العلاقة مع الجماهير والأمة أو "القاعدة"، تمثل إحدى المحطات المهمة في طريق أي حزب اسلامي نحو الحكم، او المشاركة في النظام الحاكم، وفي البلاد الاسلامية تتحول هذه العلاقة الى اختبار عسير لمصداقية "الإسلامية" لهذا الحزب او ذاك التنظيم، بين أن تكون وسيلة الحزب نحو بناء الدولة من خلال تجربة ديمقراطية ناجحة، أو ان تكون جسراً للوصول الى السلطة وتحقيق المكاسب السياسية. لذا نلاحظ مؤشر الانحراف نحو السقوط او الارتقاء والتقدم، يكون عبر هذه العلاقة.
وبعيداً عن الشعارات والادعاءات التي تحول كثير منها الى أوراق صفراء يابسة، فان الاسلام يعطي الشرعية للعمل الحزبي وأي نوع من أنواع التنظيم في المجتمع، لما يصب في خدمة الانسان؛ الفرد والمجتمع، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في "الفقه السياسة" عندما يعد أن من "معطيات الاحزاب السياسية، تحكيم ارادة الشعب". ويقدم سماحته وصفاً جميلاً لدور الحزب بانه مثل قطرات المطر المتناثرة التي تتجمع وتكوّن شلالاً ذا قدرات خارقة. "فلابد من ان يكون هناك جماعة من الزعماء يعرفون الامور السياسية حق معرفتها، ويستقون من المجتمع بواسطة التجمعات الصغيرة؛ الاتجاهات والافكار والآراء ويصلون الى المجتمع بتلك الوسائط؛ آرائهم حول مختلف الامور، وبذلك تتجمع القدرات والافكار في سواقي خاصة، وتتمركز حتى تأتي بالنتائج المطلوبة التي تكون في صلاح المجتمع".
هذا من حيث المبدأ؛ فما هو السبيل الى ذلك؟.
مقومات الجماهيرية
ربما تبتكر بعض الاحزاب في تجارب "الاسلام السياسي" طرقاً واساليب لتجسير العلاقة بينها وبين الجماهير، بيد ان مشاهد الاخفاق والفشل في عديد البلاد الاسلامية ينبئ عن وجود خلل في الطريقة والاسلوب، وإلا لما حصل التبرّم ثم التمرّد الى حدّ التبرؤ من تجربة "الاسلام السياسي" وإظهار الحنين الى التجارب السياسية البائدة. من هنا يبدي سماحة الامام الشيرازي الى في عديد مؤلفاته، حرصاً شديداً على إنجاح هذه التجربة عندما يربطها دائماً و ابداً بالمشروعية المرجعية، ثم استيفاء كامل الشروط ليكون الحزب جماهيرياً بمعنى الكلمة، ويكون قادراً على بناء الدولة والمجتمع والتقدم بدوره في إنجاح التجربة الديمقراطية. وفي "السبيل الى إنهاض المسلمين" يشير سماحته الى قضيتين يجدر بأي حزب سياسي الالتفات اليها؛ الاولى: القيادة النزيهة، والثانية: احترام الجماهير.
لنأخذ أعمق الاحزاب الاسلامية تاريخاً وأغناها نضالاً وفكراً وحتى تضحيات – كما يسوّق لهذا الكثير- وهو ما يجتذب الآلاف بل الملايين من المؤيدين والمناصرين، بيد أن زلّة قدم واحدة لزعيم حزب او أحد كوادره نحو عاصمة اقليمية او دولية لكسب الدعم المالي والمعنوي، أو افتضاح حالة واحدة لا أخلاقية، او أي انحراف آخر في السلوك والعقيدة والفكر، كفيل بانهيار ذلك الجسر الممتد بين هذا الحزب وبين جماهير الشعب.
هكذا كان الامام علي بن ابي طالب، عليه السلام، عندما جسّد بأروع ما يكون، حالة النزاهة والعفّة في شخصية القائد فكان النموذج المتكامل الذي يُقتدى من بعده على مر الاجيال. لأن جماهير الشعب المتكونة من شرائح وأصناف متعددة تنجذب الى الشخص البعيد عن أي مشكلة او شائبة يعاني منها افراد المجتمع، مثل الكبر والغرور والأنانية وغيرها من الرذائل، فهي تتجه الى منبع الماء الطاهر والزلال ليرتوي منه الجميع. وكلما كان التفاف الناس حول هكذا قائد، زادت ثقتهم به واعتمادهم عليه، وبذلك يكون الحزب ناجحاً في مشاريعه وافكاره.
