تعزيز شفافية المالية العامة وشفافية الموازنة الاتحادية عامل مهم لخلق موثوقية أكبر بمؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية، ويعزز من ردم الفجوة بين الشعب ومؤسسات الدولة ويجعلها أكثر شرعية وتمثيلا للأفراد في جغرافية الدولة. لذا لابد من ايلاء الموضوع اهمية أكبر لاسيما وان الاطر القانونية النافذة في...

تسعى الدول وحكوماتها دائما الى ان تكون الحياة المالية صحيحة وشفافة وانعدام ذلك يؤشر وجود ازمة داخل المجتمع ويشير الى فشل الفاعلين في بلورة نموذج للتدبير المالي العام ليساير تطورات الحياة الاقتصادية في البلد والتطور الاجتماعي، وكذلك ليساير تطورات الحياة الاقتصادية والمالية الدولية.

عليه يرى الكثير من الباحثين ان الحياة المالية الصحيحة توجب تكريس قواعد الشفافية في الاداء المالي العام وتخليق الحياة العامة واقرار الاحتكام الى الضوابط القانونية في تدبير المالية العامة كشرط اساس من اجل دمقرطة الحياة المالية وارساء الحق في مناهضة الافلات من العقاب كرهان لمأسسة دولة الحق والقانون.

يشير مفهوم الشفافية المالية وفق ادبيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى اعتماد نصوص قانونية ترسخ منطق التواصل المالي بين الفاعلين العموميين والمجتمع، فضلا عن توطيد مفهوم الحق في الوصول الى المعلومة المالية عبر الموازنة المفتوحة. وإذا ما توافرت الدول ومجتمعاتها على الشفافية المالية، سيكون المجتمع على دراية شاملة عن كيفية جمع الحكومات لأموالها، وماذا تفعل بها؟

الشفافية المالية لها انعكاسات ايجابية على السياسات الاقتصادية الكلية وسياسات التنمية، فهي مهمة للتنمية المستدامة. ويرى البنك الدولي في هذا الموضوع ان هناك ادلة متنامية على ان الحكومات التي تتمتع بمزيد من الشفافية في ماليتها العامة يكون ادائها المالي أفضل وتعاني مستويات اقل من الفساد وان شفافية المالية العامة تسهم في النمو عالي الجودة، وتقديم الخدمات بكفاءة، واستقرار الاقتصاد الكلي. كما تمتد المزايا الى مجالات اخرى، كخلق الوظائف من خلال اتاحة حيز للإبداع من اجل ايجاد منتجات وخدمات جديدة تقوم على زيادة قدرة الحصول على البيانات.

اجرت "المبادرة العالمية للشراكة في الموازنة" مؤخرا استطلاع الموازنة المفتوحة لعام 2017 ليوضح الشفافية المالية في الموازنات (2010-2017). وكشف الاستطلاع ان أداء العالم العربي ليس جيدا من حيث إمكانية الحصول على المعلومات فيه بالمقارنة بمناطق أخرى من العالم. فيما سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عشرين درجة على مؤشر الموازنات المفتوحة المكون من مائة درجة، وهي الأدنى من حيث شفافية الميزانية والمساءلة.

ففضلا عن، انعدام مستندات المالية العامة المتاحة للجمهور، فأن أغلب البلدان تتيح قدرا ضئيلا من الرقابة الفعالة من قبل المؤسسات المعنية بالمساءلة كالبرلمان وأجهزة الرقابة العليا، فضلا عن تقليص فرص مشاركة الجمهور في كل مراحل اعداد وتنفيذ الموازنة. كما تنبع التحديات من القيود القانونية والسياسية التي تكبل وسائل الإعلام وتمنع الكشف التلقائي من قبل الحكومات عن المعلومات، وكلها تعوق النقاش الواعي لدور الحكومة، ومساءلتها، وتقديم الخدمات. ولابد من الاشارة الى ان الاستطلاع يتضمن ثلاثة مؤشرات هي: الشفافية (الموازنة المفتوحة)، مشاركة العامة (المواطنين)، والاشراف على الموازنة (الرقابة على الموازنة).

وإذا ما سحبنا الموضوع الى العراق نلاحظ انه احتل مراتب متدنية في المؤشرات اعلاه. مع التذكير ان هذا الاستطلاع او المؤشر العام شمل الموازنات العامة من عام 2010 -2017. ويمكن توضيح مؤشراته الجزئية الخاصة بالعراق كالاتي:

- مؤشر الشفافية (الموازنة المفتوحة): حصل العراق على (3 نقطة) من أصل (100 نقطة)، وهي درجة اقل الى حد كبير من متوسط الدرجة العالمية المقدرة بنحو (42 درجة). هذا المؤشر يقيس اتاحة ونشر الحكومة لثمان وثائق للموازنة في الوقت المناسب وهي: (البيان التمهيدي للموازنة أي المعايير العامة للسياسات المالية للدولة قبل طرح مقترح الموازنة للسلطة التنفيذية والتوقعات الاقتصادية للحكومة والإيرادات المتوقعة والنفقات والديون، ومقترح الموازنة للسلطة التنفيذية، والموازنة المقررة، وموازنة المواطنين والتي لم يتم العمل بها في العراق، والتقارير الدورية، والمراجعة النصف سنوية، وتقرير نهاية العام، وتقرير المراجعة او ما نطلق عليها الحسابات الختامية).

