الطرح العلمي الدقيق والمناقشة الموضوعية لمسألة عدم استجابة الدعاء التي باتت ظاهرة يتحدث عنها الكثير، حملني مسؤولية تناول هذا الموضوع الحساس في الوجدان الاجتماعي، فالناس لا يبرحون يعيشون حياتهم الطبيعية ذات الطابع المادي البحت، فيما الدعاء والاستجابة ذو طابع معنوي بحت، وأن يكون الفرد بين الجماعة الصاخبة بالاهتمامات المادية...
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة يونس، الآية:60
منذ فجر التاريخ البشري اقترن الدعاء بالعبادة في شقّيه؛ التوحيدي والشركي، لتحقيق مطالب فردية او جماعية في مختلف شؤون الحياة، من خصب، وسلامة، و ذرية، ونصر، وأمان، بما يجعل الانسان الداعي يشعر بالثقة والاعتداد بانه لن يكون وحيداً أمام الظواهر الطبيعية الغاضبة والقاهرة في معظم الاحيان، ولا أمام المحن والبلايا، فضلاً عما يعده عامل قوة معنوية تضاف الى قواه المادية، يرتكز عليها لبلوغ مُناه وتطلعاته في الهيمنة والتوسع والتطور.
وعندما بزغ فجر الاسلام شعّ بنوره الطريق الواصل بين الارض والسماء، وبلور العلاقة المطلوبة بين الانسان وخالقه الواحد الأحد، من خلال توثيق العلاقة بين العبادة والدعاء، وفي مرحلة لاحقة؛ بين المستوى الرفيع من العبادة، وبين استجابة الدعاء ليستشعر الانسان الاطمئنان النفسي بأنه منظور بالرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة.
والحديث عن الدعاء والحثّ عليه في الروايات عن المعصومين على أنه "مخّ العبادة"، ثم الحديث عن الاستجابة، أسهب فيه العلماء في احاديثهم ومؤلفاتهم، وفي زيارة لثلّة من الاخوة الاعلاميين لسماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي في داره العامرة بالنجف الأشرف، وقبل انتهاء اللقاء والاستئذان بالمغادرة، لاحت من سماحته التفاته لأن يقدم لنا هدية –كما يفعل في المرات السابقة- وهي أفضل وأسمى ما يقدم للكاتب؛ الكتاب، وهو من مؤلفاته بعنوان: "لماذا لا يستجاب بعض أدعية الناس".
الطرح العلمي الدقيق والمناقشة الموضوعية لمسألة عدم استجابة الدعاء التي باتت ظاهرة يتحدث عنها الكثير، حملني مسؤولية تناول هذا الموضوع الحساس في الوجدان الاجتماعي، فالناس لا يبرحون يعيشون حياتهم الطبيعية ذات الطابع المادي البحت، فيما الدعاء والاستجابة ذو طابع معنوي بحت، وأن يكون الفرد بين الجماعة الصاخبة بالاهتمامات المادية، مستجاب الدعوة من الله –تعالى- فهو يعد منجزٌ باهر وتميز خاص، ولكن! كيف السبيل الى هذا؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرحه سماحة السيد الشيرازي في هذا الكتاب، مع تأكيده على أنه محاولة أولية لما يستحقه البحث من مؤلَفٍ كبير يستوعب الاجابة وتوضيح كل المسائل المتعلقة بشروط وظروف استجابة الدعاء.
شروط في متناول اليد
عديدة هي الشروط التي أوردها العلماء لاستجابة الدعاء، كما أوردها سماحة السيد الشيرازي في كتابه، فقد ذكر خمسة وعشرين شرطاً، نلاحظ أنها بنوعين؛ الاول: يدخل في إطار العرفان والصفات الايمانية الخاصة بالمتقين والمتهجدين، فهو يذكر المعرفة بالله –تعالى- والاخلاص له، وحضور القلب واليقين، والاستكانة والتضرع، وهي شروط ذات طابع معنوي، ربما لا يبلغها إلا "ذو حظ عظيم"، أما النوع الثاني: فهي تدخل في الحياة اليومية للانسان، وتعد جزءاً من سلوكه وطريقة تفكيره، مثل؛ تجنب قسوة القلب، وتجنب ارتكاب المعاصي، وكثرة الدعاء في الرخاء، وتعميم الدعاء للمؤمنين، والصدقة قبل الدعاء، وتجنب الأكل من المال الحرام، وشروط أخرى تضع الانسان أمام فرصة إعادة النظر والتغيير الذاتي بما يحسّن أرضية انطلاق الدعاء من الأرض وما فيها من تمرّد وعصيان على القوانين والسنن الإلهية، الى رحاب السماء، ومن ثمّ تحقيق الاستجابة.
ربما لا يكون من السهل بلوغ مراحل العرفان لمن هو بعيد –بعض الشيء- عن حلقات الدروس العقائدية، ومراكز البحث والدراسات، وعن المكتبات والعناوين الضخمة وأمهات الكتب الخاصة بالتفسير والحديث والسيرة، علاوة على الحالات الاستثنائية المؤهلة للسمو الروحي، كما هي قصة ذلك العالم العارف صاحب الرؤية الكاشفة، وتلميذه الذي أراد الحذو حذوه، فكان له ما أراد، ففزع مما شاهد من حقائق الناس في السوق والشارع، ولكن؛ الخطوات الأولية في تحديث نمط التعامل مع الوسط الاجتماعي، ومراقبة بعض التصرفات والاعمال المخلّة، من شأنها أن تكون سلماً لبلوغ المراتب العليا في مسيرة التكامل المعنوي.
