يعد الشعب العراقي من اشدّ وأكثر الشعوب إبتلاءً ومعاناة عبر سنّي التاريخ المتلاطمة منذ الآف السنين، وتسلط عليه طغاة الارض وجبابرتها، لكسر ارادته وثني عزيمته وسلب ايمانه، فما ازداد إلاّ قوة ومنعة وصبراً جميلاً مستعينا بالله الواحد القادر.
ولانريد هنا السرد التاريخي لمسيرة هذا الشعب المطرزة بالضحايا والمواقف الكريمة، فهي موجودة في مضانها من كتب وابحاث ووثائق، وذاكرة العراقيين الواسعة.
والذي يهمنا هنا هو ما وصل اليه الشعب العراقي الكريم من رفعة وعزّة ومنعة وصلابة ايمان وقوة ارادة في عامنا هذا 1439 ه- 2017 م، رغم انهاكه واتعابه على مدى عقود وعقود فضلا عن الاربعة عشرة سنة الاخيرة من قتل وتفجير وتهجير وترهيب، الا انه نفض الغبار عن رأسه وشمر عن ساعديه متحاملاً على جراحه، ولبّى نداء المرجعية والوطن وحرّر ارضه الطاهرة من رجس اعتى قوة ظلامية دولية كبرى عرفها تاريخ البشرية، وفي الوقت عينه يقيم ويقوّي ويبدع في ولائه الحسيني الموغل في القدم منذ عالم الارواح، وصولا الى مابين الرحم والاصلاب، وهم يشهدون الله عندما ناداهم الست بربكم؟
قالو بلى!
ثم اقرّوا ثانية لرسوله الكريم محمد "صلى الله عليه واله " بولاية امير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن ابي طالب "صلوات الله عليهم"، عند غدير خم، بأنهم لمحمد وآل محمد سلمٌ لمن سالمهم وحربٌ لمن حاربهم واولياء لمن والاهم واعداء لمن عاداهم، ودفعوا ضريبة موقفهم هذا انهاراً من الدماء الزاكيات والمصائب والنكبات وعظيم الكربات والملاحقات، ما سوّد تاريخ الحكام الظلمة على مر تاريخ العراق المؤلم، وبيض وجوه شعبه الأبي المقاوم.
كل هذا لم يضعفهم ولم يهز شعرة من ايمانهم وولائهم وطبيعتهم وفطرتهم السليمة، وطيبتهم المفرطة.
حتى وصل الحال وانتهى المآل الى ايامنا هذه، واربعينية الامام الحسين "عليه السلام" لنشهد بما سطروه من اعظم ملحمة عالمية كبرى خارج تصورات نطاق العقل والمنطق، ممّا اذهل الحاضر والغائب، المقيم والوافد وكل زوار آل محمد "عليهم السلام" من داخل العراق وخارجه، وانهم رغم محدودية وفقر دخلهم وامكانيتهم المالية، إلاّ انهم قاموا بواجب الضيافة بل وبترف وتفنن لما يقارب ال (20) مليوناً من الزوار العراقيين والاجانب، بنفس واحد وبلسان واحد ممزوجا بتوسل وتذلل " تفضل يا زائر، بخدمتكم يا زائر، شرفنا يا زائر...
فأمتدت سفرة ابي عبد الله " عليه السلام " من جنوب البصرة عند المطلاع، الى كربلاء المقدسة مروراً بأكثر من 500 كيلومتر وعشرات المدن والقرى والقصبات والشوارع والازقة والاحياء، فضلاً مدن شمال العراق وغربه وشرقه المؤدية الى قبلة الاحرار, بالوان واصناف متعددة من الخدمة والحرص على راحة الزائر الكريم واعانته لإتمام مشيه ومشواره الولائي، بما يشعرهم انهم ملوكاً عند خدمة الحسين "عليه السلام" اينما حلوا واستقروا.
فنصبت السرادق وقبلها فتحت القلوب والبيوت في ظاهرة غيرة مسبوقة عبر التاريخ الانساني والكرم البشري، بما يقف عندها الصديق والعدو حائراً متحيراً، متسائلاً عن السر والسبب والدافع وراء كل هذا ّ !
فيأتيه الجواب انها المودّة في القربى، وحق تشرف تربتنا وعراقنا بعلّي وبنوه "عليهم السلام"
" ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ " الشورى /23.
