في معظم تجارب الإسلام السياسي، تجنح الجماعات السياسية الى التعددية والعمل المشترك في أجواء المعارضة للنظام الديكتاتوري، لكن ما أن تطأ إحداها عتبة السلطة ويكون الامين العام للحزب، هو رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية، يصاب بعدوى الديكتاتورية فوراً، ولا يرى سوى حزبه او جماعته وفكره. وبما أن الساحة السياسية التي ولد منها هذا الحزب (الإسلامي)، مشحونة بالاساس بالفعاليات الحزبية والنقابية، فانه لن يجد بداً من تطبيق سياسة "فرّق تسد" لتحقيق أهم هدف له يضمن بقائه فترة أطول في السلطة، وهو تمزيق أواصر الوحدة والتقارب بين هذه الفعاليات والكيانات السياسية وغير السياسية، حتى لا تكون أمامه جبهة واحدة.
الاستبداد الفكري، البداية
عندما تكون الاحزاب الاسلامية في زمن المعارضة، مشغولة بمقارعة الديكتاتورية والتنافس على تقديم الأفضل من نشاطات سياسية وثقافية وحتى عسكرية، لتوجيه الضربة الأكبر للديكتاتورية والصنم الحاكم، فانها لن تجد الوقت الكثير للمساجلات الفكرية فيما بينها، لان ربما تجد في ذلك مضيعة للوقت، وايضاً تفويت للفرصة في ساحة المواجهة مع العدو المشترك. لذا نرى الجميع يعملون بجد وحيوية، أشبه ما يكونوا بسباق الزوارق الجماعية، حيث ان كل فريق يركز جهده بالجذف بكل ما أوتوا من قوة ليصل بزورقه الى خط النهاية والفوز، لكن لنفترض – جدلاً- أن مسابقة مبتكرة حصلت بأن تجتمع جميع الزوارق في سفينة واحدة، وهذه تتسابق مع سفينة أخرى، حينها تكون فرق الزوارق الصغيرة على المحك، وكيف ستعمل لتحقيق الفوز الجماعي على السفينة الاخرى.
بعض الاحزاب الاسلامية يصاب بداء الاستبداد الفكري وعبادة الايديولوجيا وتفضيله على كل شيء، وهذا يستفحل بشكل مريع عندما يجد هذا الحزب او ذاك، أن بيده مليارات الدولارات وامتيازات سياسية وامكانات هائلة لم يعهدها من قبل، لاسيما وإن معظم بلادنا تحتل مواقع متميزة واستراتيجية في العالم، سواء من حيث ثرواتها المعدنية والنفطية، مثل العراق وايران ودول الخليج، او من حيث موقعها "الجيوسياسي"، مثل مصر، او من حيث قدراتها الصناعية مثل تركيا. لذا فانه لن يجد حاجة في الاحزاب السياسية الاخرى، بل ينظّر البعض، بأن "وحدة الفكر والمنهج هو الافضل للناس تفادياً للفوضى..."! في حين أكد العلماء والمفكرون على حقيقة أن تعدد الافكار والنظريات في إطار الاجتهاد، يحقق اكبر الفوائد للبلد في ظل التجربة الاسلامية. من ابزر هذه الفوائد، ان تكون محمية من الاطراف الفكرية والسياسية الاخرى في الساحة التي تتربص الدوائر، وتسعى لأن تكسب الاكثر بغير وجه حق، وفي حالة التفرّق والتشرذم، فان احتمال نجاح هذه المساعي المحمومة يكون اكثر، كما يكون، ليس احتمال فشل الاحزاب الاسلامية، وحسب؛ وإنما خطر السقوط الجماعي هو النهاية المحتومة.
وليس أدلّ على ما نذهب اليه، في التجربة الاخوانية في مصر، حيث لاحظ الجميع، كيف إن تاريخ طويل من الجهد الثقافي والفكري، ضاع بسنة واحدة فقط، عندما انزلقت الجماعة باتجاه الاستبداد والاستئثار بالسلطة والامتيازات السياسية التي سعى لها الرئيس السابق "محمد مرسي"، وبدلاً من يعملوا على توحيد الصفوف، ودعم الجماعات النقابية والاتحادات واستقطاب الشباب والمثقفين، انغمسوا في وحل الديكتاتورية والاستبداد الفكري الى حدّ الانحدار نحو التطرّف الديني والتكفير. فكان مصيرهم ومصير البلد الى ما آلت اليه الامور، من تفشي لغة العنف و"البلطجة" ثم خسارة فادحة للإسلاميين في تجربتهم السياسية.
