كلّ أشكال الحياة في هذا العالم تريد أن تتكاثر، أن تنقل جيناتها عبر خلق أبناء لها، أو عبر استنساخ نفسها ملايين المرات، إذ لا أهمية للكائن بحدّ ذاته هنا، بل في الحفاظ على النسل وجعله الأكثر انتشاراً، ولكي تقوم بذلك، هي بحاجة إلى الموارد والطاقة...
كلّ أشكال الحياة في هذا العالم تريد أن تتكاثر، أن تنقل جيناتها عبر خلق أبناء لها، أو عبر استنساخ نفسها ملايين المرات، إذ لا أهمية للكائن بحدّ ذاته هنا، بل في الحفاظ على النسل وجعله الأكثر انتشاراً، ولكي تقوم بذلك، هي بحاجة إلى الموارد والطاقة، وإذا ما استنفدت تلك الموارد في مكان ما تقوم بالانتقال إلى آخر، وهذا ما قامت به البشرية على نحو مذهل. عام 1800، كان عدد سكان كوكب الأرض مليار نسمة، وبعده بمئة عام كان العدد 1.6 مليار نسمة فقط. اليوم، البشرية على أعتاب الـ8 مليارات نسمة، تتكاثر وتتقدّم، تصعد إلى الفضاء وتحاول استيطان الكواكب القريبة، فيما كلّ الكائنات الأخرى من حولها تراقب وتخضع لها. غير أن البشرية هذه، وعبر التاريخ، كانت دائماً في حالة خوف من عدو شديد الخطورة، متمثّل في الجراثيم، كائنات مجهرية لا يمكن رؤيتها، فتكت بمئات الملايين حتى وصل الأمر بها عام 1918 إلى أن تقضي على 5% من كل البشر.
ووهان، العاصمة المترامية الأطراف لمقاطعة هوبي وسط الصين، والتي يقطنها 11 مليون نسمة، هي مركز تجاري مقسوم على نهرَي يانغتسي وهان. تحتوي المدينة العديد من البحيرات والحدائق، بما في ذلك البحيرة الشرقية الخلابة. في جوارها، يعرض متحف مقاطعة هوبي آثاراً من فترة الدول المتحاربة. ووهان أيضاً هي حيث بدأ الأمر كلّه!.
يبلغ عدد سكان جمهورية الصين الشعبية 1.4 مليار نسمة، أي ما يوازي، تقريباً، عدد سكان كوكب الأرض عام 1900. تعدّ الصين حالياً إحدى أكثر الدول تقدّماً، خصوصاً في مجال التكنولوجيا، الأمر الذي يمكن تلمّسه من خلال ما قامت به مع تكنولوجيا «الجيل الخامس» للاتصالات اللاسلكية وتكنولوجيا الفضاء والصواريخ. كما أن الصين اليوم هي الخطر الأكبر على الولايات المتحدة الأميركية، بحسب الأخيرة، حتى إن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا يكاد يمرّ عليه يوم من دون أن يذكر خوفه من الخطر الآتي من الصين على بلاده.
في هذه اللحظة الباهرة من العظمة الصينية، يضرب مرض غامض 7 أشخاص في إحدى مستشفيات ووهان. هل هو السارس من جديد؟ كلا، يبدو أن الأمر مرعبٌ أكثر هذه المرة. تحاول السلطة المركزية بالتعاون مع السلطات المحلية احتواء الأمر. طُلب من السكّان ارتداء الأقنعة وعدم الاختلاط مع الناس، وتجنّب الأماكن المزدحمة، كما المحافظة على النظافة الشخصية باستمرار. إلا أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. تقول منظمة الصحّة العالمية (WHO) إنها بدأت تتسلم تقارير عن فيروس مريب، بدأ ينتشر في مدينة ووهان أواخر كانون الأول من العام الماضي، في حين يشتبه الباحثون في أن الفيروس بدأ من أحد المحال لبيع المأكولات البحرية في ووهان، حيث تباع هناك أيضاً كلّ أنواع الحيوانات البرية، كما تجري المتاجرة بها أيضاً.
