جاء في وصية لأمير المؤمنين، لابنه الامام الحسين، عليهما السلام: "... أي بني! من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطاء".
لا يختلف اثنان اليوم، ما للشورى والمشورة، من فوائد ملموسة وآثار واضحة في الحياة، فحتى الطب استعان بالمشورة لمزيد من التحقق في أفضل الطرق لتحقيق العلاج الصحيح وتجنب الاخطاء ما أمكن، حيث تقوم بعض المستشفيات في العالم بتشكيل لجنة طبية خاصة لبعض الحالات المرضية، للبحث في المرض او الحالة الموجودة قبل إصدار أي حكم او قرار بإجراء عملية جراحية او غير ذلك. بينما نلاحظ في بلدان اخرى، يأتي قرار العملية الجراحية، حتى وإن كانت معقدة وحساسة، من طبيب واحد، وبجرة قلم، وهو ما يعقبه في معظم الحالات، من أخطاء كارثية تؤدي احياناً الى موت أو عوق المريض.
كما نلاحظ هذه الثقافة في المحيط التجاري والاقتصادي "المتحضّر"، حيث تعقد مجالس إدارات الشركات الكبرى في مجالات الانتاج او الاستثمار او التسويق وغيرها، وتتخذ قرارات جماعية، بناءً على استجلاء شامل للآراء والافكار المطروحة على طاولة البحث بغية التوصل الى أفضل الخيارات التي تحقق المكاسب والنجاح.
وفي مجتمعاتنا، وبسبب الشدّ السياسي وتسليط الاضواء على مسرح السياسة اكثر من غيره في مرافق الدولة، فان البعض يخال أن مصطلح الشورى، يفترض ان يتجسّد في مجلس النواب، والذي تتمخض منه الحكومة، كما هو حال النظم البرلمانية، او تكون له اليد الطولى على السلطة التنفيذية برئاسة رئيس الجمهورية، في حين يؤكد سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "الشورى في الإسلام" على الحقيقة الحضارية الساطعة بان "الشورى مبدأ إسلامي عام لا يختصّ فقط في المجال السياسي، بل حتى في الحياة الاسرية والاجتماعية". وتأتي التفاتة سماحته انعكاساً لمنهج أهل البيت، عليهم السلام، والذي يعد وصية أمير المؤمنين لابنه الامام الحسين، عليهما السلام، جزءاً منه.
هنا يقفز السؤال أمامنا؟، اذا كان الخطأ او الانحراف مبغوضاً من الجميع، فما الذي يدفع البعض للاستبداد بالرأي وعدم "استقبال وجوه الآراء" للوصول الى جادة الصواب والى الحق والحقيقة؟.
معظم من يتحدث عن شروط النجاح واسباب الفشل، نراه يتجه الى المواصفات الشخصية بشكل كامل، فاذا كان هذا المسؤول او ذاك المدير او الوزير، حاملاً للقدر الاكبر من المؤهلات العلمية ومن التجارب والخبرات و... فانه يحمل معه اسباب النجاح، والعكس بالعكس تماماً، ويعزون الفشل او حتى الهزيمة في مختلف الجبهات، الى القرارات الارتجالية والمنطلقات العاطفية والمصلحية الخاصة للحزب والجماعة.
وهنا تغيب مسألة المشورة وتقليب أوجه الآراء، مع العلم بأهمية تلكم المواصفات لوجود شخص ناجح في ادارة المؤسسة او الدائرة او الوزارة. بيد أن المشورة تغيب لأنها تكلف صاحبها اجراءات ذات طابع اخلاقي وبشكل مستمر، بمعنى ان المشورة الدائمة في محيط العمل وخلال التعامل مع الآخرين، تستدعي أرضية نفسية مرنة وخصال تمكن صاحبها من استحسان المشورة إن جاءته، بل حتى يذهب هو اليها سعياً وبحثاً لما يرى فيها من الفوائد.
وفي مقدمة هذه الخصال؛ التواضع، التي يؤكد العلماء والمفكرون على أنها الشرط الاساس في مسألة الاستفادة من تجارب وخبرات وآراء الآخرين، فعدم وجود هذه الخصلة والقابلية في نفس الانسان، فانه لن يتمكن من الاستفادة من أي شيء امامه، حتى وإن جاءوا به اليه متوسلين! فهو يرى نفسه فوق هكذا امور، وفي غنى عن النصيحة والرأي الآخر.
لذا نجد ان معظم الذين تكالبت عليهم الاخطاء في حياتهم، يفتقدون خصلة "التواضع"، فالعلو لا يجعل الانسان ينظر الى ما حوله، كما الشجرة الصغيرة، كلما كانت أكثر امتداداً في الارض وأقرب الى الماء والاملاح، كانت أقرب الى الحياة والنمو، بينما اذا كانت على مرتفع من الارض فأنها تتحول الى ساق يابس سرعان ما ينكسر.
هذه الثقافة طالما أكد عليها أهل البيت، عليهم السلام، وفي طليعتهم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، والهدف منها، تنمية حالة التواضع المعرفي – إن صحّ التعبير- والاستماع الى الآخر طلباً للصواب ومزيداً من المعرفة والمضي قدماً في جادة الصواب. فقد كانوا، عليهم السلام، يستشيرون اصحابهم في بعض الموارد، وكان أمير المؤمنين، عليه السلام، يكرر في احاديثه على اهمية المشورة على أنه "ما خاب من استشار"، و "لاظهير كالمشاورة"، واحاديث كثيرة اخرى.
كل ذلك لتتحول المشاورة الى ثقافة عامة في المجتمع، تبدأ من الأسرة الصغيرة، ثم تتوسع الى محيط العمل في الدوائر الرسمية او السوق او المصانع والمدارس والحوزات العلمية، ثم الى المراتب القيادية في الدولة وهكذا. فاذا شكا البعض من حالة الاستبداد بالرأي لدى هذا المسؤول او ذاك، فعليه ان يتفحّص الخلفية الاجتماعية له، ويجد كيف كان بين أسرته ومحيطه الاجتماعي وبين اصدقائه؟ فان كان محباً للمشورة وتبادل الآراء، من المستبعد جداً ان يتحول مستبداً برأيه عند توليه منصباً معيناً، فالسجايا الاخلاقية لا تتغير بسهولة.
من هنا فان تجنب الخطأ والانحراف له ثمنه الذي ينبغي ان نكون مستعدين لتقديمه، وهذا احداها، وقطعاً هناك فواتير أخرى في الطريق لمن يروم تحقيق أعلى نسبة من الصواب في حياته.
اضف تعليق