يستكمل بناء الدولة كمؤسسات عامة قائمة على أساس متين مرتبط بالإرادة الشعبية، وفيه تكون الديمقراطية منهج راسخ، والتداول السلمي للسلطة ثقافة عامة، من خلال بناء مجتمع مدني متماسك ومتكامل يدعم الإصلاح ويشخص مواطن الضعف والوهن ويقيم الأداء العام للسلطات. وقد سمح الدستور العراقي بالانتقال نحو أفق أوسع...
يستكمل بناء الدولة كمؤسسات عامة قائمة على أساس متين مرتبط بالإرادة الشعبية، وفيه تكون الديمقراطية منهج راسخ، والتداول السلمي للسلطة ثقافة عامة، من خلال بناء مجتمع مدني متماسك ومتكامل يدعم الإصلاح ويشخص مواطن الضعف والوهن ويقيم الأداء العام للسلطات.
وقد سمح الدستور العراقي للعام 2005 بالانتقال نحو أفق أوسع من العمل المدني في العديد من نصوصه ومنها على سبيل المثال ما ورد في المادة الثانية والعشرون التي قضت بأن "تكفل الدولة حق تأسيس النقابات والاتحادات المهنية، أو الانضمام إليها، وينظم ذلك بقانون" وأضافت المادة الخامسة والثلاثون بأن "ترعى الدولة النشاطات والمؤسسات الثقافية، بما يتناسب مع تاريخ العراق الحضاري والثقافي، وتحرص على اعتماد توجهات ثقافية عراقية حقيقية".
كما إن المادة التاسعة والثلاثون أرست مبدأ مهما جدا يتعلق بحرية العمل الحزبي حيث ورد النص بالشكل الآتي "حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها مكفولة، وينظم ذلك بقانون// ثانياً لا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية، أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها".
وأتمت المادة الخامسة والأربعون أركان المجتمع المدني بالنص على أن "تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، ودعمها وتطويرها واستقلاليتها، بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها، وينظم ذلك بقانون".
وللاستزادة نعرج على مفهوم المجتمع المدني فهو بحسب ما انتهى إليه الفقه مجموعة المنظمات أو التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المؤثرة في الرأي العام واتجاهات السلطة العامة، ومنهم من يضيف ان المجتمع المدني عبارة عن مجموعة من التنظيمات التطوعية الخاصة غير المرتبطة بالحكومة وغير الإرثية، تمثل حلقة الوصل بين المجتمع وهيئات الدولة العامة، وهي بالعادة تسعى لتحقيق الصالح والنفع العام، وقد عرف برنامج الأم المتحدة الإنمائي منظمات المجتمع المدني غير الحكومية بأنها "مجموعة الروابط والجمعيات التي ينظم بها المجتمع نفسه بصورة طوعية وهي تشمل:
1- النقابات.
2- المنظمات غير الحكومية.
3- الجمعيات النسائية والثقافية والدينية واللغوية.
4- الجمعيات الخيرية.
5- روابط رجال الأعمال.
6- النوادي الاجتماعية والرياضية.
7- التعاونيات ومنظمات وجماعات حماية البيئة.
8- المؤسسات الأكاديمية، مؤسسات الأبحاث السياسية.
9- وسائل الإعلام وتدخل فيها أيضاً الأحزاب السياسية، وان كانت تعد جزءً من المجتمع المدني ومن الدولة على حد سواء في حال تمثيلها في البرلمان"
ومما تقدم يمكننا ان نحصي بعض خصائص هيئات المجتمع المدني ومنها:
1- هو مجموعة غير متجانسة من الهيئات أو الأشخاص المعنوية الخاصة والتي تشكل الطبقة الوسطى بين مؤسسات الدولة وفئات لمجتمع.
2- تقوم العلاقات بين القائمين على هذه الهيئات على أساس الرابطة الاختيارية في الانضمام والطوعية في العمل.
3- الاستقلالية حيث تتميز هذه الهيئات بالذاتية المتميزة من حيث التكوين أو الإنشاء والتسيير والتمويل.
4- التخصص حيث تتميز بتخصصها بعمل أو نشاط يتصل بأحد أوجه النفع العام.
وعلى الجانب الآخر يشكل الحكم الراشد أولوية وطنية حقيقية لإدارة الشأن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بكفاءة فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً يكون للحكم الراشد دورا في إدارة الشأن المالي لتدبير الموارد وترشيد إنفاقها وما يتصل بتدبير وإدارة الموارد واستدامتها وعدالة توزيعها.