بالرغم من هذه العِبر، نجد العديد من أحزاب الاسلام السياسي، يتبع هذا النهج الاقصائي، واتباع سياسة "فرق تسد"، ظناً منه أن هذه السياسة، بما فيها من مخاطر، فهي تحقق المطلوب، إلا ان سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- له رؤية مخالفة تماماً لذلك، حيث يؤكد في كتابه "لكيلا تتفرقوا": "...قليل من يعلم أن الفرقة تعود بالسوء على المفرّق نفسه، فهو أول ضحايا الفرقة، عكس التوحيد، فانه عمل صعبٌ وشاق...".
القوة المطلوبة لـ "الاسلام السياسي"
نعم؛ نطالب بأن تكون الاحزاب الاسلامية قوية في طرحها الفكري، عميقة في ثقافتها، وفي نفس الوقت، أن تكون قوتها السياسية من قوة سائر الاحزاب السياسية الموجودة في الساحة، لا أن تحيلها مراقي للصعود وصولاً الى اهدافها ومصالحها. ولكن كيف يتحقق هذا؟.
هذا هو السؤال الكبير الذي يواجه تجربة الاسلام السياسي، منذ ان عرف طريقه الى الحكم، واصبح قريباً من تحقيق الهدف المنشود بتطبيق النظام الاسلامي في الحياة. فالمطلب جميل ولا جدال فيه، تبقى المشكلة في التطبيق.
واذا قلبنا التراث الاسلامي، ربما نفاجأ بأن أعظم وأنجح تجربة ماثلة أمامنا، دون ان نعي وجودها،وهي تجربة الرسول الأكرم في أول نظام سياسي أقامه في العالم، وأول دولة حضارية متكاملة أقامها في التاريخ البشري. فان أول ما فعله لدى دخوله المدينة، وكانت حينها باسم "يثرب"، طبّق سياسة الوحدة بين المسلمين، على قلتهم، وضعف امكاناتهم، وحتى تدني ثقافتهم، وهذه الوحدة بين المهاجرين والانصار، وردم الهوّة بين الطبقات الاجتماعية والفوارق القومية وغيرها، هي التي عجّلت بنضوج التجربة السياسية في الاسلام آنذاك، وجعلت الاسلام يمتدّ ويشع في الآفاق، حتى بات الناس {يدخلون في دين الله أفواجاً}، ولم يتوقفوا عند أداء الشهادتين، او أداء الفرائض العبادية، وإنما التفاعل التام مع الاحكام والقيم والنظام الاسلامي في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وكل شيء في الحياة.
من هنا نلاحظ سماحة الامام الراحل يشير الى هذه النقطة الدقيقة في بناء الدولة على الأسس الصحيحة، وذلك في كتابه "فقه السياسية" محذراً الأمة من احتيال بعض الانظمة السياسية على الشعب والأمة باسم القانون، وهذا ما تتعكز عليه أنظمة الاسلام السياسي، أسوة بالانظمة السياسية في العالم، إلا إن "الأمم يجب أن لاتنخدع بأمثال هذه الظواهر اطلاقاً، وإلا تفشت فيهم الديكتاتورية المطلقة مما يوجب هلاك الحرث والنسل،بل اللازم ان يعي افراد الأمة إن كانت الحكومة دينية، كان اللازم ان يكون القانون دينياً حسب دساتير الدين الموجودة في منابعه...".
من هنا؛ من ينشد الاستقرار لنظامه السياسي، عليه أن يضع في الحسبان، أنه لن ينجح في الحكم لوحده، كما انه لن يستفيد من السياسة المقيتة، آنفة الذكر، إلا لبعض الوقت، لسبب بسيط، في أن "لكل فعل ردة فعل"، وربما تكون ردة الفعل أقوى وأشد، لأن التفرقة والتشرذم هي التي تكرس الازمات والمحن والمشاكل على المجتمع والشعب باكمله.
اضف تعليق