ولعل فلسفة الدعاء بالأساس، ثم الحثّ عليها في الروايات والسنة الشريفة للنبي والأئمة الأطهار، لاسيما بشكل جماعي في المساجد والمراقد المشرفة، بحيث يجتمع خلق كبير بمن فيهم العاصي والعابد المتهجد، كل ذلك يُعد مسلكاً نحو استكمال الشروط المطلوبة للاستجابة، وقد أشار سماحة السيد الشيرازي في مؤلفه الى قانون "المقتضي" في استجابة الدعاء، وليس "العلّة التامة، فقد يكون الاقتضاء بدرجة تسعين بالمئة، وقد يكون خمسين بالمئة، وقد يكون واحد بالمئة، وقد يكون واحد بالألف"، و ساق مثالاً على اقتضاء الاحتراق بالنار، ولكن؛ ربما يكون بدرجة "الواحد بالمليار فيما لو كان البدن مطلياً بمادة عازلة".
وثمة مسألة جوهرية في هذا السياق وهي؛ الأمل الدائم برحمة الله –تعالى- وعدم اليأس منها مطلقاً، فعلينا "أن ندعو الله مهما كانت نواقصنا عظيمة ومعايبنا جسيمة وجرائرنا كبيرة، فإن الدعاء عبادة في حدّ ذاته، وهو يوجب غفران الذنوب بنفسه، كما أن فضل الله قد يشمل عبده فيمنّ عليه باستجابة دعائه رغم بعض نواقصه وعدم توفر الشروط فيه".
الامتحان والخطوة التالية
يحصل في أوساطنا الاجتماعية أن يُبطئ البعض عن تلبية حاجة أخيه المؤمن لاختباره في ردة فعله، فهل يكون صابراً حسن الظن؟ أم يكون ثائراً ناقماً يتفجر بالاحكام القاسية؟
وهكذا الحال في علاقة العبد بربه –تبارك وتعالى- وهو المشتمل على كل صفات الخير للانسان، من العطاء، والرحمة، والحلم، والمغفرة، وفي سياق حديث سماحة السيد الشيرازي عن ضرورة الفصل بين شروط الاستجابة، والآيات والروايات بشأن الاستجابة، يورد "حكمة أخرى لهذا الفصل وهي: الامتحان، وهو فلسفة اساسية جوهرية في كل أنواع تعامل الله -الغيبي والظاهري- مع البشر، ومن غفل عن فلسفة الامتحان والابتلاء في الكثير -إن لم يكن كل أفعاله –تعالى- التشريعية والتكوينية كالزلازل وغيرها- جهل الفلسفة من مجيء الله –تعالى- بنا الى هذا العالم".
وحتى هذا الابتلاء والامتحان له مدخلية في أمر استجابة الدعاء، يؤكد سماحته في بحثه المفصّل والشيّق لبلورة الحلقة الواصلة بين شروط الاستجابة والآيات الواردة عن الاستجابة، بأن "الامتحان، والفتنة المصرّح بها في آيات أخرى هي من "محددات" الاستجابة، وانها تكون في هذا الإطار، او فقل: هي قرينة منفصلة كالحافّة، فيكون "الوعد" متأطراً بهذا الإطار متفيداً به، أي إنه لا وعد في خارج دائرته، فلم يتحقق وعدٌ خارج الدائرة ليتحقق الخُلْف".
ويدخل في هذا السياق ايضاً؛ الدعاء تحت قبة الإمام الحسين، عليه السلام، أو الاستشفاء بتربته، فانه "شديد الاقتضاء جداً، لا بنحو العلّة التامة لفورية قضاء نفس كل الحاجات التي يطلبها كل الناس"، وما يؤكد هذا –يضيف سماحته- "إن الاستجابة الفورية لكل الحاجات، ولكل أحد، وبحسب نفس طلبه وحاجته مناقض لكون الدنيا دار امتحان وابتلاء".
وهذا يعزز لدينا الاعتقاد بأننا لسنا بعيدين عن استجابة الدعاء، لاسيما في ظل الشفاعة الحسينية، ونحن نمر هذه الأيام في ذكرى أربعين الإمام الحسين، عليه السلام، فما نلاحظه من جميع السائرين صوب كربلاء لأداء هذه الزيارة العظيمة التي تُعد من علامات المؤمن، أنهم يتسابقون للوصول الى المرقد الشريف ومواساة أهل البيت، والرسول الأكرم، في مصاب الامام الحسين، فيما يتسابق الآخرون على خدمة الزائرين بإقامة المواكب الخدمية، الى جانب مواكب العزاء بمختلف اشكالها، قبل التفكير بالطلب من الامام الحسين، بالشفاعة الى الله –تعالى- باستجابة الدعاء في وقت يكون الناس في أمسّ الحاجة الى الاستجابة وقد أحاطت بهم البلايا والمحن، وأبرزها اليوم؛ وباء "كورونا" الغريب من نوعه، والذي ما يزال يحصد ارواح الناس في العراق وفي جميع انحاء العالم، فضلاً عن الحاجات الملحّة في سعة العيش، والنجاح في العمل والدراسة، والذرية.
وعندما نقرأ الآية الكريمة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، (سورة البقرة، الآية:186)، ندرك حجم تقصيرنا مع الأئمة الاطهار، فاذا كان الله –تعالى- يصرّح في كتابه المجيد بأنه "قريب" ويجيب دعوة الداعي، فكيف بالأئمة الاطهار، وايضاً؛ الرسول الأكرم، والصديقة الزهراء، صلوات الله عليهم، وهم عبادٌ مثلنا ولكن؛ مُكرمون معصومون، فلا شكّ أنهم قريبون منّا اذا كنّا نحن ايضاً قريبون بقلوبنا وسلوكنا وأخلاقنا وتراحمنا فيما بيننا.
اضف تعليق