ويعملون كل هذا واشهى وارقى، وهم الشاكرون ولا ينتظرون ثناءً ولاشكراً من احد ما، إقتداءاً بعلي والزهراء وبنوهم "عليهم السلام" مرددين " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا "الانسان/ 9، وعيونهم بعين الله ورؤوسهم مطأطأة عند علي والحسين "عليهم السلام"، حياءً من تقصيرهم بخدمتهم لضيوفهم، فيأتيهم الجواب من تحت بطنان العرش "فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا" الانسان 11-12، وان لهم خدمة ولدان مخلدون يوم يلقونه تعالى، ويرفع علي والحسين " عليهم السلام" رؤوس خدمته عالياً ليرّوا " وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا " الانسان 21-22...
هذا اعتقادهم الذي امتزج مع طينتهم الولائية، وتلبيتهم للصرخة الحسينية في رمضاء كربلاء وهجيرها الظامئ " الا من ذاب يذبُ عنا، الا من ناصر ينصرنا ...!
فلبّى اهل العراق النداء بصوت مدوّي لبيك ياحسين، شيباً وشباباً في ساحات الوغى حشداً وجيشاً، ومن تبقى منهم مع نسائهم واطفالهم خدمة وسهلاً لضيوف آل محمد "عليهم السلام"..
فكان ماكان مما يعجز عن وصفه اللسان، والعقول عن ادراك كنهه، بهذه الروحية السامية والسمو الروحي، وسط هذه المادية الصمّاء والمصالح الدنيوية الجوفاء!
وسيبقى هذا النداء خالداً وهذه الاجابة العراقية حاضرة وفي كامل جهوزيتها، مادام في اهل العراق عرق ينبض، الى ابد الدهر وانتهاء الاجل.
ومن هنا نفهم وضمن حدود امكانياتنا المعرفية المتواضعة ، بأن مجيء الامام الحسين " عليه السلام" الى هذه الارض وهذا البلد، وجعلها محلاً له،بعد ان اتخذها ابيه علي " عليه السلام" من قبل عاصمة له، ثم مرقداً لهم ولذريتهم، لم يكن صدفة، او اضطراراً عسكرياً تكتيكياً حينها، بل لحكمة الله بالغها، كانت خافية على من عاصروه، ولم يروا ابعد من حدود الطف وخيامها، بينما رأت زينب بنت علي "عليهما السلام" المشهد واضحاً والمستقبل مشرقاً بنبوئتها للإمام السجاد " عليه السلام" ”وَيَنْصِبُونَ لِهَذَا الطَّفِ عَلَماً لِقَبْرِ أَبِيكَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ وَ لَا يَعْفُو رَسْمُهُ عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ وَ لَيَجْتَهِدَنَّ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَأَشْيَاعُ الضَّلَالَةِ فِي مَحْوِهِ وَ تَطْمِيسِهِ فَلَا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إِلَّا ظُهُوراً وَ أَمْرُهُ إِلَّا عُلُوّا “.
ومانراه اليوم وفيما يأتي من الايام والسنين من ولاء العراقيين وكرمهم العلّوي، هو نقطة من بحر جود وكرم محمد وآل محمد "عليهم السلام"، الذين ما قالوا لا، إلاّ في تشهدهم، وخذ حتى رضى، وقدموا اشرف الموجودات واعلاها قيمة وشاناً بقولهم "اللهم تقبل منا هذا القربان"ّ
فمن هذا المعين العذب الدافئ الذي لا ينضب، ينهل ابناء الرافدين فرحين مستبشرين بمجاورة علي واولاده "عليهم السلام" وخدمة ضيوفهم.
كيف لايكون ذلك وبين ظهرانيهم زين السموات والارضين " عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام قَال َ:”دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله، وَعِنْدَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ "صلى الله عليه واله" :
" مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَا زَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ !
قَالَ لَهُ أُبَيُّ : وَكَيْفَ يَكُونُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَحَدٌ غَيْرُكَ ؟
فَقَالَ : يَا أُبَيُّ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي السَّمَاءِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اللَّهِ مِصْبَاحُ هُدًى وَ سَفِينَةُ نَجَاة…" بحار الانوار: ج91،ص 184
وبهذا التجلي الولائي للعراقيين، تتحقق دعوة النبي ابراهيم الخليل " عليه السلام" لآل محمد "عليهم السلام ", " فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " ابراهيم / 37.
فهوى اهل العراق الغيارى الذين وصفهم سيد الخلق واشرف الموجودات اطلاقاً الرسول الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" برواية ابي سعيد الخدري، بانهم وعاصمتهم " الكوفة جمجمة العرب ، و رمح اللّه تعالى ، و كنز الإيمان ، فخذ عنهم "، وعمّروا القلوب والابدان والبنيان،
وخاطبهم امير المؤمنين الامام علي "عليه السلام"، بقوله " مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَسَنَامِ الْعَرَبِ " !
الا يحق لنا بعد كل هذا وذاك ان لكل عراقي
انا عراقي... انا افتخر...
اضف تعليق