بحسب ورقة بحثية أعدّها فريق من الخبراء والعلماء الصينيين، رجّح هؤلاء أن يكون أصل فيروس كورونا الجديد الخفاش، وليس الثعابين كما قيل بداية، علماً بأن الخفاش كان أيضاً هو السبب في وباء «السارس» عامَي 2002 و2003. وبحسب تقرير أعدّته «نيويورك تايمز»، فإن الخفاش أوجد العديد من الأوبئة في كلّ من أفريقيا، ماليزيا، بنغلاديش، أستراليا، كما يعتقد أنه خزان مرض «الإيبولا». في الأول من شهر كانون الثاني، قامت السلطات الصينية بإغلاق محال الأطعمة في مدينة ووهان. وفي الـ12 من الشهر ذاته، أرسلت عيّنات من التسلسل الجيني لـ«كورونا» إلى عدة دول، لإيجاد طريقة للكشف بشكل أفضل عن إصابة شخص ما من عدمه. ما يعرفه كلّ من «منظمة الصحّة العالمية» و«مركز السيطرة على الأمراض (CDC)»، هو التالي: عوارض الفيروس تتمثل في ارتفاع درجة حرارة جسم المصاب به، والسعال، وعدم القدرة على التنفّس بشكل كامل. وتستغرق هذه العوارض يومين إلى 14 يوماً كي تظهر في جسد المصاب، فيما المرعب أنه، طيلة تلك الفترة، يكون المصاب ناقلاً للمرض!
حتى كتابة هذا الموضوع، بلغ عدد الوفيات 304، فيما عدد الإصابات تخطّى الـ14000، مع تسجيل أول حالة وفاة بالمرض خارج الصين في الفيليبين.
على عكس البكتيريا، تحتاج الفيروسات بأنواعها كافة إلى جسم حاضن (host)، كي تبقى على قيد الحياة؛ إذ لا تقوى الفيروسات على العيش وحيدة على الأسطح أو في الهواء، إلا بضعة أيام، وأحياناً ساعات، علماً بأن فعاليتها تنخفض جداً إذا ما التقطها أحدٌ ما بذلك الشكل. تستخدم الفيروسات والعديد من الجراثيم وسائل فعّالة للانتقال إلى أجسام حاضنة أخرى، من أهمّها السعال أو العطاس، إذ بهذه الطريقة تتيح لنفسها الانتقال عبر الهواء إلى بشر آخرين، ومن ثم يقوم هؤلاء بتكرار الأمر إلى أن يصبح الأمر وباءً خارجاً عن السيطرة. تستخدم الفيروسات الأجسام الحاضنة، وفي هذه الحالة البشر، فتجعل الجسم كمصنع، وتستخدم موارده لتنتج أكبر عدد منها، كما تستخدمه حتى آخر لحظة للانتقال إلى جسم جديد.
المؤسف اليوم، أن الصين هذه، والتي لولاها ما كان يمكن للشعوب الفقيرة أن تأخذ حصتها من التكنولوجيا، بدأ العديد من الشركات الكبرى، مثل: «آبل»، «غوغل»، «أل جي»، إغلاق محالّها ومكاتبها على كلّ أراضيها، خوفاً من فيروس كورونا الجديد. في مقال على موقع «فوربس» بعنوان: «الصين آنذاك والآن: لماذا يمثّل فيروس كورونا تهديداً أكبر للاقتصاد العالمي من حالات تفشي المرض السابقة (السارس)»، إن حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني في العام 2003 كان 1.6 تريليون دولار، بينما في عام 2018 أصبح 13.6 تريليون دولار. إضافة إلى ذلك، كانت قيمة الصادرات الصينية عام 2003 حوالى 438 مليار دولار، بينما عام 2018 وصلت إلى 2.5 تريليون دولار. لذا، وبناءً على ما سبق، يمكن القول إن خللاً قد يصيب الاقتصاد الصيني، لن تكون الصين وحدها المتأثرة به، بل كلّ الكوكب.
لا يمكن للبشرية حالياً إلا أن تشكر الجهود الهائلة التي تقوم بها الصين للسيطرة على هذا الوباء والعمل على احتوائه، وتتعاون معها في رحلة البحث عن علاج، وما إنشاء الصين لمستشفى في غضون 9 أيام وآخر سيتمّ الانتهاء منه بعد ثلاثة أيام، سوى تأكيد لجدّية الجمهورية الصينية وحسن أدائها في التعامل مع هذا الوباء. حتى أن تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لـ«الصحة العالمية»، وعلى الرغم من المحاولات العديدة من بعض الصحافيين لإحراجه خلال المؤتمرات الصحافية التي عقدتها المنظمة، أصرّ على شكر الدولة الصينية لما تقوم به من جهود هائلة، حيث قال: «لا يمكن تخيّل لو أن هذا الوباء حصل في دولة أخرى غير الصين، كان الأمر سيكون كارثياً»، في المحصلة، وكما هتف أبناء المدينة المنكوبة من شرفات منازلهم، علينا أن نردّد معهم: «كوني قوية ووهان».
اضف تعليق