فان كان المتهم من الأعضاء أو المسؤولين المحليين يملك هو أو حزبه الأغلبية في المجلس المحلي فهل نتوقع ان يتهم أصلاً أو تثار حوله الشبهات؟ وهل ان أعضاء مجلس المحافظة قادرين على معرفة المخالفات أعلاه والبت بارتكابها من عدمه؟، أليست هيئة النزاهة هي المختصة بجرائم الفساد الإداري والمالي...
تقع فلسفة المساءلة في مقدمة مقومات الحكم الرشيد وتتجلى حين يكون المشرع والجهات التي تتصل بالعملية التشريعية على علم ومعرفة تامة بالأسس المنطقية والتنظيمية ليحقق القانون المراد تشريعه الأهداف المنشودة، ويفترض ان تسبق ما تقدم جملة من التحضيرات والدراسات والاستشارات والمناقشات التي من شأنها ان تغني الموضوع وتنتج النضج التشريعي ووضوح النص وعدم الركون إلى التفسيرات الواسعة أو التأويل وفتح باب الاختلاف في الاجتهادات والتطبيقات.
إذ لا يبقى أمام السلطة التنفيذية إلا وضع الخطوات العملية التي يستلزمها النظام القانوني ليرى التشريع النور بالتطبيق العملي، أما ان يكون المشرع حبيس أفكار مسبقة ورهين للفعل ورد الفعل ويقدم المصلحة الضيقة على نظيرتها العامة، فلن يكون الأمر إلا بمثابة التشريع الذي يولد ولادة قيصرية وهو محكوم عليه بالموت ابتداء، وان من أولى مهام المشرع فهم التأسيس الدستوري والانتقال إلى التأسيس التشريعي وحين لا يتحقق ذلك فبالتأكيد ستكون النتائج منحرفة، والمثال على ما تقدم من المادة (122) من الدستور التي نظمت اللامركزية الإدارية في العراق حيث أشارت إلى الآتي ((ثانياً: تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة، بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وينظم ذلك بقانون.
ثالثاً: يُعد المحافظ الذي ينتخبه مجلس المحافظة، الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من قبل المجلس))، وبتمعن بسيط بالنصين المتقدمين نلحظ مسألتين مهمتين الأولى ان المؤسس الدستوري منح المحافظة اختصاصات إدارية ومالية واسعة لإدارة شؤونها بيد انه لم ينظم علاقتها مع الوزارات التي تعمل في المحافظات وتقدم خدماتها لأبناء المحافظة وتؤثر في نشاط الهيئات المحلية أو تتأثر به بلا أدنى شك.
والملاحظة الثانية ان المحافظ يفترض انه بلا اختصاصات صريحة وان مجلس المحافظة سيمنحه ذلك بيد ان المشرع في قانون المحافظات النافذ ووفق المادة (20/ والمادة 31) منح المحافظ من الاختصاصات ما جعله ند قوي جداً للمجلس المنتخب من الشعب لاسيما في موضوع المساءلة وبات المحافظ يملك ان يحاسب المجلس الذي انتخبه وجاء به إلى السلطة؟؟!!! فمن اختصاصاته الطلب إلى مجلس النواب حل مجلس المحافظة إذ ورد النص على ((لمجلس النواب حل المجلس بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه بناءً على طلب المحافظ للأسباب التالية:
1- الإخلال الجسيم بالأعمال والمهام الموكلة إليه.
2- مخالفة الدستور والقوانين.
3- فقدان ثلث الأعضاء شروط العضوية))، وفيما تقدم خطأ في تفسير الدستور واضح للعيان وتجاوز للغاية التشريعية المتمثلة بمنح ممثل الشعب سواء على الصعيد الوطني أو المحلي السلطة العليا كونه يمثل الإرادة العامة.
أضف لما تقدم ان التشريع ليتصف بالجودة والكمال لابد ان ينطلق من الحاجة العامة التي تسوغ إصداره، ومن ثم الانتقال إلى أسس التشريع المزمع، وبعد ذلك تبدأ عملية التحضير بوساطة الحكومة أو رئيس الجمهورية أو لجان مجلس النواب المتخصصة ويفضل ان يكون العمل تشاركياً ليكون أكثر رشداً واستيعاباً للمفاهيم والمتطلبات.
