ضرورة الالتفات قبل كل شيء الى الأمن المجتمعي المهدد بالانهيار بسبب التقاطع المقصود بين قيم الدين، وأفكار ونظريات حديثة مستوردة من الخارج، ربما تفيد اصحابها في أمم وشعوب لها هويتها الثقافية، وظروفها الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها، أما نحن فلدينا ما يكفي من القوانين التي تضمن ليس فقط حقوق افراد الأسرة، بل وتضمن لهم العيش الكريم والآمن...
بمرور الزمان يكتسب الانسان أهمية متزايدة لذاته في محيطه الاجتماعي بفضل التطور الفكري والتقدم العلمي، وابتكار الوسائل الحديثة في الحياة، وطرق العمل والإثراء.
فاذا قارنّا بين انسان اليوم والانسان قبل ألف عام –مثلاً- نجد في تلك الفترة كان من الصعب جداً ظهور السياسي الحاكم، او التاجر الثري، او العالم، بل حتى طالب العلم، فضلاً؛ عن الثائر والمصلح والساعي للتأثير على محيطه الاجتماعي والسياسي، أما اليوم فان هكذا عناوين مُتاحة حتى لشاب في مقتبل العمر.
وهذه من فضائل الانفتاح والتجديد والتفكّر والتدبّر في شؤون الحياة والانسان بحثاً عن الحقائق، وهي بدورها لم تجد أجوائها الرحبة لولا الفضاءات الواسعة من الحرية القائمة على مبدأ الكرامة الانسانية، فهي دائرة حضارية رائعة، تبدأ من حرية التفكير للبحث والتجديد، وتمر عبر تجارب وعِبر، لتصل الى الهدف الأسمى؛ تحقيق الكرامة الانسانية، ومع تطور الزمان تكبر هذه الدائرة وتتسع لتشمل جوانب وحقول جديدة، وواسعة في حياة الانسان، بمعنى أننا أمام دوائر عديدة جربتها الاجيال الماضية، ربما بعضها فشل في الوصول الى نقطة النهاية السعيدة، فبقت ناقصة يستنكرها التاريخ، بينما يستذكر التجارب المضيئة والناجحة لآخرين.
واليوم المساعي حثيثة للمضي في هذه المسيرة المستدامة بنجاح على صعيد المجتمع الصغير (الأسرة)، والمجتمع الكبير المكون من شرائح وجماعات، فعندما نكون على يقين بوجود علاقة عضوية بين تماسك الأسرة، وتحقيق طموحات الابناء في طلب العلم والمعرفة والتطور في مختلف مجالات الحياة، نطمئن على سلامة الحركة التكاملية ضمن دائرة التطور الانساني، وقد كثر الحديث عن تضحيات الآباء والأمهات قبل حوالي جيلين، وربما أكثر، من اجل حمل ابنائهم الى مراقي العلم والمعرفة رغم "أميّتهم"، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، كذا الحال في مجال التربية، عندما يتحدث علماء الاجتماع عن الدور التربوي للأبوين، وعلاقته بالشخصية المستقبلية لهذا الطفل الذي ربما يكون من العلماء العباقرة، يقدم المكتشفات والمنجزات للبشرية، ويمكن ان يكون زعيماً طاغياً يوظف قدرات بلده وشعبه للحروب المدمرة، ولتنفيذ سياساته القمعية.
في الوقت نفسه عندما نلاحظ تحركات هنا وهناك في أوساط المجتمع ترفع شعار "حرية الاختيار"، وفق قاعدة فكرية جديدة لا علاقة لها بمفاهيم وقيم اجتماعية مثل؛ الاحترام، والنصيحة، والمسؤولية، فمن الطبيعي استشعار القلق لدى الكثيرين عن ما يخبؤه المستقبل لمجتمع مثل المجتمع العراقي، و ربما يصدق القول ايضاً على سائر المجتمعات الاسلامية.
و رب سائل يستنكر المخاوف الخارجية اذا اطمأننا على الاوضاع الداخلية و"كنا أقوياء أمام الآخرين، ولا نعطيهم الفرصة..."، بيد أن تجارب الشعوب والأمم تؤكد أن هذه الفرضية لا تصمد أمام حقيقة المؤثرات النفسية على البشر عبر وسائل اتصال مختلفة تغذيها التقنيات الحديثة، والحرب النفسية لها مكانتها المرموقة كمؤسسة ذات شأن في الدول الكبرى منذ زمن بعيد، ومع مرور الزمن وكثرة التجارب، ابتكرت اميركا "الحرب الناعمة" وتسجل براءة الابتكار لجوزيف ناي الاميرال في البحرية الاميركية.
