الفرصة الوحيدة للاحتفاظ بالأسرة وبالقيم وبالهوية؛ مضاعفة الجهود التربوية في اتجاهين؛ الاول: تعزيز أواصر العلاقة مع التراث الديني؛ القرآن الكريم، وسيرة المعصومين، والأحكام الدينية، والاتجاه الثاني: التذكير الدائم بأن لهم وطن أم غير الوطن الذي ينتمون اليه رسمياً بحكم الولادة، وهذا الوطن هو منبع للتقاليد والآداب والأخلاق المنظمة للسلوك والتفكير الصحيحين...
يواجه المسلمون المقيمون في الغرب تحديات خطيرة تهدد هويتهم الثقافية وبشكل مفاجئ وغير متوقع رغم وجودهم لعقود من الزمن في المهجر وهم يحظون بحرية التعبير والعقيدة وفق النظم والقوانين السائدة هناك.
ظاهرة الهجرة الى بلاد الغرب تحديداً مثل؛ اوروبا واميركا الشمالية واستراليا، ولدت من رحم المعاناة في أوطان سلبها حكامها الأمن والكرامة من المواطن، فهو إن لم يكن معارضاً سياسياً، فانه مضطهد اقتصادياً واجتماعياً بسبب سياسات التمييز وانعدام فرص العمل واحترام الكفاءات، ومن هؤلاء؛ الجالية العراقية التي تشكلت في بلاد الغرب منذ ثمانينات القرن الماضي.
وقبل الخوض في المآلات المحزنة، و انكشاف الوجه الحقيقي للنظام السياسي والاجتماعي في الغرب فيما يتعلق بالأسرة، ومطالبة ابناء الجالية العراقية بقطع العلائق التاريخية والثقافية مع ابنائهم المولدين في بلاد المهجر، يجدر بنا التذكير بسؤال قديم ضل في غياهب الزمن لم يبحث عنه أحد، في دوافع هذه البلاد الوادعة ظاهرياً بإنفاق مبالغ مالية كبيرة كرواتب شهرية على المهاجرين، وتخصيص مباني للسكن وتقديم خدمات صحية وتعليمية بالمجان، ثم وثائق إقامة، ومن ثمّ التجنيس، فهل كان الأمر قربة الى الله –تعالى- مثلاً؟! أم حبّاً للإنسانية وتطبيقاً لما يدعونه من تبني مبادئ حقوق الانسان؟
ربما كان الاعتقاد بالاحتمال الاخير، فهو الأقوى على ارض الواقع في العقود الماضية، عندما كانت بلادنا تشتعل بنار الديكتاتوريات بينما بلاد الغرب كانت تبدو في عيون الكثير منّا حدائق غنّاء مفعمة بالهدوء والرخاء والاستقرار، لذا كان الخيار الوحيد للمضطهدين؛ الهجرة الى هذه البلاد حاملين معهم آمالهم بالعيش الكريم، بيد أنهم حملوا معهم شيئاً آخر عفوياً و دون قصد منهم وهي؛ الهوية والانتماء، ربما لشعورهم بعدم وجود تعارض مع كونهم مسلمين ويحملون تقاليد وأخلاق وآداب خاصة، مع مبدأ احترام حقوق الانسان، والمبادئ الليبرالية القائلة بالحرية الفردية في هذه البلاد.
وكان الأمر كذلك طيلة حوالي ثلاثين او اربعين سنة الماضية عندما تميّزت الجالية العراقية عن سائر الجاليات في الغرب بفعاليات تكشف عن هوية وانتماء واضحين، فكانت الحسينيات رديفاً للمساجد المنتشرة هناك في أمر التجمّع، والتبليغ، وتكريس الثقافة الأم، لاسيما وأن قضية تاريخية وانسانية عظيمة بحجم واقعة كربلاء، يرفع لوائها هؤلاء المهاجرون، تركت أثراً بالغاً في النفوس عندما تحولت المجالس الحسينية من اللغة العربية الخاصة بأبناء الجالية العراقية، الى اللغات المحلية مثل؛ الانجليزية، والسويدية، والدنماركية، والفرنسية، فأصبح لدينا مخاطباً جديداً لأول مرة في مشروع النشر الحسيني، وباتت مشاهد توزيع الطعام، ونشر البوسترات والصور واللافتات الحاكية لتفاصيل المشهد الحسيني في الغرب، علامة فارقة لابناء الجالية العراقية بين سائر الجاليات الاسلامية.
هذه الفعاليات واستحضار الثقافة الأم لم يكن ليثير حفيظة المعنيين في البلاد الغربية، بقدر ما يثيرهم تأثير هذه الثقافة وايضاً؛ تلكم الفعاليات على الجيل الجديد من ابناء الجالية، وربما الجيل الثاني المولود في بلاد الغرب، لأن الأب القادم من العراق منذ ثمانينات او تسعينات القرن الماضي لم ينفق عليه –على الأغلب- في مجال التعليم والصحة كما كان يفعل في بلده، وعليه؛ فان الولد او البنت بالنسبة للحكومات الغربية؛ سويدية او دنماركية، او بريطانية بالدرجة الاولى، مع الإشارة الى الأصول العراقية فقط.
