في كل مجال من مجالات الحياة، يمكن أن يحدث الخطأ، ولا مشكلة في ذلك، ولا ضير، فمن لا يخطئ في عمله، لا يمكن أن يتعلم انجاز العمل، وفق معايير الجدوى والإتقان والسرعة الممكنة، على المستوى الشخصي وهنا أسوق تجربة عشتها بنفسي كي أكون أكثر تفاعلا وصدقا، ففي مقتبل العمر دخلتُ في أحد المؤسسات المهنية للتدريب، وأول شيء تعلمته هو أن لا أخفي الخطأ الذي أقع فيه أثناء العمل، لأنه سيؤدي الى سلسلة من الأخطاء التي ستفضي بدورها الى خسائر فادحة من الصعب أن أتلافى مضاعفتها في حالة الاخفاء، وسوف تظهر رائحة الفضيحة عاجلا وعندها لا ينفع التهرّب ولا النكران.
لهذا السبب أول شيء رسخوه في عقولنا وعلّمونا إياه، هو حتمية الاعتراف الفوري بالخطأ والتصريح به الى الجهة المسؤولة عنه، من أجل الإسراع بمعالجة فورية، وقطع الطريق أمام سلسلة الأخطاء التي ستنتج عنه لاحقا، ما يجعل من المعالجة بعد إخفاء الخطأ صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة.
ومن الأمور التي ينبغي القبول والإقرار بها، أننا ينبغي أن لا نخجل من الخطأ، وعلينا أن نؤمن بأن العيب في إنكاره أو التهرب منه وإلقاء تبعاته على الغير، وهذا الأمر – الاعتراف بالخطأ- لا ينحصر في مجال العمل فقط، فالحياة مختبر لأفكارنا وأعمالنا معا، والوقوع في الخطأ الفكري أو العملي وارد جدا، ولا يشكل عيبا لمن يقع فيه، لكن العيب يكمن في الإصرار على الخطأ والدفاع عنه أو إخفاؤه، والتغاضي عنه في أفضل الأحوال، لهذا يُعدّ (الاعتراف بالخطأ فضيلة)، وقمة الشجاعة أن يعترف الإنسان بخطئه وأن يعلن ذلك على رؤسائه بلا خوف او تردد بل يعلن ذلك بكامل ثقته بنفسه، وهذا سوف يعزز مكانته بين رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء.
كما أن الإقدام على الاعتراف بالخطأ، يدل على شجاعة الإنسان وقدرته على المواجهة والتصحيح أيضا، على العكس ممن يصر على أخطائه، ويدافع عنها على أنها صواب، أو أنه يخفيها عن الآخرين، مع علمه في قرارة نفسه بأنها ليست صحيحة، فتتضاعف الأخطاء لتصبح عقبة كبيرة إزاء التطور والتقدم والاستقرار ولن تنحصر في مجال الخطأ الشخصي، بل ستكون هناك تداعيات ذات تأثير جمعي، وقد ينتشر مثل هذا السلوك ليتحول الى تصرّف مقبول او عادي، في حين انه نوع من الكذب والخداع والتحايل، وهذه قيم سلبية تؤذي المنظومة التربوية والأخلاقية للمجتمع.
إفراز الحاضنة المنحرفة
وعندما تنتشر حالة التهرب من الخطأ في الحاضنة الاجتماعية وتصبح ظاهرة مقبولة، فإنها سوف تنعكس على طبقات وشرائح أخرى ربما يكون منها النخبوي، فمثلا بعض السياسيين، يحاولون تبرير الأخطاء في الغالب، ويدل هذا الأمر بوضوح على التمسك بالخطأ، واعتبار الاعتراف به هزيمة، وهذه الطبيعة السلوكية تنم عن فكر قاصر، يتطابق كليا مع الفردية المتسلطة، بكلمة أوضح أن مبدأ التمسك بالخطأ هو نتاج حتمي، للمنهج الدكتاتوري، وهو نوع من ثقافة السلوك الفردية المتغطرسة والمتعالية والمخادعة أيضا، وهي في جميع الأحوال لا تصب في صالح الفرد ولا المجتمع.