أما بالنسبة للقضية الثانية؛ فطالما تبتلى بها كثير من التنظيمات والاحزاب الاسلامية، بسبب "العجب والغرور بنفسها"، ما يعني نوعاً من الاعتداد بالفكر والرؤى التي تحملها، وهو ما يجرها الى عبادة الايديولوجيا على حساب مشاعر وآراء الجماهير، وهذا ما يجعل الحزب يتجاهل الجماهير في كثير من الموارد، رغم حاجته اليه، فنلاحظ حالات التحقير بوصف الناس بالجهلاء والمتخلفين والمسؤولين بالدرجة الاولى عن الويلات التي تعيشها الامة، وعليهم النهوض بأنفسهم وعياً وثقافة وفكراً ومعرفة ليرتقوا الى مدارج الكمال...! وهذا يتعارض تماماً مع كل التجارب الناجحة التي سجلها لنا التاريخ عن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين، خلال توليهم إدارة الدولة الاسلامية، وكيف أنهم تعاملوا مع الناس بكل احترام وتقدير، رغم خشونة الطباع وصعوبة المزاجات والتوجهات لدى افراد المجتمع آنذاك.
وينقل سماحته من تجاربه بـ "إني لاحظت في التاريخ كثيراً من الحركات الاسلامية منذ مائة عام أنها فشلت في تقديم الامة الى الامام، بسبب عدم احترام الجماهير، وبالنتيجة حصول انفصال الجماهير عنها، فظلت وحدها في الميدان، تنادي وتستنهض الهمم، ولا تسمع سوى صدى نداءاتها".
الاسلام السياسي بين اسطنبول وكربلاء!
إن مسألة الجماهيرية ليست كلمات تكتب على لافتات عريضة وترفع هنا وهناك لكسب ودّ الجماهير، بقدر ما هي سلوك وتطبيق عملي ملموس من قبل عامة الناس. ومن أهم مفاصل الاختبار في صحة وسلامة هذه العلاقة، اختيار أوقات الأزمة والشدّة التي يمر بها الناس، وليس في وقت الانبساط والحبور، كما نلاحظ في المهرجانات الخطابية والحملات الانتخابية التي ترافقها العطاءات والوعود المعسولة، بينما الناس يكونوا اكثر حاجة الى الحزب والتنظيم السياسي عندما يقدم التضحيات بسبب العدوان الداخلي، متمثلاً بالارهاب التكفيري، او ربما يكون في حرب مع جهة خارجية، او حتى يصاب بنكبة بسبب كوارث طبيعية أو دواهي مختلفة.
مثالنا الاول الذي يدّعي اليوم أنه نموذج الاسلام السياسي الناجح في الشرق الاوسط، فقد حصل ان تمكنت إحدى أمهات الجنود الاتراك القتلى في المعارك مع حزب العمال الكردستاني، من الحديث هاتفياً مع الرئيس رجب طيب أردوغان، وكانت متأثرة بفقدانها ولدها، فعلا صوتها بالنحيب والتنديد بسياسة الاخير في التعامل مع القضية الكردية بهذه الطريقة، ومما قالته: "انك لن تفهم مشاعر الأم المفجوعة بابنها، ولو أن ابنك بلال جاؤوا به ملفوفاً بالعلم التركي، لفهمت هذه المشاعر... لماذا يجب ان يضحي شبابنا من اجل تحسين مستوى شعبية حزبك..."؟! فما كان من اردوغان إلا ان واجهها بالصوت المرتفع والمتوتر ايضاً بان "لم نجبره على الانضمام الى الجيش، وكان بامكانه اختيار عمل آخر يخلو من المجافزة..."!!
وفي صورة أخرى في الجهة المقابلة، وهي ليست من الوقت الحاضر الذي نعيشه مع الاسف الشديد، إنما هي تعود الى أيام ثورة العشرين المجيدة، وتحديداً الى دار قائد الثورة الامام الميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- الذي ينقل الامام الراحل من احد المراجع ان شهد شخصياً هذا الموقف من القائد الشيرازي، عندما تقاطر الناس عليه في الايام الايام الاولى من اندلاع الثورة ليأخذوا منه التعليمات والتوجيهات ويسمعوا منه الجديد، فاضطربت علاقته مع طلبة الحوزة العلمية، وهي العلاقة المعتادة كل يوم طوال سنوات، فأفضى اليهم بنصيحة، بأني الآن لا اتمكن من التواصل معكم في أمر الحوزة العلمية، لكن بامكانكم التواصل معي بعد صلاة الفجر كل يوم حيث أخرج الى الشوارع الممتدة في اطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم او أي شخص آخر من لقائي على انفراد. وهكذا حصل الجميع مبتغاهم من هذا المرجع الكبير في اخلاقه وشخصيته وقيادته، لذا فان الامام الراحل يذكر هذه القصة بغير قليل من التأثر ويعدها سبباً مكن القائد الشيرازي من طرد بريطانيا من بلد المقدسات (العراق)، "بسبب المحبوبية المنقطعة النظير التي اكتسبها جراء أخلاقه الطيبة وجماهيريته الواسعة".
وإذن؛ فان "الاسلامي" الذي يروم خوض العمل السياسي ،عليه الالتفات جيداً الى هذه النقطة الى جانب نقاط وعوامل نجاح مهمة في الطريق، وإلا تتحول العوامل التي يحملها ويريد تجربتها في "سياسته الاسلامية" الى اسباب فشل وسقوط مريع.
اضف تعليق