سقراط يقول إن الحياة التي لا نمعن النظر فيها لا تستحق أن نعيشها. ويعد فيلارويل جزءا من حركة جديدة لتسجيل معلومات عن الذات، إذ بدأ عدد من الأشخاص من مختلف أنحاء العالم في جمع وتسجيل معلومات عن صحتهم ونظامهم الغذائي وأنشطتهم اليومية بالتفصيل، بقصد التعرف على ذواتهم...
بقلم: ديفيد روبسون
في عام 2010، قرر موريس فيلارويل، العالم بجامعة بوليتكنيك في مدريد، عند بلوغه 40 سنة، أن يعيد تقييم حياته. وراودته فكرة الاحتفاظ بسجل كامل ومادي لحياته لمدة عشر سنوات، لا ليساعده على تذكر الماضي فحسب، بل أيضا ليعينه على حسن استغلال وقته والاستمتاع بكل لحظة في حياته مستقبلا.
ومضى فيلارويل يسجل كل حركة يتحركها على مدار اليوم، وكان يبدأ بتدوين خطط اليوم في الليلة السابقة ثم يكتب ملاحظات عن تفاصيل كل مكان يزوره وكل نشاط يمارسه، حتى لو كان مجرد رحلة بالقطار أو محاضرة في الجامعة، كل 15 دقيقة أو نصف ساعة.
وعندما أجريت معه حوارا، قال لي في البداية إنه سيكتب في سجله أنه يتحدث إلي، والوقت الذي استغرقه الحوار، ثم يراجع هذه الملاحظات لاحقا أثناء انتظاره في طابور متجر البيع بالتجزئة أو في عيادة الطبيب. وبمجرد امتلاء دفتر الملاحظات، سينقل محتوياته إلى برنامج إكسل.
وكان الفيلسوف الإغريقي سقراط يقول إن الحياة التي لا نمعن النظر فيها لا تستحق أن نعيشها. ويعد فيلارويل جزءا من حركة جديدة لتسجيل معلومات عن الذات، إذ بدأ عدد من الأشخاص من مختلف أنحاء العالم في جمع وتسجيل معلومات عن صحتهم ونظامهم الغذائي وأنشطتهم اليومية بالتفصيل، بقصد التعرف على ذواتهم.
لكن بعد مرور تسع سنوات وتسعة أشهر على تدوين تفاصيل حياته، ما الذي تعلمه فيلارويل؟
كان فيلارويل يهدف من وراء هذا المشروع لتنظيم وقته من خلال تقييم الأنشطة التي يقضي فيها وقته وآثار هذه الأنشطة التي يمارسها على صحته وسعادته.
وكان فيلارويل على سبيل المثال يذهب للعمل بالسيارة، لكنه لاحظ بعد كتابه سجل حياته أن سلوكيات قائدي السيارات قد تثير ضجره، وتسبب له ضغطا نفسيا يلازمه طوال اليوم. ويقول إنه الآن يذهب للعمل بالقطار أو سيرا. وقد ساهمت هذه التغييرات الطفيفة في تحسين رضاه عن حياته.
وساعدته السجلات أيضا في الاستفادة من التجارب التي يواجهها في العمل يوميا، إذ أصبح بإمكانه الآن تدقيق النظر في أدق التفاصيل اليومية التي تساعده في تحسين أدائه. ويقول إنه لولا هذه السجلات، لكانت هذه الأفكار ذهبت طي النسيان.
كما تعينه هذه الملاحظات على تذكر المحادثات التي دارت بينه وبين الطلاب والاستفادة منها في تلبية احتياجاتهم الشخصية. ويقول فيلارويل إن مراجعة هذه السجلات ساعدته في التحكم في انفعالاته، وأصبح أقل انفعالا في المواقف المثيرة للضغوط والتوتر. ويرى أن تقييم الذات يجعله ينظر للأحدات من منظور محايد، كما لو كان شخصا آخر، لا علاقة له بالأمر.
وبإمكانه الآن مطالعة تفاصيل كل يوم وكل ساعة خلال العشر سنوات، ويقول إنه يعرف أن حياته كانت زاخرة بالأحداث قبل سن 40 عاما، لكنه لا يستطيع تذكر تفاصيلها. ويشعر كلما نظر إلى حجم السجلات، أن هذا العقد من حياته كان أطول من العقود السابقة.
وانتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تسجيل التجارب الحياتية وتحليلها باستخدام أجهزة واستراتيجيات متعددة، وأفرزت هذه الظاهرة حركة للتعرف على الذات بالأرقام باستخدام الأجهزة الذكية التي يمكن ارتداؤها لتتبع النشاط البدني والحالة الصحية.
