q
ان معركة بدر الظافرة شكلت القاعدة المتينة والمنهاج العسكري للحروب التي خاضها المسلمون فيما بعد، وأحرزوا فيها الانتصارات الباهرة، ليس على قوة مثل قوة قريش، وإنما على قوى عالمية مثل الفرس والروم، قبل ان يبسطوا سيطرتهم على كامل الجزيرة العربية، وينتهوا من جيوب الشرك...

هي غزوة، في الاصطلاح العسكري أيام الجاهلية، وهي مواجهة عسكرية بالمعني الحديث، بيد أن غزوة بدر لم تكن حرباً ارادها رسول الله، صلى الله عليه وآله، مع سبق الإصرار والترصّد، إنما بدأت الواقعة من تحرك عسكري قاده النبي لاعتراض قافلة تجارية قادمة من الشام الى مكة يقودها ابوسفيان ليستعيد المسلون ما فقدوه من أموال نهبها المشركون في مكة، كما جاء في كتب السِير، وخلاصة الواقعة، أن قريش انتفضت لما سمعت الخبر واستعدت للقتال وتعبئ تسعمائة وخمسون رجلاً معظمهم من الفرسان، وتذكر بعض المصادر أن المشركين اشتروا السلاح ومعدات الحرب استعداداً لخوض هذه المواجهة خوفاً على اموالهم وأملاً في القضاء على النبي وعلى الاسلام كاملة، وكان في القيادة، ابو جهل، ولكن بعد فترة وجيزة وصلت الاخبار بزوال الخطر عن القافلة، بيد أن ابو جهل رفض الانسحاب، وأصرّ على التوجه الى بدر بدوافع العصبية الجاهلية والاعتداد بالنفس، ولما علم رسول الله بإصرار المشركين على القتال قام خطيباً بالمسلمين وقال مما قاله: "هذه مكة قد ألقت اليكم أفلاذ أكبادها"، في إشارة الى رؤوس الشرك الذين برزوا لمواجهة الاسلام، منهم؛ عتبة بن ربيعة وشقيقه شيبة، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، وابو جهل بن هشام، وأمية بن خلف وآخرين من عتاة قريش، مما يستدعي المواجهة والتحدي بروح ايمانية عالية.

ولما سمع المسلمون مقالة النبي الأكرم، قام كلٌ من سعد بن معاذ، عن الانصار، والمقداد عن المهاجرين، وهتفا بالاستجابة والوفاء للنبي في أي خطوة يخطوها لنصرة الدين ومحاربة الشرك والطغيان، فقال سعد: "... فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحبَ إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غمدان ـ أقصى الجزيرة العربية ـ لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك". ثم تكلم المقداد بمثل ذلك، تقول كتب السير أن وجه رسول الله أشرق ارتياحاً واطمئناناً بما سمع منهم وقال: "سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم".

إن الحرب كانت خيار المشركين مما كانوا "شعارهم الخوف ودثارهم السيف"، كما وصفهم أمير المؤمنين في نهج البلاغة، بينما الحرب كانت عند رسول الله، اول فرصة تاريخية لاختبار الطاقات والقدرات الكامنة في النفس الانسانية، ولعل تزامن هذه المعركة مع أيام شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة، يكون ذو مدخلية في استثمار فوائد الصوم وآثارها على سلوك وتفكير صاحبه، فالصبر والتحدي ومقاومة الرغبات النفسية، تزود الانسان بمزيد من العزيمة والارادة لخوض معترك الحياة ليس خلال الثلاثين يوماً من هذا الشهر الفضيل، وإنما طيلة أيام السنة.

ولعل من مصاديق نجاح المسلمين في هذا الاختبار العسير، عدّتهم القليلة، فقد كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بينهم رسول الله، وايضاً الامام علي، وليس لهم سوى سبعين ناقة، وفرسين فقط، بينما المشركون عبئوا تسعمائة وخمسون رجلاً يقودهم مائة فارس مدججين بالسلاح والرماح مع امكاناتهم واستعداداتهم للحرب، بيد أن الفارق الكبير فيما تحمله النفوس في الجبهتين؛ أن جبهة المسلمين تحمل الايمان بالله وبكتابه وبرسوله وما جاء به من قيم انسانية فاضلة، بينما هموم المشركين لاتتجاوز المال والجاه والشهرة.

فكيف والحال كذلك، انتصرت هذه القلّة على تلكم الكثرة؟

في كتابه "شهر رمضان" ينقل سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- فصلاً من الواقعة، عندما نزل المسلمون وادي بدر، أمر رسول الله اصحابه، بأن "غضوا ابصاركم، ولا تبدأوهم بالقتال، ولا يتكلمن أحد"، هذا الالتزام الحرفي بالأوامر من أناس حفاة وجياع وبامكانات عسكرية وخبرات لا تكاد تذكر، هي التي شوشت على الفكر العسكري العريق لصناديد قريش.

وقبل المواجهة بعث المشركون عمرو بن وهب الجمحي، وكان من فرسان قريش، ليستطلع قوة المسلمين، فصعد الوادي وتطلع الى معسكر المسلمين فلم ير ما يثير القلق من كمائن او شيء آخر، ونقل لجماعته عدد المسلمين وعدتهم، بيد أنه استدرك بالقول: "...ولكني رأيت يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، أما ترونهم خُرس لا يتكلمون، يتلمضون تلمض الأفاعي، انهم قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم...". وما أن أكمل عمرو تقييمه الرهيب حتى دبّ الخوف في صفوف المشركين، وحاول حكيم بن خزام وعتبة بن ربيعة إقناع المشركين بالعدول عن حرب المسلمين والعودة بسلام دون الانزلاق في مستنقع لا نجاة فيه، ولكن؛ كان الرفض قاطعاً من ابو جهل الذي يهابه الجميع، وكان بالحقيقة هو قائد جيش المشركين في هذه المعركة.

وحصل ما حصل من الاشتباك والقتال الشديد، وما انجلت الغبرة، إلا عن سعبين قتيلاً من المشركين ومثلهم من الأسرى في يد المسلمين، فيما استشهد من المسلمين تسعة رجال فقط.

ان معركة بدر الظافرة شكلت القاعدة المتينة والمنهاج العسكري للحروب التي خاضها المسلمون فيما بعد، وأحرزوا فيها الانتصارات الباهرة، ليس على قوة مثل قوة قريش، وإنما على قوى عالمية مثل الفرس والروم، قبل ان يبسطوا سيطرتهم على كامل الجزيرة العربية، وينتهوا من جيوب الشرك والعدوان المتمثلة في جهات عدة كانت ترى في قتال المسلمين أمر حياتي ومصيري بالنسبة لها، مثل بعض القبائل العربية والقبائل اليهودية، حتى لم يبق بطل يعتد به، ولا زعيم يشمخ بانفه إلا وتجندله سيوف المسلمين او ترغمه على الاستسلام والانصياع لنداء الحق.

فالمسلمون يمتلكون السلاح والقوة العضلية والقدرات المادية، كما يملكها عدوهم، إلا انهم يستخدمون هذه الطاقات بصورة ايجابية وبناءة، فلا يفتكون بأحد ولا يغدرون، ويبدأون بالقتال والحرب، إنما يدعون الى السلام والتبليغ لقيم الحق والفضيلة بما يتوافق مع الفطرة الانسانية ويقبله العقل والوجدان.

اضف تعليق