وما المساءلة في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم إلا واحدة من تلك المفاهيم التي وجدنا أنها جاءت بتراء عوراء شوهاء في القانون رقم (21) لسنة 2008 المعدل والسبب بتقديري ان المشرع والحكومة كلاهما وقت التشريع كان منفصل عن الواقع، ولندلل على ما تقدم بأمثلة تطبيقية:
أولاً: نظم المشرع العراقي مساءلة العديد من الجهات وهي كل من عضو مجلس المحافظ، رئيس مجلس المحافظة ونائب رئيس مجلس المحافظة، المحافظ ونائبيه، أصحاب المناصب العليا في المحافظة وكانت الحكمة التشريعية تقتضي ان:
1- يتم التعامل مع المساءلة بنحو من الدقة وتنظيمها في مورد واحد فقط، فبدل ان تشتت أحكامها بهذا الشكل المبعثر كان الأولى ان ترد في مكان محدد ليسهل الرجوع إليها.
2- القصور في صياغة أحكامها لاسيما توفير الضمانات اللازمة في محال المساءلة، فعلى سبيل المثال المشرع لم ينظم ضمانات أصحاب المناصب العليا في المحافظة على نحو الخصوص أسوة بالمحافظ وعضو المجلس إذ نص صراحة على ضرورة منحهم الحق بالطعن وفق القضاء المستعجل خلال 15 يوم والزم المشرع المحكمة بالبت في الدعوى خلال 30 يوماً ولم يمنح مدراء الدوائر مثل هذا الحق أمام محكمة قضاء الموظفين، نعم يمكنه ان يستفيد من النصوص العامة الواردة في قانون مجلس الدولة رقم 65 لسنة 1979 المعدل لكن البناء التشريعي المحكم يحتم ان يعامل الجميع على قدم المساواة وليس بالتمييز بينهم لاسيما وان الاتهامات والإجراءات متماثلة.
3- خلط المشرع بين المساءلة الذاتية والمساءلة الخارجية المتمثلة بإجراءات مجلس النواب العراقي، وأهدر دور الهيئات المستقلة التي لا يمكنها إلا الاستعانة بقوانينها للبحث عن المخالفات ورصدها وتحريك المساءلة البعيدة عنها بالاستعانة بمجلس النواب.
وعود على بدء نسلط الضوء على تطبيقات المساءلة في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل وكالآتي:
أولاً: مساءلة أعضاء المجلس:
إذ ورد النص في المادة السادسة على أنه ((يعد العضو مقالا إذا تخلف عن الحضور أربع جلسات متتالية أو غاب (4/1) ربع عدد جلسات المجلس خلال مدة أربعة أشهر، دون عذر مشروع، يدعو المجلس العضو لغرض الاستماع إلى أقواله في جلسة تعقد بعد سبعة أيام على الأقل من تاريخ تبليغه بموعدها ويعد العضو مقالاً بقرار يتخذه المجلس بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس.
للمجلس إنهاء العضوية بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه في حالة تحقق أحد الأسباب الواردة في المادة (7) فقرة (8) من هذا القانون.
عند فقدان العضو لشرط من شروط العضوية يتحمل رئيس مجلس المحافظة ورئيس مجلس القضاء مسؤولية استمرار العضو المنتهية عضويته كلاً حسب مسؤوليته)) والملاحظ ان المشرع لم يبين من يقوم بدور الاتهام لعضو المجلس الذي اعتاد الغياب عن جلسات المجلس ولم يحدد من يتولى مساءلته أو استجوابه أهي لجنة شؤون الأعضاء ام رئاسة المجلس؟ كما لم يبين طبيعة المعذرة المشروعة، أضف لكل ما تقدم ان المشرع أشار إلى تخلف أحد شروط العضوية وكان مقتضى القاعدة ان يقرر الإقالة بقوة القانون وليس ان يترك الأمر إلى محض الاجتهاد.
ثانياً المساءلة نتيجة ارتكاب مخالفة:
إذ نظم المشرع مساءلة كل من عضو مجلس المحافظة ورئيس ونائب رئيس مجلس المحافظة والمحافظ ونوابه ان ارتكب أياً منهم المخالفات الواردة في المادة السابعة البند ثامناً وهي:
أ- عدم النزاهة واستغلال المنصب الوظيفي.