وبدأ جيمس نوريس، مؤسس شركة "أبغريدابل" للاستشارات في إندونيسيا، في تدوين الأحداث التي مر بها في حياته منذ سن 16 عاما.
ومنذ هذه اللحظة، سجل نوريس كل نشاط وحدث جديد في حياته يمارسه للمرة الأولى، مثل دخول مطعم جديد أو تذوق طعام للمرة الأولى أو خوض تجربة جديدة. ويتتبع نوريس أيضا إنتاجيته وتنبؤاته عن المستقبل وحتى أخطاءه.
ويختزن هذه المعلومات في قاعدة بيانات الكمبيوتر ويقول: "كلما أردت أن أتذكر شيئا، أبحث عن الكلمة أو السنة وأعيش الذكريات من جديد".
ويرى نوريس أن هذه السجلات ساعدته في اختيار أفضل الطرق لقضاء وقته، ويستمد منها الثقة بالنفس والشجاعة لخوض تجارب جديدة والخروج من المنطقة الآمنة. ويقول إنها أيضا تحسن حالته المزاحية كلما تملكه اليأس.
وتؤيد الكثير من الدراسات فوائد تدوين أحداث الحياة اليومية. إذ أشارت دراسة أجرتها فرانشيسكا جينو من كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، إلى أن قضاء 10 دقائق يوميا في تدوين الأنشطة اليومية حفز أداء المشاركين بنسبة تفوق 20 في المئة خارج ساعات العمل. وأشارت أدلة كثيرة إلى أن كتابة الأنشطة اليومية وتأملها يزيد السعادة والرضا عن الحياة.
ويؤكد معظم علماء النفس فوائد تخصيص دقائق قليلة لتأمل الذات، حتى لو كان مجرد التفكير في الأحداث المبهجة التي تبعث على السعادة وتقديرها.
وإذا كنت ترى أن الكتابة أمر شاق، فثمة طرق أخرى لتسجيل الأحداث اليومية. إذ يوجد الآن نوع من الكاميرات يلتقط صورا بصورة تلقائية كل 30 ثانية طوال اليوم، وتستخدم هذه الكاميرات لمساعدة المصابين بالخرف في تذكر الأحداث اليومية، لكن الكثيرين يستخدمونها الآن لتسجيل لحظات حياتهم.
ويقول علي مير، عالم نفس من جامعة هارتفوردشير، واصفا الصور التي تساعدك في استرجاع الذكريات: "ستشعر أن التفاصيل تغمر ذاكرتك فجأة وتتذكر كل لحظة في الحدث دون سابق مقدمات". وهذا يعني أن الصور التي تلتقط دون استعداد مسبق تثير الحواس وتساعدنا على تذكر تفاصيل الأحداث بالكامل.
ويأمل البعض، مثل كاثال غورين، عالم كمبيوتر بجامعة دبلن سيتي، أن يُطور برنامج معالجة صور لتصنيف هذه الصور تلقائيا وإبراز سماتها الملحوظة، للسماح بتسجيل ذكريات اللحظة، مثل الطعام الذي كنت تأكله إلى الأشخاص الذين كانوا برفقتك والنشاط الذي كنت تمارسه. ويصف غورين هذه الصور بأنها ستكون بمثابة "محرك بحث عن الذات".
ويقول غورين إن البحث وسط هذه الصور سيساعدك في استرجاع أحداث معينة قد لا تستطيع استرجاعها دون مساعدة.
لكن البعض يرى أن حفظ كم كبير من الصور أمر شاق، ويفضل فيلارويل في المقابل تسجيل تجاربه بالكتابة في الدفاتر. ويمضي يوميا ساعة على الأقل في تدوين الملاحظات، وساعده ذلك في تحسين قدرته على إدارة الوقت.
وبينما لا ينكر أنه يشعر بالإحباط أحيانا عندما ينظر إلى الفترات غير المثمرة في حياته، إلا أنه يقول إن البحث في المفكرة عن الإخفاقات والأحداث المؤسفة الخارجة عن إرادته، يساعده في تخطيها. لأنه يشعر حينها أنه فعل كل ما في وسعه لتجنبها.
واللافت أن يوميات فيلارويل تجعله أكثر وعيا بتجاربه اليومية. ومن المقرر أن تنتهي السنوات العشر بنهاية شهر فبراير/شباط، لكنه يعتزم مواصلة كتابة يومياته حتى بعد انتهائها. ويقول: "لقد أصبحت عادة سأواظب عليها طيلة حياتي". ويصفها بأنها وسيلة للاستمتاع بكل لحظة من لحظات حياته.
اضف تعليق