ومن الثابت إن هذا المفهوم ارتبط بتغير دور الدولة حيث لم تعد هي المؤثر الوحيد في عملية صنع السياسيات العامة والخطط العامة بل أضحى التعاون مع مكونات المجتمع المدني سمة مهمة للحكومة الديمقراطية، فقد عرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الحكم الراشد بأنه "حالة تعكس تقدم الإدارة وتطورها، من إدارة تقليدية إلى أخرى تتفاعل مع متطلبات المواطنين وتسعى بالاستعانة بالوسائل غير التقليدية لتحقيق الأهداف المرجوة من وراء النشاط العام بشفافية ومسؤولية أمام المواطنين".
بعبارة أخرى يتطلب الحكم الراشد إشراك المواطنين باتخاذ القرار أو على الأقل تعزيز قيم النزاهة والشفافية في ذلك، فالحكم الراشد يتضمن ممارسة السلطة السياسية لإدارة شؤون الدولة على نحو يلبي التطور وتحقيق التنمية من قبل قيادة منتخبة وكوادر وظيفية تؤمن بتحقيق التغيير النوعي بحياة الناس وزيادة رفاهيتهم باتجاهين تعزيز مساهمتهم في رسم القرار والسياسيات وإطلاعهم بشكل كامل على مجمل العمل التنفيذي.
وتربط منظمة الشفافية الدولية النزاهة بتعريف الحكم الراشد حيث تجد انه "الغاية الحاصلة من تكاتف جهود كل من الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ومختلف المواطنين في مكافحة ظاهرة الفساد، بداية من جمع المعلومات وتحليلها ونشرها لزيادة الوعي العام حول الظاهرة، وخلق آليات تمكن هذه الأطراف من القضاء على الظاهرة أو على الأقل التقليص منها" فهو بالمحصلة سيسهم في تطوير قدرات المواطنين في مختلف الميادين لتكريس الجهود وتوجيهها نحو بناء الوطن وتعزيز سيادته الوطنية وتحقيق الأمن والاستقرار والوحدة بشكل مستدام، أضف لذلك إن الحكم الراشد يهدف بشكل مباشر لبناء مجتمع تسود فيه قيم العدالة وتعلو قيمة حياة الإنسان وكرامته، ومن المتفق عليه إنما تقدم من يحمل أبعادا ثابتة هي:
1- البعد القانوني والسياسي:
يتجلى بضرورة احترام الدستور والقوانين إضافة إلى المعاهدات والمواثيق الدولية الموثقة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية ويتجلى ذلك بالتزام النظام الديمقراطي فكراً ومنهجاً، ففي بداية ظهور مصطلح الحكم الراشد كان التركيز على الأبعاد الاقتصادية ومحاربة الفساد حيث تم الربط بين رفع كفاءة الأجهزة الحكومية وتحقيق النمو الاقتصادي، أما في الوقت الراهن فان الحكم الراشد يرتبط بالمساواة بين الأفراد وتحقيق العدالة وتنظيم انتخابات تراعي التكافؤ بين الفرص والسعي لبناء دولة القانون التي تنمو فيها بذرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ويبرز فيها دور الصحافة المستقلة والرأي العام عموما المؤثر في الشأن العام.
2- البعد الاقتصادي والاجتماعي:
حيث ينبغي تقديم الدعم الإيجابي للقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق التنمية الشاملة للمجتمع، واتخاذ القرارات اللازمة لتهيئة البيئة المناسبة لنمو الاستثمارات ومحاربة الفساد على كل المستويات، ويتضمن المعنى الحقيقي للحكم الرشد اقتصادياً في وضوح دور الدولة وسياستها على المستوى الوطني والدولي وفسح المجال للحريات الاقتصادية، وعلى المستوى الاجتماعي يتكرس دور الدولة في إتاحة الحريات الاجتماعية وحفظ الحقوق والعمل على استيعاب مطالب واحتياجات المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه.
3- البعد الإداري والتنفيذي:
ويتحقق بالانتقال إلى الإدارة الجيدة للمؤسسات العامة لتحقيق النفع العام والتنفيذ العادل لجميع التشريعات بشكل متوازي وفاعل، ونقطة الالتقاء مع المجتمع المدني تتضح في ميدان التعاون مع منظمات وفعاليات المجتمع بالرقابة على المؤسسات العامة والمساهمة معها في تحقيق مقاصدها بتقديم الدراسات الناضجة والآراء السديدة لصانع القرار وتحليل الأسباب التي تقود للازمات بما يتناسب مع وضع الحلول المناسبة.
