الساعة الثامنة من مساء اليوم، في صالة المطار انتظر الإقلاع، أراقب صالة الانتظار والمسافرين، على اختلاف رحلاتهم منهم من يبتسم وآخر ظهر عليه الانزعاج، وآخر لم يدرك الموعد، والأغرب من هذا شخص لا يعرف عن موعد الطائرة شيء ما يعرفه الانتظار فقط، طائرة كبيرة جاثمة في المدرج، اقتربت من النافذة الزجاجية والتقطت بعض الصور، من بعيد لا يُتَخَيل انها تسع جميع الركاب، مع طاقم الرحلة، لصغر حجمها، هذه المرة الخامسة التي أسافر فيها جواً، وكل مرة اشعر بالخوف والاختناق حتى أنني احتاج أحياناً الى جرعة من الأوكسجين.
اقترب الناس من مكان تسليم الحقائب، حقيبتي صغيرة، لا يوجد فيها الكثير من الملابس كعادتي في السفر لا احمل الثياب، طابور طويل يقف أمامي، بدأ الخوف والتوتر يظهر على وجهي، سلمت رقم المقعد لمضيفة الطائرة وأشارت بيدها ان المقعد المخصص لهذا الرقم هو (33) عند النافذة.
جلست وجسدي يرتعش، حاولت ان أكون قوياً، طاقم الرحلة بدأ بترتيب الطائرة، المقعد الذي بجانبي مازال فارغاً، هذه الرحلة ستكون هادئة لا احد يجلس بجانبي ويزعجني، كما حصل معي في الرحلات الماضية، تصفحت أوراق المجلة الفنية، جاءت المضيفة ومعها رجل أجْلسَته بجانبي على المقعد الفارغ، شعرت بالضيق، يا الله كم كنت سعيداً، لو لم يأتي هذا الرجل ويشاركني في المكان، تعالت نظرتي وأدرت بوجهي عنه، وأكملت تصفح المجلة، كنت انتبه له، الطائرة ترتفع قليلاً، وقلبي يسقط مني، جاري في الرحلة لم يتأثر بارتفاع الطائرة، اخرج من حقيبته مجموعة من الكتب.
الفضول يجتاحني، أتساءل مع نفسي، ماذا يقرأ هذا الرجل؟ مظهره لا يدل عليه انه متعلم، شعره الكثيف ولحيته السوداء، وملابسه الفضفاضة، وقت الرحلة (12) ساعة، مضت منها ساعة واحدة، تركت المجلة وأغمضت عيني، سرحت في عالم الخيال، كطائر يُحلق بجناحيه، سقطت في مهبط هوائي، وأحلامي تهاوت معي، مازال يقرأ هذا الرجل يا الهي.
سألني الى أين رحلتك يا أ:
قلت له: إلى الولايات المتحدة.
وأنت الى أين؟
أجابني وهو ينظر في الكتاب: رحلتي الى الهند.
من أي بلد أنت؟
قلت له:
انا من لبنان.
وأنت؟.
أجابني:
أنا من ايران.
بعد هذا التعارف صمتنا طويلاً، المثير انه لم يطبق الكتاب منذ جلوسه، أما أنا افتح المجلة واقرأ كلمة وأتصفح الاوراق وأعيدها الى مكانها، لَفتُّ انتباهه ابتسم وقال لي لا تدع الوقت يجعلك أسيراً، استمتع بكل ثانية.
سألني فجأة: ما اسمك؟
استفزني بكلامه من أين علم انني لا استمتع بالوقت، أجبته:
اسمي هو أسامة.
قال: - نظراتك المتعددة الى عقارب الساعة، وتقلب الاوراق، كلها تقول ذلك.
قلت في نفسي صحيح ما يقوله هذا الرجل.
قطع صمتي وقال ما رأيك ان تشاركني هذه الرحلة، وتقرأ معي هذا الكتاب، ستكون سعيداً جداً أعدك بذلك، لم تسألني عن اسمي ولكن انا اقول لك اسمي هو محمد!.
بصراحة يا أخ الكتاب الذي في يدك أعجبني جداً، وشعرت بأنك مستمتع في قراءته، من هو المؤلف وماذا يحتوي؟.
