هل يحتاج الصدق دليلا يدعمه كي يثبت بأنه ينتمي الى الصدق؟ أم أن الصدق يعبّر عن نفسه من دون الحاجة الى إثبات أو إسناد، ونحن هنا نتحدث عن السلوك اليومي للأفراد، ومن حاصل جمعهم، نشير الى ظاهرة مجتمعية لها علاقة بالصدق في التعامل والسلوك والقول أيضا، فهناك من يحاول أن يعضّد أقواله وربما أفعاله بالقسَم، أي (يحلف) للآخرين كي يصدّقوا ما يقول وما يفعل، وهناك من يذهب الى أبعد من ذلك عندما يستعين بالتسجيل الصوري أو الصوتي لأقواله وأفعاله ويقوم بعرضها على المعنيين لكي يصدقوا أنه كان صادقا في أقواله وأفعاله.
في حكاية أو قصة واقعية أنا شخصيا كنت شاهدا عليها، فقد أصيب أحد الأشخاص بعجز كلوي، واستوجب الأمر إجراء عملية جراحية له (زرع كلية)، فاستعانت عائلة المريض بأقرب الناس إليه، فتبرع أحدهم بالذهاب الى الشمال، حيث يوجد طبيب اختصاص زرع (كلْية)، وهذا الشخص غير موثوق به بسبب شخصيته ومواقفه التي تميل الى الكذب والخداع، وكما يُقال بأن (الغريق يبحث عن قشة كي تنقذه)، وافقوا على تبرّع الشخص غير الموثوق به كي يتوجه الى اربيل، ويتفق مع الطبيب على إجراء العملية المذكورة.
وبعد أن غادر هذا الشخص الى اربيل، اتضحت بعض نوايا الخداع لديه، فهو كان قد اعلن ان يتبرع بالقيام بهذه المهمة، لكنه طالب عائلة المريض بمصاريف السفر، وطالب بسيارة خاصة تقله الى الشمال لاربيل، وتفاوض مع العائلة لدرجة الابتزاز، وحصل على ما يريد من اموال بسبب حاجتهم القصوى الى العملية الجراحية، وعندما وصل الشخص غير الموثوق به الى اربيل، اتصل هاتفيا بعائلة المريض واخبرهم بأنه التقى الطبيب المعني وسوف يجلب الأدلة التي تثبت صحة قيامه بالمهمة على أفضل وجه.
كانت بوادر القلق واضحة على عائلة المريض من خداع الشخص الذي تبرع بالذهاب الى أربيل لإتمام إجراءات العملية الجراحية، أما المريض فكان صامتا وهو يؤمّل نفسه بصدق هذا الشخص، لكن الأصدقاء والأقرباء حذروا العائلة من هذا الشخص المعروف بكذبه، وعندما وصل من أربيل الى بيت المريض جلب دليله معه، فما هو هذا الدليل؟.
الخطوة الأولى من الدليل أنه بدأ يحلف بأغلظ الأيمان بأنه التقى الطبيب المقصود واتفق معه على كل شيء، وكان بين جمله وأخرى يُقسم للعائلة بأنه أنجز كل ما هو مطلوب منه، ولم يكتف بذلك، بل فتح جهازه النقال (الموبايل) وأظهر للعائلة وخاصة المريض وزوجته، فلم فديو يصور فيه جدران المستشفى والمقاعد والأسرّة وأرضية المستشفى وأشخاص مرضى يمشون وممرضون أيضا، في أروقة المستشفى، باختصار انه صور كل شيء ما عدا الطبيب الجراح، وكان بإمكانه ان يختصر كل هذا الفلم بدقيقة واحدة يتفق فيها مع الطبيب على إجراء العملية ويصور ذلك بالفديو، لكنه صوّر جدران المستشفة ونسي ان يصور الأهم.
الصدق يعلن عن نفسه دون تعضيد
من الأفضل أن نتفق على أن الصدق لا يحتاج الى تعضيد، فالصدق مثل البراءة، ومثل القيم البيضاء الطاهرة التي لا يمكن أن يدو منها دنس، كون الصدق ينتمي الى النقاء والبياض والطهر، أما أن نتحدث مع الآخرين عن انجازاتنا، ونقسم لهم عن صحتها كي نثبت صدق ما نقول، فهذا الاسلوب لا يمكن أن يحوّل الكذب الى صدق، مع أن هذه الظاهرة منتشرة بين العراقيين للأسف، فقلما يدور حديث بين اثنين إلا وكان القسم متبادَلا بينهم وكأنهم غير قادرين على تخليص كلامهم وحوارهم من أغلظ الأيمان.
