جرت محاولات عديدة من علماء وفلاسفة في مراحل زمنية مختلفة لمعرفة حقيقة الإنسان؛ من أين؟ والى أين؟ انطلاقاً من كون هذه المعرفة تمثل سلسلة المعارف الحضارية التي تبلورت مع مرور الزمن، فظهرت "العلوم الانسانية" مثل؛ علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ؛ كلها مضت في خط فلسفي واحد لتحقيق تلك المعرفة، وفي البين، تشابكت التعاريف والمقاييس حول هذا الموجود المميز، فمعرفة نزعات الانسان وطاقاته الفكرية في سياق علم النفس، لابد أن يلتقي مع معرفة مديات نشاطه وسبل أشباع تلك النزعات، في سياق علم الاقتصاد، وهكذا...
فهل يا ترى وصلنا الى معرفة حقيقية وكاملة للإنسان بما يمكنه من العيش مع سائر بني جنسه، بشكل آمن وسليم؟
صاحب كتاب "الانسان ذلك المجهول"، الدكتور آلكس كاريل، يقول في كتابه المعروف: "مع كل التقدم العلمي الذي حققته البشرية، لكننا لم نكتشف إلا القشرة الظاهرية من الانسان، أما أغواره وأعماقه وحقيقته فلم تكتشف الى هذا اليوم".
فلسفة التكريم
واذا بحثنا عن الإنسان في القرآن الكريم، نجد الرؤية الشمولية والعميقة، وهي نفسها الرؤية إزاء الوجود والكون، متمثلة بالحالة الثنائية، ففي مقابل النور والظلام، والقبح والجمال، وغيرها من الثنائيات، فان الانسان مكوّن من روح وجسد، وفيه جوانب ايجابية وأخرى سلبية؛ الجوانب الايجابية موهوبة له من الله –تعالى-، بينما الجوانب السلبية ذاتية تنمو وتظهر بفعل اسباب وعوامل مختلفة، وهنا يأتي التكريم في جعل هذا الموجود متميزاً عن سائر الكائنات الحيّة بالعقل والإرادة ليختار بنفسه {إما شاكراً وإما كفوراً}، ولذا نجد مفردة "بني آدم" عندما تكون الإشارة الى القاعدة الاخلاقية والصياغة الاولى لشخصية البشر، فيما نلاحظ "الإنسان" أو "الناس" في المرحلة اللاحقة حيث تطبيق الاحكام العبادية والنظم الاجتماعية، فيما تكون الإشارة الى "المؤمنين" في أسمى قمة النضوج والتكامل التي يُراد منها تشكيل الحضارة الانسانية؛ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، (سورة الأسراء،70)، كما نقرأ في سورة الأعراف آيتين تتحدثان عن تشييد هذه البنية الرصينة لآدمية الانسان: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، و {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
هذا التكريم الخاص يفتح طريق التكامل الإنساني امام بني البشر في طريق ممتد ربما يصل به الى أعلى عليين عندما يتميز عن سائر الموجودات بأفضليته ومسيرته التكاملية، "ويقول بعض العلماء إن الكائن الموجود في الحياة يعيش في نشأة تحتوي على كمالات وجودية معينة"، مثل الجماد والنبات والحيوان، أما الانسان فانه يشتمل على جميع الكمالات لدى هذه الموجودات، بالنسبة "للحالة الجمادية فيها كمالات، فوجود جسم يعني هنالك جوهر ممتد في الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق وهذه هي كمالات الحالة الجمادية.
أما نحن البشر فلدينا هذه الكمالات ايضاً، كون الانسان موجود متحقق له امتداد في الطول والعرض والعمق، كذلك لدينا كمال نباتي، وتبعاً لذلك لدينا كمالات النشأة النباتية، مثل النمو، وهنالك الحياة الحيوانية وكمالها الحركة، بمعنى أن كلٌ منا الآن ينطوي على أغلب كمالات النشأة المتقدمة، فلدينا حالة جمادية، وحالة نباتية، وحالة حيوانية ايضا، ولكن كل هذه الكمالات ليست ملاكا للتفضيل ولا للتكريم".
ولذا يؤكد العقلاء والحكماء على أن مقياس الإنسان الحقيقي لن يكون بطوله وعرضه وعمقه، ولا ايضاً بقواه العضلية وحركته بالنشيطة، لأن في محذور من أن يقارن هذا الإنسان المعتد دائماً بنفسه، بالأشجار الباسقة والجميلة او ببعض الحيوانات المقتدرة.
