صحي وان عدم وجود الكليات أو المعاهد أو المدارس التدريبية أو سوء متابعتها وإدارتها يجعل من الدولة فاشلة في المجال الطبي ولا تقدم الضمان أو لرعاية اللازمة للمواطن.
مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الدولة وسياستها الصحية آخذة بالتوسع في ميدان المشروعات الصحية الخاصة والأهلية والتي ينبغي ان تتحمل جزء من هذا الضمان الصحي وليس الأمر حكرا على الدولة ففي ظل تنامي هذه المشروعات لابد ان تأخذ على عاتقها الإسهام في تحمل مسؤولية توفير العلاجات والعناية الطبية بشكل مجاني للفئات الأكثر ضعفاً التي أشار إليها النص الدستوري وهي النساء والأطفال وكبار السن والمرضى ممن ابتلوا بأمراض مستعصية أو مزمنة، كما ان مشكلة العيادات الطبية الخاصة تؤرق المواطن العراقي وتحرمه من الحصول على الرعاية الصحية الحقيقية من قبل الدولة.
المشاكل المتقدمة وغيرها كثير من الإشكاليات التي ننتظر من الحكومة العراقية وضعها في سلم أولوياتها عند رسم السياسة العامة الخاصة بالقطاع الصحي لكونها تمس أحد أهم الحقوق الإنسانية وأقدسها على الإطلاق ألا وهو الحق في الحياة والعيش الكريم للإنسان العراقي.
اضف تعليق