ما هي أسباب هذه الظاهرة، وقبل ذلك ما مدى تأثيرها على المجتمع؟، أن تأثير الظواهر المسيئة على المجتمع كبير جدا، وبالنسبة لهذه الظاهرة التي نتطرق لها في موضوعنا هذا، فإنها تعمّق فقدان الثقة بين الأفراد بعضهم مع بعض، كما تزيد مشكلات المجتمع، وتجعل من الشخصية المجتمعية برمتها مهزوزة ومتذبذبة، وغير قادرة على التأثير بالآخرين، كما أنها سوف تكون ضعيفة أمام مواجهة المصاعب وقاصرة عن إيجاد الحلول لأبسط المشكلات.
وما يزيد الطين بلّة، عندما تنتقل هذه الظاهرة الى شريحة الشباب الواسعة، فالمعروف أن فئة الشباب هي الأكبر في المجتمع العراقي من بين الفئات الأخرى، وهذا يعني أن أية ظاهرة شائنة تنتقل الى الشباب، تعني انها سوف تنتقل الى اكبر فئة وأعلى نسبة من تكوين المجتمع، تُرى هل اعتاد الشباب على القسم كي يثبتوا للآخرين بأنهم صادقون في أقوالهم وأفعالهم؟.
نعم هذه الظاهرة الرديئة متفشية بين أوساط الشباب، وحتما أنها انتقلت الى المراهقين، بل هنالك الأطفال يقسمون أحيانا لآبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم كي يثبتوا أنهم صادقون، أليست هذه مشكلة؟، ثم ألا يعني ذلك أن الجميع يسهمون بنشر ظاهرة تقف بالضد من الأخلاق القويمة، كيف يمكن أن نصنع شخصية واثقة لدى الأطفال والمراهقين والشباب أيضا، ثم لماذا يضطر كل هؤلاء لإبداء القسم في أحاديثهم او لإثبات أفعالهم وما مطلوب منهم؟.
ترى من الذي يتسبب في ظهور مثل هذه القيم والظواهر الرديئة في المجتمع، أليس العائلة هي عنصر مهم في ذلك، ثم ألا يشترك كبار السن في صنع هذه المعضلة، وأين دور المنظمات والمؤسسات والشخصيات المعنية في بناء شخصية الطفل والمراهق والشاب بعيد عن القسم في غير محله، كذلك أين دور المدارس والأهل ودعاة الأخلاق؟.
هل ثمة أمل لدرء الخطر؟
عندما نقول أن ظاهرة إثبات الصدق بالقسم متفشي بين الأطفال والمراهقين والشباب والمجتمع عموما، فهذا يعني أننا إزاء معضلة خطيرة فعلا، إنها تدمر ثقة الإنسان بنفسه وبالآخرين، فهل هناك سبيل للخلاص منها وكيف؟.
أولا علينا أن نعترف بأن هذه الظاهر تمثل مشكلة كبيرة فعلا، فهذا الاعتراف يفتح أمامنا السبيل الصحيح نحو المعالجة الصحيحة، وبعد ذلك علينا ان نبحث في الظاهرة، وأعني المتخصصين بدراستها، كي يتسنى لهم وضع الخطوات التطبيقية للمعالجة والتصحيح، كذلك ينبغي أن يشترك كل من يعنيه الأمر في سبل المعالجة.
وطالما أن المجتمع كله مهدد بهذه الظاهرة، فهذا يعني أن مسؤولية المقارعة تقع على الجميع ايضا، ولكن حجم هذه المسؤولية يختلف من طرف الى آخر، فمن هم على علم وتخصص في مكافحة ظاهرة إرفاق القسم بالصدق، وهم علماء الاجتماع والخبراء بعلم النفس والخطباء والمفكرون وحتى الأدباء، كل هؤلاء تقع عليهم مسؤولية مضاعفة في مجال مكافحة هذه الظاهرة وبيان الأضرار التي يمكن أن تلحقها بالأفراد والمجتمع معا.
الإعلاميون يقع عليهم جانب من مسؤولية المعالجة، والمؤسسات التعليمية أيضا، ورجال الدين، والدعاة الايجابيون، كل هؤلاء لابد أن يتم التنسيق بينهم، لوضع خطط مدروسة تأخذ على عاتقها التصدي لهذه الظاهرة، وتخليص الشباب والمراهقين والأطفال منها، ولا شك أن كبار السن والتجربة يقع عليهم الوزر الأكبر من المعالجة لسبب بسيط، أنهم هم السبب الأول في انتشار هذه الظاهرة بين الأدنى عمرا منهم، فمثل هذه الظواهر تورث وتكتسب من الأكبر الى الأصغر.
أما دور الإعلاميين فإنه يدخل في إطار القيام بحملات توعية تؤشر للمخاطر التي يمكن ان تنجم عن هذه الظاهرة وتدميرها لعنصر الثقة في التعامل المتبادل بين شرائح المجتمع، فضلا عن الأضرار التي تلحقها بمتانة الشخصية، إذا هي مهمة جماعية، يشترك فيها الجميع للخلاص من وباء ضعف الثقة او غيابها بين افرد المجتمع وشرائحه كافة.
اضف تعليق