الآية الكريمة ليست مجرد تذكير بالموت والبعث، بل هي إطار معرفي وحضاري متكامل: السير في الأرض لاكتشاف بدايات الخلق، والإيمان بأن هناك نشأة أخرى مختلفة في طبيعتها وأبعادها. بهذا، يتحقق التوازن بين العقل العلمي والإيمان بالغيب، وهو التوازن الذي يُمكّن الإنسان من بناء حضارة تستند إلى العلم وتستضيء بالقيم...

((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ؛ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))

سورة العنكبوت، الآية 20

المقدمة

تُعَدُّ هذه الآية من المواضع القرآنية الجامعة بين المعرفة العلمية والرؤية الغائية للوجود. فهي تدعو الإنسان إلى النظر في الأرض لاكتشاف دلائل نشأة الخلق، وفي الوقت نفسه تفتح أفقًا نحو “النشأة الأخرى”، بما تحمله من طبيعة مختلفة تتجاوز حدود الوجود الفيزيائي المعروف. هذا التوجيه القرآني يمثل أساسًا حضاريًا لفهم العلاقة بين العلم والإيمان، بين عالم الشهادة وعالم الغيب.

أولاً: الأرض كمصدر للمعرفة

الأمر بالسير في الأرض هو دعوة إلى المشاهدة المباشرة والبحث الميداني، أي المنهج التجريبي.

الأرض ليست مجرد موطن للحياة، بل هي مستودع للمعرفة: في طبقاتها الجيولوجية، حفرياتها، تنوعها البيولوجي، وآثار حضاراتها.

بذلك تصبح الأرض كتابًا مفتوحًا يكشف عن “كيف بدأ الخلق”، أي عن القوانين التي حكمت نشأة الكون والحياة والإنسان.

من هنا يتضح أن القرآن لا يكتفي بالحث على الإيمان المجرد، بل يضع أساسًا للمعرفة العلمية التي تقوم على الملاحظة والاستقراء.

ثانياً: التمييز بين النشأتين

الآية تقابل بين النشأة الأولى والنشأة الأخرى، وهو تقابل ذو دلالات فلسفية عميقة:

النشأة الأولى

هي الوجود الذي نحياه الآن، محدد بأبعاد فيزيائية أربعة (ثلاثة للمكان + الزمن كبعد رابع).

هذا الوجود قائم على قوانين التحول والفساد، أي على النشوء والانقضاء.

مجال العقل والعلم؛ إذ يمكن دراسته وفهم قوانينه من خلال البحث والتجربة.

النشأة الأخرى

ليست تكرارًا للنشأة الأولى، بل وجود جديد ذو طبيعة مغايرة.

إذا كانت الأولى محصورة في إطار الأبعاد الأربعة، فالأخرى يمكن فهمها كوجود متعدد الأبعاد، يتجاوز إدراكنا الحسي.

الزمن فيها قد لا يكون خطيًا، والمادة" قد تتخذ صورة غير خاضعة للفساد والتحلل.

هي مجال الإيمان بالغيب، إذ لا يمكن للعلم التجريبي أن يحيط بها، لكنها تُمثِّل الغاية النهائية لمسار الوجود الإنساني.

ثالثاً: الدلالة الحضارية

بهذا التمييز، يرسم القرآن خطًّا حضاريًا واضحًا:

العلم مكلَّف بفهم قوانين النشأة الأولى، أي عالم الطبيعة والتاريخ.

الإيمان مكلَّف بتثبيت اليقين بالنشأة الأخرى، أي بُعد الوجود الغائي.

الجمع بينهما يخلق حضارة متوازنة:

علمية لأنها تعتمد على البحث والمشاهدة.

قيمية لأنها لا تحصر الوجود في حدود المادة والزمن، بل تفتح أفقًا نحو الغاية والمعنى.

الخاتمة

الآية الكريمة ليست مجرد تذكير بالموت والبعث، بل هي إطار معرفي وحضاري متكامل: السير في الأرض لاكتشاف بدايات الخلق، والإيمان بأن هناك نشأة أخرى مختلفة في طبيعتها وأبعادها. بهذا، يتحقق التوازن بين العقل العلمي والإيمان بالغيب، وهو التوازن الذي يُمكّن الإنسان من بناء حضارة تستند إلى العلم وتستضيء بالقيم.

اضف تعليق