الطيور على أشكالها تقع، معنى متداول بين الجميع، يخص طبيعة العلاقات بين الأشياء مع بعضها، وبين الكائنات، من هذه الأشياء مثلا، الحكومات الديمقراطية ونقيضها، فالديمقراطية كمفهوم ومنهج حياة، لا يمكن أن تلتقي بالفساد، إلا اذا كانت ديمقراطية كاذبة، او مزيفة، أو مريضة، لكن الفساد يمكن أن يلتقي بقوة مع الحكومة الدكتاتورية، كونهما يشبهان بعضهما وينطبق عليهما قول (الطيور على أشكالها تقع).
في العراق تعاقبت حكومات ملكية وجمهورية، لم تكن على ما يرام، لاسيما الجمهورية التي معظمها كان وليد الانقلابات العسكرية، والسيطرة على الحكم بالقوة، ولذلك لو أننا بحثنا عن جذور الفساد ومظاهره، سوف نجدها في تلك الحكومات، ولكن ما معنى أن تجد الفساد منتشرا في حكومات ما بعد نيسان 2003؟؟، بكلمة اخرى لماذا ينتشر الفساد في مؤسساتها ومفاصلها، مع أن هناك تناقضا بين الحكومات الديمقراطية والفساد.
ان الشعب العراقي لم يكن متهاونا مع السلطات الحكومية التي تعاقبت على حكمه، ولم يكن هو السبب المباشر للفساد، كما يؤكد بعض الخبراء والمعنيين، ولكن سياسات القتل والتعذيب والتشريد والتهميش وما شابه، لم تبق لهذا الشعب ذخيرة نفسية او روحية او إرادية، يقاتل بها الحكام المتسلطين المتجبرين، وقد تم سحق الشعب، وتدمير ارادته بصورة تامة، وتم قمعه بصورة وحشية.
يثبت هذه الوحشية في التعامل الحكومي مع الشعب العراقي، تلك الرحلة الطويلة والشاقة والتي استغرقت قرابة أربعة عقود أمضاها العراقيون مع النظام السابق وهم يعيشون الاستبداد بأقوى درجاته، ومع ذلك كانت هناك احتجاجات لا يمكن نسيانها، منها انتفاضة عام 1975 في النجف، وعام 1991 في عموم العراق، وغيرها من الانتفاضات التي كانت تُقمع بقوة السلاح، فيما قدم العراق أعدادا كبيرة من الشهداء، حيث اعدموا كونهم عارضوا اسلوب القمع، الذي رافقه الفساد في مفاصل الدولة كافة.
العصر العراقي الديمقراطي
إننا عندما نقرأ عن موجات الفساد التي كانت تضرب الشعب العراقي في ظل تلك الحكومات، لا نستغرب ذلك، لأن بيئة الدولة والحكومة تساعد على ذلك، حتى يكاد الفساد يشكل أهم مظاهرها، وهو أمر متوقّع تماما، فالفساد يزدهر في تربة الاستبداد، ولكن بعد هذه الرحلة المريرة مع القمع، والتسلط، والتكميم، والحروب، والحصارات، انتقل العراقيون بعد نيسان 2003 الى عهد جديد، وصفه كثيرون بأنه العصر العراقي الديمقراطي، الذي لا رجعة عنه، كونه حصيلة لعقود بل قرون من العذاب والجوع والحرمان والتخلف.
فرأى العراقيون أن عصر الديمقراطية الحقيقي قد بدأ مع التغيير السياسي الدراماتيكي الذي اطاح بالنظام القمعي السابق، لكن مع مرور سنوات العهد الديمقراطي، بدأت ظواهر ومظاهر الفساد تطفو على السطح بقوة ووضوح، وبدأت تنشأ بؤر الفساد وتترعرع وتنمو في ظل النظام الديمقراطي الجديد، لتفرض نفسها في التشكيلات الحكومية التي انتخبها الشعب، في ممارسات ديمقراطية لم تكن متاحة للعراقيين سابقا، ولعل أسوأ وأخطر هذه الظواهر، على العهد الديمقراطي الجديد، إنتشار الفساد المالي والاداري في الاجهزة الحكومية الخدمية وغيرها، الأمر الذي يشكل تناقضا في العلاقة بين الاثنين، الفساد والديمقراطية، ولكن كما يتضح أن العراقيين لم يحققوا بعد نموذج الديمقراطية السليمة.