ثمة اسباب عديدة دفعت بعض الحكومات الغربية للإعلان جهاراً عن موقفهم السلبي من ثقافة وتقاليد الجالية العراقية، لسنا بوارد الخوض فيها، وإلا فان المثليّة –مثلاً- والحرية الجنسية من القضايا الجدلية في المجتمعات الغربية منذ عقود من الزمن، وكانت الجالية العراقية، والاسلامية بشكل عام بمنأى عن هذه الجعجعة، حتى تقاليد اجتماعية خاصة بهم مثل انفصال الابن والبنت بعد بلوغهم سن الثامنة عشر عن الأسرة وبيت الوالدين والعيش بمفردهم، لم تكن بشكل احكام إلزامية، بينما اليوم تحول الأمر الى مطالبة من الابن والبنت وهم في سن الخامسة والسادسة بمراقبة الوالدين، وما اذا كانا يفرضان أي شيء عليهم، من نوع الأكل والملبس، والسلوك العام، ومتابعة منصات التواصل الاجتماعي، او فعل أي شيء آخر، كل هذا جعلوه في حزمة واحدة تحت شعار "العنف الأسري"، فأي تصرف مع الطفل العراقي الأصل، الغربي المولد، لما يعدونه مخالفة لتعاليمهم، يعني توجيه تهمة العنف الى الأبوين العراقيين، وهذا يقتضي وفق القوانين التي تم تشريعها حديثاً، فصل الاطفال "المعنّفين" عن والديهم، وإن كان هذا العنف عبارة عن –مثلاً- عدم وجود قطعة شوكولاتة في حافظة الطعام!
أكثر من صديق أكد لي انقلاب منهج التعامل مع الجالية العراقية الى الحدّية المفرطة ضد كل ما يتعلق بتربية الاطفال، في محاولة واضحة لإيصال رسالة غير مكتوبة الى ابناء الجالية بأن عليكم التفكير بأنفسكم في خريف العمر فقط، ولا عليكم بأبنائكم وأحفادكم، فهم لا ينتمون اليكم، وأضحى الجواب مسموعاً على اعتراض ابناء الجالية، بأن "اذا لم يعجبكم الوضع بإمكانكم المغادرة والعودة الى بلادكم". ولكن! دون الاطفال! فقد ظهرت أصوات في البرلمان السويدي مؤخراً بسن قانون يحظر اصطحاب الآباء للأطفال المولودين في السويد في رحلاتهم الى العراق، لاسيما في المناسبات الدينية.
الفرصة الوحيدة للاحتفاظ بالأسرة وبالقيم وبالهوية؛ مضاعفة الجهود التربوية في اتجاهين؛ الاول: تعزيز أواصر العلاقة مع التراث الديني؛ القرآن الكريم، وسيرة المعصومين، والأحكام الدينية، والاتجاه الثاني: التذكير الدائم بأن لهم وطن أم غير الوطن الذي ينتمون اليه رسمياً بحكم الولادة، وهذا الوطن هو منبع للتقاليد والآداب والأخلاق المنظمة للسلوك والتفكير الصحيحين.
في هذه الحالة فان الطفل الذي سيتحول الى شاب في المستقبل، ثم يتزوج فان من حقه البقاء او اتخاذ قرار الهجرة الى أي مكان في العالم، ومنها الإقامة في بلاد آبائه وأجداده، وليس من حق أي بلد غربي منعه وفقاً للتعاليم الليبرالية المناحة للحرية الفردية، بيد أن هذا ليس بالأمر الهيّن اذا نظرنا الى امكانات الدول واساليبها المغرية مع فقدان شريحة كبيرة من ابناء الجالية للقدرة على مواجهة اسئلة عديدة وجديرة تصدر من الابناء والاحفاد، في مقدمتها؛ الحكمة من الحجاب للبنات، او الحكمة من عدم أكل اللحوم غير المذبوحة وفق الاحكام الاسلامية، وما الفرق بينها وبين لحم الغنم او الدجاج الذي تنتجه الشركات في اوربا و اميركا مثلاً؟
ربما سيقفز السؤال السريع في ذهن القارئ الموجود في البلاد الاسلامية، وتحديداً في العراق، بأن القضية تنسحب على ابناء الجيل الجديد عندنا وليس فقط في البلاد الغربية، فالإجابة شبه مفقودة عن عديد الاسئلة بخصوص الاحكام الشرعية، والتاريخ، والعقيدة، والأخلاق، "إلا ما رحم بي"، مع ذلك، فان المظاهر الدينية والقوانين والتقاليد الحاكمة من شأنها تسهيل أمر التربية والتعليم ولو بشكل تدريجي وبطيء، بيد أن الوضع عند اخواننا في الغرب أدهى وأمرّ، لأنه مصيري وحاسم، مع فقدانهم لهذه الاجواء والمظاهر، فكل ما موجود في الشارع والمدرسة يتعارض مع هويتهم وثقافتهم مما يحملهم مسؤولية ثقيلة إزاء الابناء الذين سيكونون في المستقبل الآباء الجُدد.
اضف تعليق