مفهوم التعسف في استعمال الحق يمثل قضية مهمة تتعلق بممارسة الحقوق والسلطات بطرق متوازنة وعادلة. فيجب على الأفراد والجهات أن يكونوا حذرين ومسؤولين في استخدام الحقوق الممنوحة لهم، وأن يضعوا في اعتبارهم المبادئ القانونية والأخلاقية التي تحكم تلك الممارسات. هو نوع من الإساءة لاستعمال السلطة الخاصة...
لكل دولة سلطة، ولكل سلطة إدارة، ولكل إدارة موظفون -على اختلاف مستوياتهم الوظيفية، واختلاف مواقعهم- مخولون بصلاحيات على وفق القوانين والأنظمة بأداء واجباتهم في إدارة مرافق الدولة وتنظيمها. وعليه؛ قد يؤدي الموظف العمومي واجباته الوظيفية على وفق أهداف القانون والنظام، بما يؤدي إلى تحقيق المصلحة العامة، فيكون قد أحسن أداء المهمات المكلفة بها.
وقد لا يؤدي واجباته الوظيفية على وفق أهداف القانون والنظام، فيضرب عرض الحائط المصلحة العامة، بغية تحقيق مصالح شخصية؛ أو عائلية؛ أو مناطقية؛ أو حزبية؛ أو عنصرية، فينحرف عن الواجبات المناطة له. بالمحصلة ستكون السلطة أداة يستغلها الموظف للتجاوز على حقوق الآخرين وظلمهم، بدلا من تحقيقها وحفظها.
والسؤال هنا ماذا نقصد بظاهرة إساءة استعمال السلطة أو تجاوزها؟ وماهي شروط تحقيقها؟ وماهي صور إساءة استعمال السلطة؟ وماهي آثارها؟ وكيف يمكن حمايتها؟
التعسف في اللغة هو الظلم أو الاستبداد. فيُقال (شَعْبِي أَبِيٌّ لاَ يَقْبَلُ التَّعَسُّفَ) أي لاَ يَقْبَلُ الظُّلْمَ، ويُقال (شخصٌ مُتعسِّفٌ في قراراته) إذا استبد برأيه. وقد ورد في كلام الإمام علي عليه السلام: (استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف).
الأصل أن الإنسان يحق له أن يتصرف في ملكه، أينما شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، كما هو مقتضى قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم)، كذلك هو حرّ في تصرفاته بحسب الحق الممنوح له في ذلك. ولكن يحصل التعسف إذا استعمل الإنسان أو استغل حقّه بقصد الظلم والإضرار بالآخرين، وإن لم يكن هذا التصرف في حدود الاعتداء والتجاوز عن الحق، فيكون تصرفه هذا باطلاً وغير نافذ من هذه الجهة، لأن قاعدة السلطنة التي مفادها أن الناس مسلّطون على أموالهم يتصرفون فيها كيف شاءوا إنما ذلك إذا لم يقصد الإضرار بالغير، أما مع قصد الإضرار فلا معنى للسلطنة، فلو لو لم يقصد الإضرار فتصرفه مشروع؛ لأنه يستعمل حقه وإن صادف تضرر الغير منه، أما لو قصد الإضرار فسد تصرّفه.
أي أن ما يميّز الاستعمال الطبيعي للحقّ والاستعمال التعسّفي له مع أنّ كلّ منهما يستخدم الحقّ في إطار الحدود المرسومة له هو قصد الإضرار، وبدون قصد الإضرار يكون استعمال الحقّ استعمالاً طبيعيّاً له، ولذا ما يميّز بين الاستعمالين هو القرائن الخارجيّة، فهي التي تكشف لنا الاستعمال الطبيعي للحق من الاستعمال التعسّفي له.
يُقصد بإساءة استعمال السلطة: هي خروج الموظف عن الحدود القانونية للوظيفة العامة، وينطوي ذلك على السلوك المخالف لما تقتضي به القوانين واللوائح والأنظمة، وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. ويوجد انحراف بالسلطة عندما تستخدم الإدارة اختصاصاتها من أجل غرض غير المصلحة العامة، سواء كان هذا الغرض مصلحة خاصة أو هدف سياسي، ويوجد كذلك انحراف بالسلطة عندما تتخذ جهة الإدارة قرار من أجل هدف يتعلق بالمصلحة، ولكنه أجنبي عن الهدف الذي حدده التشريع الذي تدعى الإدارة إلى تطبيقه.
يشترط لتحقق التعسف في استعمال الحق توافر عنصرين أساسيين، هما: عنصر الضرر: وهو أن يتسبب استعمال الحق في إلحاق ضرر بالغير. وعنصر التعسف: وهو أن يكون استعمال الحق مخالفاً للقواعد القانونية أو الأخلاقية أو حسن النية. ويمكن تقسيم عنصر التعسف إلى ثلاثة عناصر فرعية:
عنصر المخالفة للغرض: ويقصد به أن يكون استعمال الحق مخالفاً للغرض الذي من أجله أقره القانون.
