في عُتمة الليل وبين كثافة الدخان الأسود المتصاعد وتحت حطام السيارة، وبين الارض وحجارة الطريق، المضرجة بدمي، جسدي ينزف،… الأنفاس المنقطعة، النظرات الاخيرة… إنّ الجراحات في أعماقي لازلت نازفة، يئن ويتوجع جسدي والدم ينزف من عده مواضع فيه.
صدى اللحظات الأخيرة، فقدت صوت اخي، لم اعد اسمع صوتا
بدأت ساعة الصمت الطويلة...
ها هو الفراق جاء مسرعا
معلنا انتهاء حياتي..
انطفأت شمعتي ليضيء اخي الدرب، بين أمواج عارمة من الألم والوجع. وثقل هائل يكبس وجوده في داخلي... كحمامه رفرفت روحي بسلام.
فأخذت استعيد ذكرياتي في الماضي وأعود بعجلة الزمن للخلف، وأحاول أن ألملم أحداث عمري منذ طفولتي إلى ما أنا عليه الآن، وخلال هذا الاستذكار، تذكرت اخر ساعاتي واين كنت كفيلم يعرض امامي، بعد أن صليت صلاة العشاء ودعوت الله بما تيسر علي وختمت دعائي بطلبي من الله أن يختار لي ما فيه الخير من أمري في دنياي وآخرتي في جنة الله على الارض، كربلاء وتحت قبة سيد الشهداء دعوت وقرأت السلام على صاحب الطلعة الرشيدة الامام المهدي، مازلت ادعوا.. بين راكع وساجد بين احضان الحرمين ترف عيني على اخي هو ايضا سارحا في عالم العشق الالهي.
عطر كربلاء كعطر يوسف ليعقوب يرد البصر للمشتاقين.. شوقي لها كشوق عليل لعافية رحلت، كشوق ام فقدت طفلها.. اردد ما حفظته من الابيات في رثاء الامام الحسين (ايا فاطم لو خلت الحسين مجدلا... وقد مات عطشانا بشط فرات).. هذه ليلة انا سعيد جدا ومن مثلي، النجوم حولي كثيرة، ارتعاشات ضوئها كانت تمنحني الفرح، وقرب سيد غيور صاحب الماء.. أبي الفضل العباس، اه يا عباس لحمالك السلام.. قلبي يهفو الى التل الزينبي ووقفة عمتي زينب الكبرى.. الخيام مازالت خالية من الحسين واهل بيته، مهد عبد الله لازال موجودا، ولمقامه السلام والتحية.. تحتضن كل قطعة من كربلاء روحي ويعانقها جسدي...آه يا كربلاء آه يا حبيبتي سأرجع لك، انتظريني ايتها العزيزة.. ساعات فقط وتأخذين جسدي الى ترابك.. اوصيك بجسدي خيرا.. فأنا اعلم انها آخر زيارة لي على قدمي وبعدها يحملوني إليك... انت تعلمين اين ادفن!
والدي العزيز دموعك غالية، غالية جدا لا تذرفها. والدي الغالي ها قد مرت الأيام ومضى عمري سريعا. ها قد فارقت الحياة جسدا، ولكن روحي بقيت معكم وفي كل زوايا البيت، أبي. مازلت أنهل من أنفاسك الطيبة، ومازال صوتك الحنون. مضيت وذكرياتنا بقيت عالقة في ذهني، وستبقى القدوة الأولى في حياتي.
أبي بعد أيام قليلة يطل عليكم وفاة السيدة المظلومة فاطمة الزهراء عليها السلام، لطالما انتظرت هذه المصيبة، اذكروني في مجالسكم، كنت استمع الى تفسيرك لكتاب الله العزيز، ما اجمل صوتك يا ابتي.. اذا جاء محرم الحرام الذي خدمت فيه طيلة عمري، وبين لوعة المصاب وغصة الاكتئاب على سيد الشهداء، اقيم الشعائر ليقوى قلبي على التقوى. اتنقل بين المأتم مواساة مني لسيد الشهداء.