ب- التسبب بهدر المال العام.
ج- الإهمال أو التقصير المتعمدين في أداء الواجب والمسؤولية.
د- فقدان أحد شروط العضوية.
والسؤال ان اتهام الجهات المذكورة يتم بطلب من ثلث أعضاء المجلس فان كان المتهم من الأعضاء أو المسؤولين المحليين يملك هو أو حزبه الأغلبية في المجلس المحلي فهل نتوقع ان يتهم أصلاً أو تثار حوله الشبهات؟ وهل ان أعضاء مجلس المحافظة قادرين على معرفة المخالفات أعلاه والبت بارتكابها من عدمه؟، أليست هيئة النزاهة هي المختصة بجرائم الفساد الإداري والمالي؟ أليس التسبب بهدر المال العام من مسؤوليات هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية وكلاهما من الهيئات المستقلة التي تراقب كل الدوائر والهيئات في العراق بضمنها الجهات المحلية أو اللامركزية فكيف سيقرر المجلس ذلك؟ وماذا لو قرر الإقالة لعدم النزاهة ثم طعن صاحب الشأن أمام القضاء فكسب الدعوى وتمت تبرئته من هذه التهمة؟ أليس الأجدر ان نفعل الضمانات الدستورية في ان المتهم بريء حيث تنص المادة (19/خامساً) من الدستور العراقي النافذ على (المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، ولا يحاكم المتهم عن التهمة ذاتها مرة أخرى بعد الإفراج عنه إلا إذا ظهرت أدلة جديدة)، بمعنى ان القضاء فقط من يقرر عدم نزاهة الشخص أو تسببه بهدر المال وهذا ما أكده قانون هيئة النزاهة في المادة الثالثة بالنص على أن ((التحقيق في قضايا الفساد طبقا لأحكام هذا القانون، بواسطة محققين تحت إشراف قاضي التحقيق المختص، ووفقا لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية))، وتؤكد المادة السادسة من قانون ديوان الرقابة المالية رقم (31) لسنة 2011 على ان من مهام الديوان ((فحص وتدقيق معاملات الأنفاق العام للتأكد من سلامتها وعدم تجاوزها الاعتمادات المقررة لها في الموازنة واستخدام الأموال العامة في الأغراض المخصصة لها وعدم حصول هدر أو تبذير أو سوء تصرف فيها وتقويم مردوداتها)).
ثالثاً: مساءلة أصحاب المناصب العليا في المحافظة: إذ أشارت المادة (7/9) من قانون المحافظات إلى ((إعفاء أصحاب المناصب العليا في المحافظة بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس بناءً على طلب خمس عدد أعضاء المجلس أو بناءً على اقتراح من المحافظ ولمجلس الوزراء كذلك حق الإقالة باقتراح من الوزير المختص استنادا للأسباب الواردة في الفقرة (8) من هذه المادة)) وأهم ما يلاحظ على هذه الفقرة ان المشرع منح مجلس المحافظة سلطة إعفاء هذه الشريحة من الموظفين، بيد ان السؤال ان تم إعفاءهم بناء على استجواب يقدم بطلب من المحافظ أو خمس أعضاء المجلس ليتهم الموظف بعدم النزاهة أو التسبب بهدر المال العام أو الإهمال أو التقصير في أداء الواجب والمسؤولية أو فقدان أحد شروط العضوية.
ومقتضى الواجب ان نشير إلى ان المدير العام موظف حين يتسنم المنصب يفترض ان يقيم أدائه من الجهة الوزارية التي يتبعها كون الخشية ليست فقط بارتكابه المخالفات بل الخشية الأكبر من فشله الوظيفي في إدارة المرفق العام والإهمال أو التقصير كسبب أشار إليهما المشرع لا تكفي لتبيان ذلك، فمعيار الفشل موضوعي ويحمل الكثير من الجوانب الشخصية المتصلة بالقدرة على إدارة المرفق العام والتخطيط والمتابعة والتنفيذ وما تقدم لا يتصل بالإهمال فقط، أضف إلى ذلك ان نوعاً من التعرض قد يحصل بين مجلس الوزراء ومجلس المحافظة لتداخل اختصاصهما بإعفاء المدير العام ما قد يتسبب بالإرباك.
اضف تعليق