وعنصر تجاوز الحدود: ويقصد به أن يكون استعمال الحق يتجاوز الحدود التي يفرضها القانون أو العرف أو حسن النية.
وعنصر قصد الإضرار: ويقصد به أن يكون استعمال الحق يهدف إلى الإضرار بالغير دون أن يكون هناك مصلحة مشروعة لصاحب الحق في ذلك.
ونجد أنّ هناك عدة صور لخروج الإدارة عن المصلحة العامة في قراراتها أهمها: حالة استهداف مصلحة شخصية أو محاباة الغير، وحالة استعمال السلطة بقصد الانتقام، واستعمال السلطة لغرض سياسي أو حزبي، واستعمال السلطة قصد التحايل على أحكام القضاء.
يتحقق استعمال السلطة لتحقيق مصلحة شخصية أو محاباة للغير عندما يقوم مصدر القرار بمناسبة ممارسة وظيفته بإصدار قرار إداري هدفه غير تحقيق المصلحة العامة، وإنما بغرض تحقيق منفعة شخصية تعود إليه أو إلى الغير، ويقصد بها تطبيق القانون على وجه غير عادل. وهذا النوع من التعسف في استعمال السلطة كثير ما يرد في الحياة العملية الإدارية، بحيث نجد بعض رجال الإدارة الذين يخالفون القوانين يتعسفون في استعمال سلطتهم بقصد تحقيق مصالحهم الشخصية أو محاباة للغير على حساب أشخاص آخرين تعسفا في استخدام سلطتهم المخولة لهم مخالفين بذلك القانون، فالقوانين والأنظمة وضعت من أجل تحقيق المصلحة العامة دون المساس بمصالح الأفراد.
ويتحقق التعسف بالسلطة بقصد الانتقام، عندما يقصد الموظف إلحاق الأذى بالغير والانتقام لإشفاء الغليل والأحقاد. وهذه الحالة نجدها أكثر عند الموظفين عند إصدار القرارات التأديبية على وجه الخصوص والتعسف فيها قصد الانتقام، ومثال ذلك: أن يصدر مدير الدائرة قرارات متعددة تتضمن عقوبات بحق موظف لا يستحق فعله إلا عقوبة واحدة.
ويتحقق استعمال السلطة لغرض سياسي أو حزبي عندما تصدر الإدارة قرار لغرض أو لغاية حزبية أو سياسية بعيدة عن المصلحة العامة، بحيث يستعمل رجال الإدارة السلطة الممنوحة لهم لتحقيق اعتبارات سياسية، وإن كان من المفروض على الإدارة أن تبتعد عن السياسة إلاّ أنّ الميول الشخصية كثيرا ما تحيد بشخص عن جادة الصواب، ولذلك فإنّ لهذه الاعتبارات أثر كبير في فساد الإدارة في كثير من الدول التي لم تنضج سياسيا، ولعل أبرز ما ساعد على انتشار هذا النوع من التعسف الإداري في استعمال السلطة السماح للموظفين الإداريين بالانضمام إلى الأحزاب السياسية احتراما لحقهم في حرية العقيدة والسياسة، وهذه الصورة تظهر في الدول التي تأخذ بنظام التعددية السياسية.
ومن المفروض أنّ الإدارة تبتعد عن اتخاذ القرارات بدافع سياسي حتى لا تنحرف عن المصلحة العامة، ولا تؤدي إلى انتشار الفساد داخل الإدارة وذلك على اعتبار أن اتخاذ القرارات الإدارية بناء على دوافع وبواعث سياسية قد يؤدي إلى الإضرار بالمصلحة العامة.
وإذا كانت القاعدة العامة تقوم على عدم إصدار قرارات تحمل دوافع ونزوات سياسية أو حزبية، فمخالفة الموظف لرئيسه أو للوزير في العقيدة السياسية لا يسوغ عزل هذا الموظف أو المساس به، وهذه القاعدة لها استثناء بالنسبة للوظائف ذات الطابع السياسي كوظائف المحافظين أو وظائف كبار القادة العسكريين، فهذه الوظائف شديدة الحساسية، فأصل هذه الوظائف لابد لشاغليها أن يكونوا متوافقين مع الحكومة من الناحية السياسية.
ويتحقق استعمال السلطة قصد التحايل على أحكام القضاء، عند مخالفة الإدارة، وعدم احترامها للأحكام القضائية المكتسبة للدرجة القطعية مما يجعل القرار الإداري مشوبا بعيب مخالفة القانون، ولكن الإدارة أذكى من ذلك، فقد تدعي تنفيذ الأحكام القضائية في الظاهر، وتتحايل في عدم تنفيذها بطريقة غير مباشرة، وهنا تكون الإدارة تعسفت في استعمال سلطتها.