فنشأ جيل جديد من المافيات والعصابات، مع المتجذر منها في السابق، وبدأت تنتشر وتتسلل الى الاجهزة الحكومية كافة، فعاثت فسادا بالدولة ومؤسساتها، وشرعت بسرقة ثروات الشعب بصورة مبرمجة، وتكونت ما يشبه المافيات البيروقراطية، التي دمّرت آمال العراقيين، في الاعمار والتطور وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وذلك من خلال انتشار ظواهر الاختلاس، والتجاوز على المال العام، والرشوة التي لم تترك مرفقا حكوما إلا وتسللت إليه، لتعم وتنتشر منظومة قيم دخيلة على اخلاقيات وقيم الشعب العراقي.
تهديم متواصل لمنظومة القيم
ولعل هذا الأمر يشكل أخطر ما تعرض له النسيج المجتمعي العراقي، حيث رافق الفساد تهديم منظّم للقيم التي كانت تساعد على تماسك المجتمع، وقد ساعد مسلسل تدمير القيم على تزييف الديمقراطية ونشر الفساد بصورة متزايدة، وهكذا شاعت قيم خطيرة في المجتمع العراقي، وخاصة في الاجهزة والمؤسسات الحكومية، وتبخرت آمال الشعب في التقدم والازدهار، وذابت المشاريع التي تخدم الناس وتحمي كرامتها من الفساد وموجاته المتفاقمة، من دون أن تقوم السلطات المعنية بدورها، حتى بات يهدد آمال الجماهير الواسعة، فوقفت هذه الجموع التي عانت من الدكتاتورية في حيرة من أمرها، وبدأت بسلسلة من المظاهرات والاحتجاجات التي تحاول من خلالها أن تستعيد الحلم والأمل بحكومة ديمقراطية قوية متعافية، تمنح العراقيين سبل العيش الكريم، وتحمي كرامتهم وتصون حقوقهم التي طالما اهدرتها الحكومات القمعية السابقة.
ولكن لا تزال رؤوس الفساد تحاول حماية مصالحها التي تحققت على حساب قوت الشعب، ولا يزال هدف الاصلاح (حبرا على ورق)، باستثناء بعض الخطوات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا يزال يحاول المستفيدون من الوضع الراهن، وهم المفسدون والمختلسون وعصابات التجاوز على حقوق واموال الشعب، ان يهددوا هذا الشعب بعودة الدكتاتورية، في حالة الاعتراض على منظومة الفساد واستشرائه، لكن الامر الصحيح والذي لا يختلف عليه الجميع، ان العراقيين لا يقتنعون بمثل هذه الأٌقوال والفرضيات، ويرفضون رفضا قاطعا سرقة ثرواتهم على هذا النحو المبرمج.
لأنهم جربوا الدكتاتورية، وعاشوا ويلاتها، وتجرعوا مرارتها، لذلك لا يمكن أن يسمحوا بالعودة إليها أو بعودتها الى سدة الحكم، كما أنهم بالقوة والاصرار نفسه لايقبلون بعصابات الفساد المستشري في اجهزة الدولة، وعلى من يهمهم الامر من السياسيين قادة او غيرهم، أن يقرأوا التأريخ جيدا وأن يحذروا غضبة الشعب كما نبهّت الى ذلك (المرجعية الدينية).
لذلك ليس امام الطبقة السياسية الحاكمة الآن في العراق، سوى اعادة حساباتها بسرعة، والبدء بعملية اصلاح كبيرة وعميقة ومتسارعة في الوقت نفسه، قبل أن يمضي قطار الفرص، فلو تلكأ السياسيون اليوم سوف تعود غضبة الشعب اقوى وامضى واشد، مما سبق، وسوف تسقط عروش وكراسي كثيرة، وتحترق اوراق السياسيين الذين ساهموا بإيصال البلد الى هذا الحال البائس.
اضف تعليق