مما تقدم يتضح الدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني في الانتقال إلى الحكم الراشد في الدولة لهذا نجد لزاما على البرلمان والحكومة في العراق إعادة رسم أطر العلاقة مع مكونات المجتمع المدني ومنها:
1- الأحزاب السياسية: إذ يجب تعديل القانون رقم (36) لسنة 2015 بما يكفل ترسيخ المبادئ الآتية داخل الحزب وإدارته لضمان ان تتفق مع:
أ- المشاركة في اتخاذ القرار بين القيادات الحزبية والكوادر لمنع التسلط أو الانتقائية.
ب- الشفافية في عمل الحزب وتمويله لاسيما ونحن مقبلون على انتخابات برلمانية ويفترض بعدها تجري انتخابات محلية حاسمة.
ج- الإنصاف لتتاح الفرصة المتساوية أمام الجميع في تسنم المناصب العليا بالحزب وتطبيق نظام التداول السلمي للسلطة داخل الحزب.
د- المساءلة إذ ينبغي أن يتم صياغة نظام مساءلة فاعل من شأنه أن يمنع المسؤول من الانحراف في استعمال السلطة.
2- النقابات والاتحادات والجمعيات: فالقانون العراقي زاخر بالنقابات المؤسسة بقوانين مختلفة منها نقابة المعلمين المؤسسة بالقانون رقم (7) لسنة 1989 ونقابة المحامين المؤسسة بالقانون رقم (173) لسنة 1965 المعدل، وكذا الاتحادات ومنها اتحاد الحقوقيين المؤسس بالقانون رقم (137) لسنة 1981، والجمعيات ومنها قانون الجمعيات التعاونية رقم (15) لسنة 1992 وغيرها كثير وجميعها تعد من مكونات المجتمع المدني والبعض منها مارس أدوار مهمة في الحراك الشعبي العام الفائت ضد الفساد والمفسدين في العراق، ما يتطلب تفعيل دور هذه المؤسسات بشكل يضمن إسهامها الفاعل في الشأن العام من خلال:
أ- الفاعلية: إذ ينبغي أن يعاد النظر بالقوانين المؤسسة لهذه المؤسسات بما يمنحها الفاعلية اللازمة لتحتل مكانتها الطبيعية كمؤسسات وسيطة بين القطاع العام والقطاع الخاص وهي الساعية لتحقيق النفع العام.
ب- العدالة: حيث ينبغي أن يتسم نشاطها وكما القطاع العام بمعاني العدالة في الخدمات العامة وتحقيق المساواة بين المواطنين بلا تمييز ولأي سبب كان.
ت- الاستجابة: فمن المفترض أن تتحقق الاستجابة المبكرة لمواقف وبيانات الجمعيات والنقابات لكونها تمثل شرائح محددة وتمثل همومها وتطلعاتها.
3- المنظمات غير الحكومية: وهي بمثابة القلب النابض للمجتمع المدني لكونها تسعى إلى النفع العام بشكل تطوعي واختياري وهذا ما أكده قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2010، الذي أورد في المادة الأولى منه عبارة (تسعى إلى أهداف غير ربحية) إذن هدفها النفع العام فقط، بل ان البعض منها وصفها المشرع بأنها "منظمات ذات نفع عام" ومنحها بموجب المادة السابعة عشر بعض الامتيازات ومنها الإعفاء من ضريبة الدخل والقيمة المضافة والرسوم والتعريفات الكمركية، ما يتطلب الوقوف عند هذا المفصل المحوري بما يضمن لها:
أ- الفاعلية: أي إن نتاجاتها ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند صياغة السياسات الحكومية.
ب- الشراكة الإستراتيجية: مع القطاع العام والخاص لتحقيق أهداف التنمية وتسريع وتيرة الشفافية.
وفي الختام نؤكد إن مكونات المجتمع المدني ما مطلوب منها في المرحلة المقبلة هو التكامل في الأدوار والشراكة الحقيقية لتحقيق الأهداف والتبادل الفاعل للمعلومات لضمان الإسهام في تحقيق الصالح العام من خلال التأثير المباشر في المؤسسات العامة وتوجيه وإنضاج الرأي العام باتجاه تحقيق متطلبات الحكم الراشد في العراق.
اضف تعليق