q

يُروى أن شخصاً سقط في الماء وأشرف على الغرق والموت، فجاءه عابر سبيل، ومدّ يده اليه في محاولة منه لإنقاذه، وهو يقول له: مد يدك إليّ... ولكنه تفاجأ من عدم مد الرجل الغريق يده! فكرر عليه الطلب بأن يمد يده قبل أن تمتلئ بطنه بالماء ويغوص في عمق الماء، وبينا هو على هذه الحالة، مر شخص آخر يعرف الشخص الغريق وصفاته، فقال للرجل المنقذ: يا هذا...! قل له خُذ يدي، ولا تقل له أعطني يدك، ففعل، فما كان من الرجل الغريق إلا أن يلتقف يد المنقذ بسرعة البرق وينجو من الغرق!.

ضمن قوانين الحياة السائدة اليوم، يتعين عليك البحث عن المال وفرصة العمل والسكن، بهدف تحقيق حياة الكفاف، وربما يسعى البعض للمزيد، فيبحث عن الامتيازات لحياة أكثر رفاهية وراحة؛ فربما تكون الامتيازات، سياسية بوجوده في مؤسسات الدولة، او امتيازات اقتصادية لمشاريعه واستثماراته، او حتى امتيازات اجتماعية لكسب بعض الوجاهة بين اوساط المجتمع.

الأخذ؛ هي النقطة التي يلتقي فيها جميع هؤلاء، مع الفارق في اهداف ونوايا بعضهم فيما يتعلق بالتعامل مع المال، وبين أن يكون وسيلة أو هدف، فالجميع يجد في مفهوم الأخذ عامل حياة للحاضر وضمانة للمستقبل، حتى شاعت المقولة التي يكررها البعض عند الحديث عن العطاء، بأن أموالي لم تصلني عبر الهواء الطلق! إنما بالعمل الشاق والكفاح و... ومن يريد المال، ما عليه إلا ان يقتفي الأثر...".

لابد من حسم المعركة الداخلية

يقول علماء الاخلاق أن في الانسان نزعتين متنافستين على الظهور؛ الاولى: تدعوه الى التملّك، والاخرى تدعوه الى العطاء والتضحية، والذي يغذّي النزعة الاولى؛ حب البقاء والتمحور حول الذات، بينما يغذي النزعة الثانية؛ العقل الذي يدعو صاحبه الى الاحسان والعطاء والى تجاوز ذاته للتواصل مع الآخرين.

وهاتان النزعتان موجودتان لدى كل انسان، فلا يوجد شخص لا يحب التملك والبقاء، كما لا يخلو مجتمع من أشخاص يتميزون بحبّ الإحسان والعطاء والإيثار، لأن كل انسان مركب من عقل وعاطفة (رغبات وشهوات)، وتتحدد شخصية الانسان في الحياة عند تفوق جانب على آخر، فاذا كانت الغلبة للعواطف والشهوات، يبتلى المجتمع بالانانية فتسود المشاكل والازمات في مختلف المجالات، أما تفوق العقل فانه يهب المجتمع كل اسباب الحياة، من إنفاق على الفقراء ومبادرات للمساعدة والاسهام في خدمة الآخرين.

أما كيف يتفوق العقل ويكون في خدمة هذه الصفة الاخلاقية (العطاء)؟ وإلا فان الجميع يدّعون تملّكهم العقل وربما يدعي البعض أن الأكمل والأحسن والأكثر قدحاً و ابداعاً!

هنا يأتي علماء الاخلاق ويوصون بإعطاء المفاهيم الاخلاقية بعداً واسعاً بدلاً من الاكتفاء بالأطر الضيقة لها، والتي ربما لا تعدو ان تكون أشبه بالشعارات التي يتداولها الناس، فهي عبارات يتداولها الجميع مثل؛ الصدق والوفاء والامانة وغيرها مما يثير الارتياح في النفس، بيد أن الابعاد الواسعة التي تمتد اليها هذه المفاهيم تكشف عن خلفيات لها مدخلية في ايجاد مصداقية لكل مفهوم اخلاقي على ارض الواقع، فالصدق –مثلاً- نابع من حالة الاستقامة في النفس، والوفاء نابع من الشجاعة النفسية، أما الكذب – مثلاً- فانه يكشف عن أزمة نفسية لدى صاحبه.

يعطون وهم حفاة!

في زحمة الاسئلة الحائرة التي طرحها المفكرون والمؤرخون الغربيون حول سر نجاح المسلمون الأوائل في نشر الاسلام في الآفاق وتأسيس حضارتهم في فترة قياسية جداً، نسلط الضوء على نقطة واحدة من جملة نقاط ربما توصل اليها اصحاب تلك الاسئلة فيما بعد، وهي؛ ثقافة العطاء للآخرين، ليس فقط من ابناء قومهم وأهل الجزيرة العربية آنذاك، وإنما الى سائر الشعوب والأمم، دون أن يمتلكوا آنذاك شيئاً من القدرات العلمية او المالية، إنما كانوا قد تربوا على العطاء للآخرين بما يضمن لهم العيش الآمن والسعيد.

وها هو ربعي بن عامر، من الذين وفدوا على رستم، قائد الجيوش الفارسية قبل اندلاع الحرب، وهو بملابسه البسيطة سيفه وترسه وفرسه الهزيل، بينما أدخلوه على مجلس القائد المشحون بالمنارق (الوسادات) المذهبة والملونة والسجادات الثمينة وغيرها من مظاهر الترف والبهرجة، فكان يعدو متجهاً صوب القائد وهو يطأ تلك النمارق والسجادات الثمينة برمحه ورجله الحافية، وبعد محاورة بينهما، سأل رستم هذا الصحابي عما جاء بكم؟!

فقال له: ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الاسلام...".

ويذكر المؤرخون أن المسلمين كانوا يدخلون بعض الدور في بلاد فارس فيجدونها مليئة بأواني الذهب والفضة، فلا يعبؤا بها، بينما كانوا يبحثون عن الملح – كما ورد في تاريخ ابن كثير- فوجدوا من الكافور شيئاً كثيراً فأخذوه بظنهم ملحاً!

إن تحقيق الحياة الآمنة والسعيدة من خلال ثقافة العطاء، توصل اليها الغربيون مؤخراً عندما نلاحظ بعض المبادرات من افراد وجماعات لإعانة الفقراء واللاجئين والمشردين، علماً أن هذه المبادرات بعد لم تتحول الى ثقافة عامة هناك، بينما كانت كذلك في فجر الاسلام، لذا كان المجتمع الاسلامي خالٍ من الفقر والتشرّد والحرمان، فالجميع يعيشون بسلام وطمأنينة متعاونين متحابين، بعيداً عن أي نوع من الازمات الاجتماعية او السياسية، وبهذه الثقافة نشروا الاسلام الى الآفاق، ثم تلقت الشعوب في الشرق والغرب مبادئ وقيم الاسلام والتزمت أحكامه عبر هذه الصفة الاخلاقية.

اضف تعليق