وإذا ما ثبت تعسف السلطة فأنها ملزمة بالتعويض، والتعويض عن التعسف في استعمال الحق يمثل جزءًا مهما من جهود تحقيق العدالة وتصحيح الظلم الذي يمكن أن يحدث نتيجة لاستخدام السلطة والحقوق بطرق تعسفية وغير مبررة. هذا المفهوم يعكس الجهود التي تبذلها المجتمعات والأنظمة القانونية لتعويض الأفراد أو الجهات التي تعرضت لإساءة استخدام السلطة أو الحقوق من قبل الآخرين.
والتعويض يمكن أن يكون في شكل تعويض مالي أو مادي للأضرار التي لحقت بالشخص أو الممتلكات نتيجة لتصرفات تعسفية. ويمكن أن يشمل ذلك تعويضًا للضرر الجسدي، والنفسي، أو المادي الذي ألحق بالضحية. هذا يشمل أيضًا التعويض عن فقدان الفرص أو الأضرار التي قد تكون غير مادية.
علاوة على ذلك، يمكن أن يشمل التعويض تصحيحًا للظروف الاجتماعية أو القانونية التي أدت إلى استخدام التعسف في استعمال الحقوق. على سبيل المثال، يمكن تطبيق سياسات وإصلاحات تهدف إلى تعزيز المساواة وحماية حقوق الأفراد ضد التعسف. ويتم التعويض أحيانًا من خلال القضاء، حيث يمكن للمحاكم أن تصدر أحكامًا تقضي بدفع تعويضات للأفراد أو الجهات المتضررة. هذا يشمل التحقق من الأدلة وتقدير قيمة الأضرار واتخاذ القرار بشأن المبلغ المالي الذي يجب دفعه.
لذلك اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استخدام السلطة في عام (1985) وذلك إدراكا بأن "الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم يعانون من الأذى من جراء الجريمة والتعسف في استعمال السلطة وأن حقوق هؤلاء الضحايا لم تحظ بالاعتراف الوافي بالغرض". كما أدرك الإعلان (1985) بأن "كثيرا ما يتعرض ضحايا الجريمة وضحايا إساءة استخدام السلطة، وفي الكثير من الأحيان عائلاتهم والشهود والأشخاص الذين يساعدونهم، بشكل غير منصف، للخسارة أو الضرر أو الإصابة، كما يمكنهم، بالإضافة إلى ذلك، أن يعانوا من المشقة في محاكمة الجناة.
وجاء في البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام على (6- حق الحماية من تعسف السلطة: لكل فرد الحق في حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوز مطالبته بتقديم تفسير لعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه، ولا توجيه اتهام له، إلا بناء على قرائن قوية تدل على تورطه فيما يوجه إليه: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
في ختام هذا المقال نخلص إلى ما يأتي:
1. إن مفهوم التعسف في استعمال الحق يمثل قضية مهمة تتعلق بممارسة الحقوق والسلطات بطرق متوازنة وعادلة. فيجب على الأفراد والجهات أن يكونوا حذرين ومسؤولين في استخدام الحقوق الممنوحة لهم، وأن يضعوا في اعتبارهم المبادئ القانونية والأخلاقية التي تحكم تلك الممارسات.
2. يعد التعسف في استخدام السلطة هو نوع من الإساءة لاستعمال السلطة الخاصة بالشخص وذلك من خلال سوء تصرف أو سلوك يقوم به وهو في منصبه، حيث يتم تصنيف هذا السلوك على أنه سيء عند ارتكاب أو فعل شيء غير قانوني، ولكن يتم بصفة رسمية من خلال استخدام السلطة، مما يؤثر على أداء الواجبات الرسمية للشخص.
3. ضرورة وجود آليات رقابية وقوانين تحد من إمكانية التعسف في استعمال الحقوق والسلطة، وتحد من تأثيراتها السلبية على الفرد والمجتمع. بواسطة هذه الآليات، يمكن تحقيق التوازن بين ممارسة الحقوق والسلطة وبين ضمان عدم التجاوز الزائد عن الحدود المشروعة والمسموح بها من قبل المجتمع والقوانين.
4. إن تعزيز الشفافية والمساءلة، وتوجيه الوعي القانوني، وتشجيع النقاش العام حول هذا الموضوع يساهم في تحقيق بيئة أكثر عدالة وتوازنًا في استخدام الحقوق والسلطات. وبتبني القيم الإسلامية المتعلقة بالعدل والإنصاف وحقوق الإنسان، يمكن للفقه الإسلامي أن يسهم في توجيه الأفراد والجماعات نحو ممارسة الحقوق بطرق مشروعة ولا تعسفية.
5. يهدف التعويض عن التعسف في استعمال الحق إلى تحقيق العدالة وتصحيح الظلم، وضمان أن الأفراد والجهات ذات الصلة يحصلون على تعويضات تعكس الأضرار التي لحقت بهم نتيجة للتصرفات التعسفية.
اضف تعليق