المشورة كسلوك عملي، والشورى كمبدأ وشرط أساس من جملة شروط لنظام حكم ناجح، لا أحد يماري فيه نظرياً، لما فيه من الايجابية الموحاة للنفوس، بل يدّعيه بوصلاً، جميع من يروم الحكم، حتى بالنمط الديكتاتوري العسكري منه، أو الحزبي، فنلاحظ تشكيل مجالس \"قيادة الثورة\"، أو \"مجلس الشعب...
"ما شَقِي عبدٌ بمشورة، ولا سعُد باستغناء رأي".
النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم.
"المشورة"، كسلوك عملي، و"الشورى" كمبدأ وشرط أساس –من جملة شروط- لنظام حكم ناجح، لا أحد يماري فيه نظرياً، لما فيه من الايجابية الموحاة للنفوس، بل يدّعيه بوصلاً، جميع من يروم الحكم، حتى بالنمط الديكتاتوري؛ العسكري منه، أو الحزبي، فنلاحظ تشكيل مجالس "قيادة الثورة"، أو "مجلس الشعب"، متخذين منها رداءً للظهور بالنمط الديمقراطي، وإخفاء مساوئ الديكتاتورية.
الى جانب مدخلية مبدأ المشورة والشورى في السياسة والحكم، فان لها مدخلية أيضاً في الحياة الاجتماعية، وفي سلوك الفرد وحتى في الأسرة الصغيرة، بما يكشف عن كون الشورى ثقافة في حياة الانسان قبل ان تكون شعاراً يتعكز عليه الساسة والحكام، كما هو ثقافة في ميادين عدّة، مثل ميدان العمل، والتربية والتعليم، فمن تكون الشورى في منظومة تفكيره؛ سواءً في محيط العمل، وفي علاقاته مع اصدقائه، وفي علاقاته مع زوجته وأبنائه، لاشك ستكون الآثار واضحة على الحياة العامة، وعلى شكل النظام الحاكم المتمخض اساساً من رحم المجتمع.
التمهيد نفسياً واجتماعياً
اذا كانت الآيات القرآنية و روايات الرسول الأكرم، وأمير المؤمنين، صلوات الله عليهما، تدعونا الى تبني مبدأ الشورى، فان الاستبداد بالرأي له رسولٌ باطن من النفس الانسانية المحرضة على حب الذات والاعتداد به دائماً، والبداية بكل بساطة من الفكرة التي يطرحها هذا أو ذاك في وسائل التواصل الاجتماعي، او في المحافل الاجتماعية والثقافية، و ربما تكون فكرة عظيمة بالنسبة لصاحبها وبناءة ومفيدة، بيد أن للآخرين قراءة اخرى للواقع فيرسمون فكرة أخرى، ربما تكون رديفة او مغايرة بعض الشيء، لاسيما في ظروف استثنائية كالتي تمر بها بلادنا، ومنها؛ العراق، حيث تقدم تضحيات جسام على طريق التغيير الشامل في النظام السياسي، ففي هذا الطريق تتزاحم الافكار والرؤى فيما يجب فعله، وما يجب الامتناع عنه.
وربما من يبحث في السجل الاجتماعي لمعظم الساسة العراقيين او غيرهم في البلاد المبتلية بالديكتاتورية –إن لم نقل جميعهم- يجد بصمات الاستبداد بالرأي واضحة في حياتهم الاجتماعية، لذا عندما يتسنّم السياسي منصبه في الدولة، يعد نفسه امتداداً اجتماعياً لما ينهجه من استبداد وإلغاء للآخرين، فهو يرى نظرائه من حوله في المجتمع هم من "المتزلفين الذين ينالون من ماله وجاهه، فهم يسحقون وجدانهم فيطرونه ويكيلون الثناء والمديح له جزافاً، ويعملون بأوامره حتى في قتل الابرياء وهتلك الاعراض ونهب الاموال، بل المشكلة في الرحم التي تولد هذا الحاكم، وهي الامة". (الشورى في الاسلام- المرجع الديني السيد محمد الشيرازي).
ولعل حشداً من الروايات الواردة عن الرسول الأكرم، والأئمة المعصومين، تدعو المسلمين والاجيال الى اعتماد الشورى في كل شيء بالحياة، تمثل برنامجاً عملياً لخلق روح التبادل في الافكار والآراء في النفوس، وقد جاءت هذه الروايات في اتجاهات عدّة منها؛ في فائدة الشورى عن النبي الأكرم: "من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الأمور"، كما جاءت فيمن يكون المستشار؛ "اذا أشار عليك العاقل الناصح فاقبل، وإياك والخلاف عليهم، فان فيه الهلاك"، وفي هذا الاطار ايضاً: "شاوروا العلماء الصالحين، فاذا عزمتم على إمضاء ذلك فتوكلوا على الله". وعن أمير المؤمنين، عليه السلام، في وصيته الشهيرة لمالك الأشتر لما ولاه مصر: "ولاتدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل به عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الامور، ولاحريصاً يزين لك الشره بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله"، بل وحتى في أخلاق المستشار نفسه، فقد جاء عن النبي الاكرم: "المستشار مؤتمن"، وعن الامام السجاد، عليه السلام: "حق المستشير إن علمت أن له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته الى من يعلم"، وفي المحاذير من التخلّي عن المشورة ما جاء عن أمير المؤمنين: "من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زل"، وقال: "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها". وهذه باقة صغيرة من الروايات الوافرة عن الشورى وأهميتها في حياة الانسان والمجتمع.
نشر ثقافة الشورى
وذلك من خلال خلق المصاديق العملية داخل المؤسسة الثقافية والدينية، وتعميم مبدأ المشاورة في الامور المتعلقة بالصالح العام، لاسيما فيما يتعلق بالاعلام والنشر، واتخاذ المواقاف والخطوات بشأن أمور كبرى في المجتمع والدولة، وهذا من شأنه أن يحدث هزّة في الجسم الاجتماعي المشبع بالاستبداد السياسي، وهي مهمة بحاجة الى طول أناة وتجلّد ووقت طويل، ففي نفس الكتاب المشار اليه، يقول سماحة المرجع الديني السيد محمد الشيرازي: "من الواضح أن الجسم الذي يعشعش فيه المرض مدة طويلة لايمكن علاجه بمدة قصيرة أو دواء بسيط، كذلك جسم المسلمين الذي تعشعش فيه الاستبداد قروناً لا يعالج إلا بنشر الوعي العام بكل الوسائل الممكنة، منها؛ الاعلامية وغيرها".
و بنظرة خاطفة على ملامح الساحة المأزومة في بلادنا الاسلامية نجد أن من عوامل تأخر نتائج التضحيات والجهود الكبيرة للتغيير، هو أن معظم الآراء والافكار والمواقف تأتي منفردة دون أن تمر في مختبر الشورى، ولم تتعرض للمشورة وتقليب وجوه الرأي بين هذه الجماعة او تلك، او بين هذا الشخص او ذاك، فالجميع يعد نفسه على الطريق المستقيم، وانه غير مخطئ بالمرة! والنتيجة التسبب باستمرار الازمة في دوامة مفرغة دون تحقيق المطالب والطموحات المشروعة لابناء المجتمع.
اضف تعليق