أبي.. لن أنسى روحك النبيلة وأفعالك الطيبة لتأدية الواجب وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، أبتاه اعلم ان فراقي يؤلمك.. ولكن الأجل قد حان يا والدي، ولن أنسى دموعك التي سكبتها على خدك الجميل، والتي خضبت بها لحيتك البيضاء، كلما نظرت الى جنازتي.. تعزى بعزاء الحسين، بعلي الاكبر، نعم حتى الحسين بكى على فراق ولده..
أبي.. يعز عليَّ أن يمر شهر رمضان فلا أسمع الاذان بصوتك الشجي... واعلم انه مؤلم عليك ايضا خصوصا أحفادك أن يقضوا العيد من دون أبيهم الذي طالما رعاهم وأحبهم وجمعهم من حوله، يلعب معهم ويقرأ لهم الكتب، كما كنت تفعل انت ايضا لنا....
أبي.. من الذكريات التي أحب أن أقف عندها، يوم ذهابنا الى زيارة الاربعين في طريق المشاية، وبين طريق كربلاء المقدسة والنجف الاشرف توقفت وتنفست رويدا. لم اكن اعلم ان لحظاتي الاخيرة ستكون هنا. وداعا ابي..
"والدتي الحنون. كم أرقتني لحظات الوداع، وأسدلت ستار الحزن فوق نياط قلبي، أيتها الحنون، ها أنا أرحل عن بيتنا الصغير الدافئ الذي نقشت على جدرانه آيات الولاء لآل البيت عليهم السلام، رغماً عني يا امي ارى دموعك ولا املك اليد التي تمسح تلك القطرات، صورتي الطفولية التي أرجو أن تبقى ذكراها في زوايا بيتي القديم أبد الدهر.. أمي لا أقوى على الوقوف لاستقبالك فمعذرة منك، اعذريني، واعفي عني بقلبك الدافئ، إنّ الوقوف أمامك يسلبني كل كلمات الوداع، فلا يقوى القلب ولا العين تهدأ، فحينئذٍ اعلمي أن دموع فراقك أبلغ لغة عندي من أية لغة، ولا أنسى شقيق طفولتي واخي ذا القلب الكبير الواسع، فدفء يده لا زلت أشعر به فوق خدي.. ولن أنسى كل اللحظات الاخوية التي عشتها في كنفه، كسرك يؤلمني ايها الاخ، حالك كحال جدك الامام الحسين هو ايضا ودع أخاه وسنده ورجع مكسورا ومحدودب الظهر..
إنّ رسالتي هذه هي ما قدر عليه لساني، والتي أتمنى أن تسمعوها وقت رحيلي، حين تخنقني عبرة الوداع، ولحظة البعد.
اولادي البسمة دائماً على محياكم رغم ما يعانيه من حولكم، اعلموا انكم أيتام كأيتام الحسين عليه السلام، كحال رقية فتصبّروا، هنالك من يمسح دموعكم ويحتضن اوجاعكم، ايتام الحسين كانوا يخفون دموعهم خوفا من الضرب، العلم والعمل هو ما أطلبه منكم ايها الاحبة طاعة الجد كطاعتي عليكم، اترككم بأمان الله وحفظه.
كل من عاشرته وقضيت وقتي معه، كنتم خير امة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. لم ارَ منكم إلا خيرا، ولم اسمع إلا حمدا، فراقكم يحزنني لكنه أمر الله، اذكروني في ليلة الجمعة وعند زيارتكم الى كربلاء، عند عزائكم، وعند حضوركم الدرس، سيبقى ذكركم حيا وان رحلت. أوصيكم بإتباع الهدى والسلامة في الدين والدنيا والاستمرار في بذل النفوس من اجل العلم والدين، سلمكم الله جميعا ووفقكم لكل خير جزيتم عني أفضل جزاء.
أحبابَ قلبي وداعــــــاً........ ســـلام ربّــــي علـيكُم
لئن رحلتُ بجسمـــــي........ فــإنّ قلـبي لدَيــــــــكُم
(حـروفُ جرِّ) فؤاديَ......(منكم)، و(فيكُم)، (إليكم)
اضف تعليق