وقبل هذا بقرون مضت كان القرآن الكريم قد حذر من هذا الاختراق في كيان المجتمع والأمة الناهضة، وحدد صفات دقيقة تساعد على اكتشاف رموزه مثل؛ {الْمُنَافِقُونَ}، و{الْمُرْجِفُونَ}، و{الْخَرَّاصُونَ}، يتحدثون عن السلام، والحرية، والرفاهية دون أسس علمية وقواعد منطقية، فظاهر القول جميلٌ آخّاذ، ولكن النتائج كارثية، وإن كانت غير مرئية لانها تكون بعد حين، عندما تفقد الأسرة استقرارها وتماسكها، ويفقد المجتمع ثقته بكل شيء ايجابي، ويكون على هذا مسارين: الأول؛ في العلاقة بين الزوج و زوجته، والثاني؛ بين الابناء والوالدين (الزوجين انفسهم).
إن الحديث عن تمكين المرأة، والعنف الأسري، في الظاهر يدعو الى حماية المرأة والطفل من التعنيف داخل الأسرة، لكن من دون تحديد الاساليب والمناهج، فهذه –بنظرهم- ليس بالضرورة أن تفهمها المرأة، او الطفل الذي يدعون الدفاع عنه، فمناهج التغيير والإصلاح الرصينة في العالم، هي تلك التي تحقق الطموح بأقل الخسائر والاخطاء، وإلا تكون وبالاً على الناس، وتزيدهم مآسي جديدة على ما هم عليه، ومن أبرز وأخطر هذه المآسي؛ الصدام المتوقع بين الزوجين، فهما في علاقة قائمة على مبادئ وقيم واضحة، ثم يبدي أحدهما رغبته فجأة بالتصرف بشكل يناقض تلك الثوابت، كأن تريد المرأة من زوجها ان يتعامل معها كرجل مثله، يعمل، وينتج، وينفق المال لتغطية نفقات الأسرة، لا أن تبقى امرأة مربية لأطفالها، وحريصة على شخصية زوجها داخل البيت، وعلى سمعته في الخارج، وربما يكون الأمر كذلك عند الرجل إزاء زوجته، فهو ليس ذلك الرجل المسؤول، ولتفعل الزوجة ما تريد!
وكذا في علاقة الابناء بالوالدين، فهم مدعوون لمائدة الافكار التحررية، وما يلبثوا فترة من الزمن ان يجدوا انفسهم في ساحة معركة بينهم وبين الوالدين، سلاحها الانتحار، او الانتقام، او الهروب من البيت، لأنهم يريدون ان يجربوا ما يقال عن كون الاخلاق والآداب صنعة الآباء والأجداد والتقاليد البالية التي تعود الى أزمان بعيدة، وبالامكان تفسير النصوص الدينية وفق الظروف والمقتضيات، ولا معايير ثابتة للأحكام بشأن السلوك ونمط العيش، فاذا كان سلوكاً ما يُعد "عيباً"، او مكروهاً قبل فترة من الزمن، فانه مباح اليوم بحكم التطور في ميادين العمل والدراسة، واذا كان مرفوضاً في ذاك المجتمع، فهو مباح في هذا المجتمع، وبالمجمل؛ لا ضابطة تنظم السلوك العام، فكلٌ له وجهة نظره في كل شيء! وإن حصل ما يعيق هذه الحرية فان هناك "قانوناً" يشهر سلاحه بوجه من يضع الاحكام والضوابط، مستنداً الى الدستور الذي ينصّ على أن تتطابق كل القوانين مع روح الديمقراطية –مضمون المادة الدستورية- بما يعطي الشرعية لأي مواجهة محتملة في المستقبل اذا حصل تصعيد ما في قضية من القضايا بين افراد الأسرة.
نعم؛ بالامكان انتزاع صاعق الانفجار في أي مشكلة أسرية، او اجتماعية، وبكل سهولة بالاستعانة بالاحكام الاسلامية، وأبرزها قانون الديّات، وفرض غرامة مالية حددها الشرع لكل من يعتدي بالضرب على شخص آخر، كأن يكون الزوجة، او الابن، او البنت، او الأخ، لتتوفر الحماية والأمن للجميع بنسبة كبيرة، لا أن يأتون بطفل او زوجة معنّفة مع آثار الضرب الى مركز الشرطة، ثم يخرج المعتدي بعد توقيعه على "تعهّد بعدم تكرار الاعتداء"!
ونترك تفاصيل الحقوق المنصوص عليها لأفراد الأسرة، ولأفراد المجتمع لمن يريد مراجعتها في مصادر عديدة، إنما نؤكد على ضرورة الالتفات قبل كل شيء الى الأمن المجتمعي المهدد بالانهيار بسبب التقاطع المقصود بين قيم الدين، وأفكار ونظريات حديثة مستوردة من الخارج، ربما تفيد اصحابها في أمم وشعوب لها هويتها الثقافية، وظروفها الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها، أما نحن فلدينا ما يكفي من القوانين التي تضمن ليس فقط حقوق افراد الأسرة، بل وتضمن لهم العيش الكريم والآمن.
اضف تعليق