وهذا ما لا يرتضيه عاقل لنفسه، نعم؛ هو يأكل وينمو ويتحرك، إنما في طريق اكتساب المزيد من الكمالات من أخلاق وعلم وعقيدة وايمان، فيكون كما اراده الله –تعالى- سيداً في الكون وناجحاً في حياته، لا أن يكون كما وصف الامام علي، عليه السلام، ذلك الشخص في خطبته الشقشقية الشهيرة: "...بين نثيله ومعتلفه"، حتى أن مفسر نهج البلاغة؛ ابن أبي الحديد، هتف قائلاً بأن: "هذا من ممض الذم"! "بمعنى أن هذا ذنب كبير، أن يوصف احد صحابة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لأن من يُقال عنه "بين نثيله ومعتلفه"، ليس آدميا وانما هو حيوان، لا بل هو أضل من الحيوان: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، فمثل هذا الانسان أسوأ من الحيوان لأنه حين دخل في المرحلة الجديدة يجب أن يتصف بكمالاتها الجديدة، ولكي يكون بملاك الآدمي، وكان عليه أن يتصف بهذه الكمالات، وإذا لم يتصف بها فمثل هذا الانسان ليس لديه عطاء}.
هكذا كان علماء الدين الكبار يتوسلون الى الله –تعالى- بواسطة الأئمة والأولياء الصالحين، ليس للتوفيق في كسب العلم، وإنما لأن يصلوا الى مرتبة الآدمية، ومنهم الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة، الذي كان يتوجه إلى مرقد الامام الحسين، عليه السلام، ويتوسل بالإمام، ويقول: نعم؛ لقد أصبحت عالماً ومجتهدا ولكنني أريد أن أصبح آدميا. وهكذا الأمر في جميع مجالات حياة الإنسان؛ في بيته ومجال عمله وخلال تعامله مع افراد المجتمع.
وربما يسأل البعض عن الضير من أن يهتم الانسان برغباته وقدراته، فيكون جميل المنظر مفتول العضلات، يمتلك من القدرات ما يمكنه من رغد العيش والتمتع بالحياة، وهو أمر حسن، بل هو ضمن جدول أعماله في الحياة، بيد ان المفاجأة تحصل عندما يجد التناقض بين غايته من كل ذلك مع الواقع الذي يصنعه ويتأثر بتلك الرغبات التي حققها لنفسه، فهو يعيش في سعة من المال –مثلاً- ولكن يكون ذلك احياناً على حساب جوع وفقر الآخرين، أو يكون مقتدراً ومتنفذاً يفعل ما يشاء، فيكون على حساب اضطهاد جاره او افراد أسرته او من يعملون معه، بينما صاحب الأثر الطيب في الحياة هو ذلك الآدمي الذي تمكن من تحقيق الإرادة الإلهية في الخلق بأن يكون "ولي الله" في الحياة، في علمه وسلوكه وأخلاقه وأعماله.
"إن لم تكن ذئباً...."!
يتحدث الجميع عن الازمات في الحياة وايضاً اسبابها، ولكن؛ لا أحد يجرؤ على التقدم لحل هذه الازمات رغم ان الكثير منها يعود لاسباب ذاتية في نفس الانسان وهو قادر على الإسهام في حلها، بيد أن اسباباً عديدة تحول دون ذلك، فيكون الانحناء للواقع للموجود حتى بأمضّ النتائج كأن تتحول الحياة الى غابة مطبقة على "مذئبٍ ومسبعِ"، كما جاء في قصيدة الشاعر الجواهري.
حتى بلغ الحال بالبعض لأن يستمرئ تشبيه الانسان، بكل ما لديه من تكريم وتمييز وأفضلية، بالذئب في قدرته على تحقيق ما يريد حتى وإن كان بسفك الدماء، وربما يريد البعض من وراء هذا الشعار المزعوم: "إن لم تكن ذئباً أكلت الذئاب" أن يوفر لنفسه حصناً من الردع أمام تحديات الآخرين واحتمال النيل منه بمختلف الاشكال، ولا ضير بعدئذ أن يعود إنسان اليوم الى عهد الجاهلية وما قبل اربعة عشر قرناً من الزمن، عندما الانسان شعاره الخوف دثاره السيف، يخشى أن يتخطفه الناس من حوله، ثم يخسر كل المنجزات الحضارية العظيمة والمكتسبات التي حصل عليها الآباء والأجداد بجهودهم المضنية وأعمالهم الجبارة.
كما أن الهدم أسهل من البناء، فأن يكون الانسان آدمياً وسميّاً لأبيه، نبي الله –تعالى- آدم، عليه السلام، ليس بالأمر السهل، إنما عليه أن يتخطى المراحل ويجد ويجتهد في استحصال الكمالات الانسانية التي تعود عليه قبل غيره، بالنفع والفائدة في تحقيق السعادة في حياته الدنيا وفي حياته الآخرة ايضاً.
اضف تعليق