بالعربية الفصحى كان يتكلم معي، لأن لغته فارسية، فكثيراً ما كان يتلكأ بنطقه للكلمات باللهجة العربية العامية.
يا أخ ان الكتاب الذي بين يدي هو للشيخ الأعظم الأنصاري، واسمه المكاسب، هل تعرفه؟ وهل قرأت له من قبل؟.
قلت: أول مرة أسمع بهذا الاسم؟ الأنصاري، هل يكتب قصص أم ماذا؟.
أغلق الكتاب وقال لي بحق الله عليك ماذا تقول؟ لا تعرف الشيخ الأنصاري!.
قلت بتذمر إنني لا اقرأ كتب الدين والسياسية، ما أرغب بقراءته هو المجلات الرياضية والفنية؟ بعيداً عن الحرام والحلال.
وقت الضيافة جاء، وقدمت المضيفة الطعام، وقال لي فكر وبعد الطعام أعطني رأيك، إن وافقت على طلبي أقص عليك حياته.
واحة الشيخ مرتضى الأنصاري
هو مرتضى بن محمد أمين بن مرتضى بن شمس الدين بن محمد شريف الأنصاري الدزفولي (1214 هـ - 1281 هـ) ينتهي نسبه إلى صحابي النبي جابر بن عبد الله الأنصاري، ولد بمدينة دزفول التي تقع حالياً في محافظة خوزستان بجنوب غرب إيران، ومن جملة مبلغي التشيع الإسلامي كان أبوه الشيخ محمد أمين، وأمه بنت الشيخ يعقوب بن الشيخ أحمد شمس الدين الأنصاري، فقدت بصرها في أواخر عمرها كان الشيخ مرتضى يُهيىء لها مقدمات النافلة كتدفئة ماء الوضوء.
الشيخ مرتضى في طريق العلم
درس في بداية أمره عند عمه الشيخ حسين الأنصاري، ثم سافر مع والده إلى العراق وهو في العشرين من عمره، فطلب السيد مجاهد (أحد علماء الدين في كربلاء المقدسة) من والده أن يتركه في كربلاء المقدسة ليكمل دراسته، ترك المدينة مع جملة من العلماء وتوجهوا نحو بغداد بعدما طوقوا المدينة رجال الاتراك، فبقي في بغداد، هاجر الى ايران ثم عاد إلى العراق والنجف (سنة 1249) أيام رئاسة الشيخ علي ابن الشيخ جعفر.
تعلم على يد عدد من الأساتذة، «الشيخ الجواهري»، و «شريف العلماء»، محمد حسن الشيرازي، و«الآخوند الخراساني»، حسين الطبرسي، أطلق لفظ "الشيخ" في الوسط الشيعي على شخصيتين بارزتين أولاهما الشيخ الطوسي، ومن ثَمَّ الشيخ الانصاري.
الشيخ الأنصاري وتاج الزعامة
استلم الأنصاري زعامة المرجعية الشيعية (عام 1266 هـ) بعد وفاة أستاذه محمد حسن النجفي الذي أوصى به قبل وفاته ”أمر بحضور العلماء عنده وهو يعاني من المرض في آخر أيامه، فحضر جميع العلماء ما عدا الشيخ الأنصاري، ولمّا بحثوا عنه وجدوه في حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) يدعو لشيخه بالشفاء العاجل، وعند انتهائه من الدعاء توجه إلى حضور اجتماع العلماء الذي دعا له أستاذه، فأجلسه إلى جواره وأخذ بيده ووضعها على قلبه وقال: "الآن طاب لي الموت"، ثمّ قال للحاضرين: "هذا هو المرجع من بعدي"، ثمّ التفت إلى الأنصاري وقال له: "قلّل من احتياطاتك فإنّ الشريعة سمحة سهلة"، وهذا القول من صاحب الجواهر ليس إلّا لتعريف الجمع بشخصية الشيخ الأنصاري وقيمته العلمية كمرجع من بعده، وهكذا تسلم الشيخ الأنصاري المرجعية وظل فيها حتى (عام 1281هـ).
