البحث عن السبب في الرؤية القرآنية ليس خروجًا عن التوحيد، بل هو بوابة إلى معرفة المسبّب الأعظم. كل سبب مكتشف، كل أثر محقّق، هو دليل على الفاعلية الإلهية، على يد الله التي تتحرك في خفايا الكون، وعلى حكمته التي تشق طريقها في كل شيء. ومن هنا، يصبح العقل المتربّي...

في عالم الإنسان، يولد التساؤل كما تولد الشرارة، يشتعل في قلب العقل ويحفّزه على البحث عن الحقيقة. التساؤل عند الإنسان ليس مجرد سؤال عابر، بل بذرة الفضول التي تزرع الروح على طريق الإدراك. وما أكثر من يكتفي بالسؤال، فيقف عند سطح الظواهر، فلا يذوق حلاوة الفهم ولا ينال لذة اليقين.

ولذلك جاء القرآن الكريم، ليأخذ الإنسان في رحلة أعمق، رحلة تتجاوز الفضول إلى البحث عن الأسباب والعلل، ليكتشف السنن الإلهية التي تحكم الكون، وليعرف أنّ لكل فعلٍ إلهي سنّةً، ولكل سنّةٍ أثرٌ في الكون لا يفارق حكمة الله وقدرته.

تتجلّى هذه الحقيقة في قصة ذي القرنين، ذلك الرجل الذي مُكّن في الأرض، ليس عبثًا أو بمحض الصدفة، بل لأنه اتبع الأسباب وسار في دروب العلم والمعرفة. يقول الله تعالى:

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا) الكهف 84-85.

هنا تتجلى الحكمة، النجاح ليس وليد القوة وحدها، بل وليد العقل الذي يبحث ويتتبع، الذي لا يكتفي بمظاهر الأمور، بل ينفذ إلى جوهرها، فيكتشف آثار قدرة الله وحكمته في الكون، ويشعر بعظمة السنن الإلهية التي تحكمه وتحكم العالم.

البحث عن السبب في الرؤية القرآنية ليس خروجًا عن التوحيد، بل هو بوابة إلى معرفة المسبّب الأعظم. كل سبب مكتشف، كل أثر محقّق، هو دليل على الفاعلية الإلهية، على يد الله التي تتحرك في خفايا الكون، وعلى حكمته التي تشق طريقها في كل شيء. ومن هنا، يصبح العقل المتربّي على التساؤل والبحث أداة عبادة حقيقية، فهو لا يكتفي بالتحليل، بل يرى في كل سبب أثرًا، وفي كل سنّة علامة، وفي كل اكتشاف انعكاسًا لقدرة الله وعلمه وحكمته.

العقل الإيماني بهذا الشكل يتحول إلى كيان حيّ، لا يكتفي بالمعرفة السطحية، بل يسعى إلى تتبع الأسباب، وفهم الحكمة، والارتقاء الروحي والفكري، ليصبح البحث عن الحقيقة فعل عبادة، والاستقصاء عن السنن الإلهية طريقًا إلى الاقتراب من الخالق.

وفي حياة المؤمن، يصبح التساؤل وسيلة للارتقاء، والبحث عن السبب جسراً نحو اليقين. فالصوم، على سبيل المثال، ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل تجربة روحية يكتشف فيها الإنسان حكمة الله ويشعر بعنايته. وتحريم الخمر ليس قاعدة اجتماعية فحسب، بل تجسيد لإرادة الله تتضح أبعادها حين يفهم الإنسان عللها وحكمتها.

وفي نهاية الرحلة، يترك القرآن للإنسان معادلة خالدة: لا يقين بلا سؤال، ولا إيمان بلا بحث. فالتساؤل والبحث ليسا خروجًا عن الإيمان، بل تعبير عن حيوية العقل وعبادة الروح، وهو طريق إلى إدراك السنن الإلهية وفهم قدرة الله وحكمته، انها رحلة يلتقي فيها العقل بالروح، والمعرفة باليقين، والإيمان بالحركة الفكرية الحرة.

والإنسان الذي يسلك هذه الرحلة يعيش الإيمان ليس كحالة جامدة، بل كرحلة متجددة تتسلق فيها الروح مدارج الفهم، وتستضيء بنور اليقين، ويصبح السؤال والبحث جزءًا من العبادة نفسها، ونور اليقين ثمرة هذه الرحلة الروحية والمعرفية الرائعة.

اضف تعليق