أما القول بظهور نخب مستقيمة من حاضنة منحرفة، فهذا أمر مناقض للعلم ولما يفرزه الواقع من نتائج، لذلك تتحدد أفضليات النظام السياسي، بقدرته على إشاعة منهج الاعتراف بالخطأ، وعدم التملص منه بشتى الأساليب، فلا يصح للسياسي او غيره ممن ينتمون الى النخب القائدة للمجتمع، أن يدافع عن الخطأ الذي يقع فيه، في حين نلاحظ أحيانا أن بعض السياسيين والنخبويين الآخرين لا يكتفي بالدفاع عن أخطائه، بل يبادر للدفاع عن أخطاء غيره، إستنادا الى مبدأ الاتفاق الثنائي المتبادَل في المنفعة والمصلحة، وهي منفعة مكشوفة للملأ فضلا عن أنها زائلة.
هناك من يتصيد في الماء العكر دائما، وهؤلاء لا يختلف لديهم الصحيح عن الخطأ، وهم قد يضعون الخطأ في محل الصحيح لأن المهم لديهم مصالحهم أولا، ولا فرق لديهم بين الخطأ والصحيح كما ذكرنا، وقد تابع العراقيون ما يحدث بصدد ملفات الفساد، ولاحظوا كيف يتعاون المعنيون في تبرير أخطائهم وأخطاء المتعاونين معهم، او محاولات التملص منها، او تسويفها، بل يذهب البعض الى الدفاع عن مرتكبيها، من خلال التصريحات التي تبرئة هذا الطرف او ذاك، لنصل في الحصيلة، الى عدم الاعتراف بالخطأ، والتمسك به، ومحاربة الأفراد او الجهات التي تحاول أن تكشف الفساد ومن يقف وراء، لتتضاعف المخاطر وتصبح في أعلى درجات الخطورة التي تغلغلت في مفاصل الدولة مؤسساتها.
تغليب المصلحة الجمعية
ولا شك أننا لاحظنا مثل هذه المواقف والأحداث، فهذا السلوك الخطير، ليس وليد الراهن، لأن جذوره موجودة مسبقا في المجتمع، وهو حاصل منظومة سلوك فردية متسلطة متوارَثة، لكن استمراره وتزايده لا يتسق مع طبيعة المرحلة الراهنة التي ترفع يافطة التحرر شعارا أساسيا ومبدئيا لها، لذا كان الأجدر بالمعنيين وهم السياسيين أولا، أن يحدّوا من استشراء ظاهرة التمسك بالخطأ والدفاع المتبادل بين المخطئين، وأن لا يغالوا بالدفاع عن المخطئين وأخطائهم، ومن الأفضل للجميع الاعتراف بالخطأ باعتباره فضيلة.
كذلك من المستحسن أن يتعاون الجميع على تغليب مصلحة الدولة والمجتمع، وأن لا تعلو مصلحة الفرد او الحزب او الجهة السياسية على مصلحة الشعب والوطن في كل الاحوال، علما أن الوقوف الى جانب مرتكبي الأخطاء لن تجدي نفعا، لأنها ستنكشف عاجلا أم آجلا، وفي ظل النظام الديمقراطي التحرري، لن تضيع الحقوق، مهما تقادم الزمن، وعلينا جميع أن نرسخ القيم التي تضع نفسها في خدمة التقدم والتطور.
وفي خلاصة الأمر علينا أن نعترف بأنه ليس هناك خطأ أكبر من عدم الاعتراف بالخطأ، وانطلاقا من ذلك، علينا أن نطور القيم الداعمة للتقدم وليس العكس، لذلك ينتظر العراقيون من النخب كافة، أن يعملوا معا للقضاء على ظاهرة التمسك بالخطأ والدفاع عن الفاسدين والمفسدين، فإخفاء الأخطاء لا يخدم أحدا، واذا تمكن الفرد الخاطئ من إخفاء خطئه اليوم سوف ينكشف غدا، ولكن بعد أن يلحق الأذى بالجميع.
لهذا نحتاج الى تكاتف جمعي، يغني القيم الجيدة، في مجالات الحياة كافة، وعلينا أن نبدأ بالأسرة والبيت والتربية منذ الولادة، علينا أن نرسخ عدم الخوف من الخطأ لدى الأطفال صعودا الى المراهقين فالشباب صعودا الى الفئات العمرية الأخرى، وفي هذه الحالة سوف يتعلم الجميع أن ارتكاب الخطأ ليس مشكلة مهما كان حجمه وتداعياته، ولكن الخطأ الأكبر هو عدم الاعتراف بهذا الخطأ، فعلينا جميعا إشاعة الاعتراف بالخطأ واعتباره فضيلة، قولا وفعلا.
اضف تعليق