- مؤشر المشاركة للعامة (المواطنين): ان مشاركة المواطنين في مختلف مراحل اعداد وتنفيذ الموازنة العامة امر حيوي في تعزيز شفافية الموازنة. الملاحظ ان العراق حصل على (صفر درجة) في هذا المؤشر الفرعي من أصل (100 درجة) لان مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية لم تعتمد معايير هذا المؤشر ولم يتم اتاحة فرص للمواطنين للمشاركة في عمليات الموازنة. ويبلغ المتوسط العالمي لمؤشر مشاركة المواطنين تلك نحو (12 درجة).

- الاشراف على الموازنة العامة: استخلص المؤشر ان السلطة التشريعية في العراق توفر رقابة محدودة خلال مرحلتي التخطيط والتنفيذ للموازنة. ويرى التقرير ان هناك مجموعة من العوائق تقف بوجه الرقابة التشريعية الفعالة:

• لاتقوم اللجان التشريعية بفحص ونشر التقارير الخاصة بهم عن تحليل مقترح الموازنة الخاص بالسلطة التنفيذية عبر الانترنت.

• لايتم اعتماد مقترح الموازنة الذي تقدمه السلطة التنفيذية من قبل السلطة التشريعية قبل بدء عام الموازنة.

• لاتقوم اللجان التشريعية المختصة بفحص او نشر تقارير تنفيذ الموازنة او تقرير الحسابات الختامية عبر الانترنت.

وهذه الاخفاقات غير مبررة لاسيما وان الجهاز الرقابي في العراق المتمثل بديوان الرقابة المالية يتوافر على مقومات كبيرة تمكنه من اداء مهامه، فهو بموجب القانون، يمتلك سلطة تقديرية كاملة لاجراء عمليات المراجعة ويتم تعيين رئيسه من قبل السلطة التشريعية او القضائية ولايتم اقالته بدون موافقة أي من السلطتين مما يدعم استقلاليته. كذلك يتوافر جهاز الرقابة المالية على موارد بشرية ومالية كبيرة للوفاء بمسؤولياته.

لذلك نرى ان تعزيز شفافية المالية العامة وشفافية الموازنة الاتحادية عامل مهم لخلق موثوقية أكبر بمؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية، ويعزز من ردم الفجوة بين الشعب ومؤسسات الدولة ويجعلها أكثر شرعية وتمثيلا للأفراد في جغرافية الدولة. لذا لابد من ايلاء الموضوع اهمية أكبر لاسيما وان الاطر القانونية النافذة في العراق تنص على كثير من المعايير الواردة في المؤشرات اعلاه. ولكن الفساد السياسي وماينتجه من فساد مالي واداري هو من يعرقل انفاذ تلك الاطر القانونية. ولتعزيز تلك الاجراءات نرى وجوب العمل على:

- نشر مشروع قانون الموازنة الاتحادية وتقارير تنفيذها الفصلية والنهائية وتقرير الحسابات الختامية في الاوقات المناسبة.

- على المؤسسات المعنية وضع الاجراءات الكفيلة بمشاركة الجمهور في عمليات الموازنة، كخلق حلقات تداولية بين تلك المؤسسات والافراد بشأن الموازنة ويكون الافراد ممثلين بمنظمات المجتمع المدني لمناقشة تكوين الموازنة والايرادات والنفقات والمراجعات الفصلية لنصل مرحلة اعتماد مايسمى بـ " الموازنات التشاركية" و" المراجعات الاجتماعية".

ويمكن للحكومة ومجلس النواب القادمين ان يضعا تلك الرؤى قيد التنفيذ مع بداية مرحلة جديدة شعارها مكافحة الفساد ومواجهة الفاسدين. ونرى ان الشفافية كفيلة بتهيئة الارضية لمحاسبة المفسدين شعبيا ومؤسساتيا، الامر الذي يعزز من رضا المواطنين بالنظام الحاكم ومؤسساته ويجعلها أكثر شرعية وتمثيلا للجمهور، بدلا من الشعور السائد في المرحلة الحالية المتمثل بعدم الرضا عن اداء مؤسسات الدولة وأصبح ينظر لها جميعا وللقائمين عليها على انها مؤسسات فاسدة يديرها فاسدون.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2018
www.fcdrs.com

اضف تعليق