السر العجيب في علاقة الشيخ بوالدته
والدة الشيخ الأنصاري كانت امرأة مؤمنة تقية نجيبة صالحة عابدة، رأت في منامها يوماً من الأيام وقبل أن تلد ابنها مرتضى، الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وقد أعطاها قرآناً مُذهباً، ولعله من هذه الجهة كانت (رحمها الله) ترضع ولدها الشيخ وهي على وضوء كلما أرادت إرضاعه، وكان ذلك الوضوء هو السر، وعندما ارتقى الشيخ الانصاري لزعامة المرجعية، قيل لها: هنيئاً لكِ، فقد نال الشيخ مرتضى المرجعية العليا في العالم، قالت: لا عجب فقد كنت أتمنى له درجة أعلى من ذلك، لأنني ما أرضعته مرة إلا وأنا على وضوء، حتى في تلك الليالي والأيام الباردة كنت أقوم وأسبغ الوضوء ثم أرضعه وأنا على طُهر.
كرامات الشيخ الأنصاري
كان طالب علم يدرس العلوم الدينية فـي كربـلاء اسمه الشيخ إبراهيم، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج، وكان عليه دَينٌ أيضاً، وكان أيضاً يريد الحج ولا يتمكّن من ذلك، فتردد الى حرم الإمام الحسين (ع) وأخيه ابي الفضل العباس (ع) واستمر ستة أشهر، وفي أحد الأيام رأى امرأة طلبت من الإمام العباس (ع) ان يشفي طفلها المريض بمرض الكزاز بعد عجز الأطباء عن شفائه، ووضعت ابنها في الحرم الشريف ثم ما لبث ان شفي الطفل من مرضه، فحزن الطالب لتأخير الطلب عليه، وتعجيل طلب المرأة القادمة من البادية، وعـزم الرجل على الذهاب إلـى النجف الأشرف، ولما وصل إلى الصحن الشريف جلس ليستريح، فإذا به يرى شخصاً يأتيه ويقول له: يا شيخ إبراهيم إنّـي خادم الشيخ مرتضى الأنصاري جئتك لأبلغك رسالة الشيخ، وأنّه ينتظرك في بيته، فتعجب الشيخ إبراهيم من كلام هـذا الرسول لأنه لـم ير الشيخ الأنصاري من قبل، واشتـدّ تعجّبه عـن كيفية علم الشيخ به وأنّه موجود في إيوان الصحن المطهّر، وذهب إلـى دار الشيخ، فاحترمه الشيخ الأنصاري وأعطاه ثلاث صرر قائلاً له: هذه الصرّة لحجّك وهذه لزواجك وهـذه لأداء دينك، فتعجب من معرفة الشيخ بحوائجه وازداد عجبـه من عتب الشيخ عليه وقال له: هناك فرقٌ بينك وبين تلك المرأة التي تشفّع لها العبّاس (عليه السلام) فـي الحال، فأنت رجـلٌ عالم وعارف وتلك امرأة قرويّة، فإنّ الله إذا لـم يعطها حاجتها كفـرت، وأمّا أنت فلست كذلك.
الشيخ الأنصاري والخلود في الذاكرة
في ليلة السبت الثامن عشر من جمادى (الثانية 1281هـ) لبى نداء الرحيل عن عمر ناهز السابعة والستين سنة، ودفن في صحن الإمام علي (عليه السلام) في الحجرة المتصلة بباب القبلة، والتي دُفن بها الشيخ حسين نجف والشيخ محسن خنفر، وازدحمت المدينة بمعزين حتى أصبحوا سوادا لا يرى آخرهم، والكل كان في بكاء وحزن .
هل عرفت من هو الشيخ الأنصاري يا أخ؟.
أطلقتُ حسرة حرّى وقلت (يا حسرة على العباد)، أحسنت اخي محمد هذه من اجمل الرحلات، فقد كنت في رحلة الشيخ الانصاري، لو سمحت هل لي ان استعير منك كتاب (المكاسب) لحين إنتهاء وقت الرحلة، قدّم لي الكتاب، وقال لي هذا الكتاب هدية لك، كتب فيه خاطرة وختم عليه باسمه، الرحلة شارفت على الانتهاء، الهبوط على الأرض أصبح قربياً جداً، الثلوج تهبط معنا، حملتُ الكتاب بيد وحقيبتي باليد الاخرى بعدما سلمت على الاخ محمد صاحب الكتاب وقلت له (كنت في رحلة الشيخ الأنصاري).
اضف تعليق