التصادم يعني نشوء نوع من الصراع، بدرجة أو مستوى يتدرَّج صعودا، بين قوتين مختلفتين او أكثر، وقد يبدأ هذا الصراع بمشكلة لا تثير الاهتمام، أي بشرارة صغيرة، تتحول - في حالة إهمالها وعدم الاهتمام لها وغض الطرف عن معالجتها- الى (حرائق كبيرة)، تأكل الأخضر واليابس كما يُقال، لاسيما إذا أهملت الأطراف المتصادمة اسباب الصراع، وأهملت السبل القادرة على إطفاء المسببات، بينما يحدث العكس تماما عندما يتم احتواء هذا الصراع، قبل أن يستفحل ويدخل في حيّز التصادم، فتغدو معالجته أصعب بكثير، ويغدو احتواؤه أصعب أيضا، ويستمر في التطور ليصل الى درجة إعلان الحرب.
أخلاقيات الاحتواء في الجانب الربحي منهاـ تسعى أولا الى تحييد الصراع وليس إلغاءه، فالصراع موجود في التركيبة النفسية للبشر، ولا يمكن إلغاءها، بل لا يصح إلغاء الصراع بصورة كلية، لأنه الدافع نحو المنافسة بين الناس في مجالات الحياة كافة، ولكن ينبغي على الانسان الفرد والجماعة، السيطرة على الصراع باحتوائه، استنادا الى قيمة الاحتواء التي ستعود بربحية عالية لجميع الاطراف، فالحرب كما يقول المفكرون العارفون بها، ليس فيها منتصر، وقد يصبح (المنتصر اليوم هو نفسه المهزوم غدا)، فالدوائر تدور، والدنيا دولاب كما يقول المثل الشعبي المعروف، واذا كان الانسان اليوم في الأعلى، فإن الدولاب سوف يدور وسوف يجد الانسان الفرد والجماعة (دولة، طائفة، قبيلة....الخ)، مكانه في الاسفل، وهذا ينطبق تماما على الحروب وما ينتج عنها، فأين أصبحت الإمبراطوريات العظمى التي امتلكت العالم؟ ألم تندثر في دهاليز التاريخ وتصبح ذكرى لا اكثر، بل وبعضها حتى التاريخ يتنكر لها، ويأنف عن ذكرها، لذا ليس هنا أسلم من سياسة الاحتواء.
علما أن التجارب عبر التاريخ، البعيد منه والمنظور على حدٍ سواء، يؤكد لنا أن سياسة احتواء الصراعات، هي الطريقة الوحيدة التي جنَّبت دولا وشعوبا وأمما، ويلات وضحايا وخسائر فادحة، وفتحت أمامها أبواب التطور والاستقرار والإبداع واسعة، مع أنها لم ترفض وجود الصراع، ولم تقف بالضد منه، ولم تحاول إلغاءه، إنما كل ما حاولت القيام به وفق خطوات اجرائية علمية، انها تمسكت بسياسة الاحتواء والابتعاد عن التصادم بصورة كلية، وآمنت بها طريقا لتحقيق الربحية التامة من خلال من الصراعات والحروب من تحقيق مآربها في القتل والتدمير، وقد استخدمت (الدول العاقلة) في سبيل تحقيق هذا الهدف كل ما تمتلك من قدرات ووسائل تفاوضية فكرية اخلاقية، حاولت من خلالها ترويض الآخر، وجعله يستجيب لحالة القبول بالحلول المناسبة التي تبعد شبح الصراعات والحروب ونيرانها بعيدا عنها، لأن الخسائر في حالة انتصار الصراع على سياسة الاحتواء، ستكون كبيرة وربما تنهي حياة أمم وليس افراد او مجموعات صغيرة فقط، ولنا في التاريخ عبرة ودليلا واضحا، وما اندثار بعض الامم وحضاراتها إلا شاهدا وخير دليل على هذا الجانب.
من هنا لابد لمن يهمه الامر من قادة النخب، لاسيما أهل السياسة والعاملون بها، أن يحققوا الربحية الممكنة في هذا المجال، والتي يمكن تحصيلها من خلال الايمان التام بقيمة الاحتواء، وقدرة هذا الاسلوب العملي من ترويض الصراعات والازمات، بدلا من خوض التصادم معها، وهو امر لا يجدي نفعا، ولا يُستثنى الافراد من هذه القيمة، فسياسة الاحتواء تقرب من الاعتدال ولكن هناك ذكاء ومعرفة وعقل سليم يعتمد هذه السياسة، وصولا الى معايشة الصراع من دون تلقّي أضراره ومصائبه، فنجد افرادا من هذا النوع، لا يقربون المشاجرات او المشادات، ولا يبتعدون عن النافس مع الاخرين من اجل تحقيق تطلعاتهم كبيرة كانت او ادنى، ولكن كل هذا يتم وفق سياسة (الاحتواء بدلا من التصادم)، فيكون الانسان في هذه الحالة بمعزل عن التصادم المباشر، وبعيدا عن الخسائر المادية والبشرية، وفي الوقت نفسه قريبا مما يرغب ويهدف الى تحقيقه من اهداف، ولكن وفق أخلاقيات الربحية الناتجة عن سياسة الاحتواء، ونبذ التصادم بصورة كليّة.
هناك من يصرّ في مغالاته حول العمل على انهاء الصراعات بين الافراد وبعضهم، وبين الجماعات وبعضها، وهذه سياسة فاشلة في حقيقة الامر، لسبب بسيط انها تعمل بالضد من الطبيعة البشرية، وفي الوقت نفسه هناك افراد وجماعات تندفع للصراع من دون تفكير، فكانت النتائج عبر التاريخ البشري، حروبا كبرى بين الامم والشعوب، وحروبا عالمية (أولى وثانية)، وبعض الخبراء والمتابعين المعنيين يرى أن حربا عالمية ثالثة على الابواب، وهذا يعني أن الانسان لم يستفد من الدروس الماضية في هذا المجال، ولم يفكر باللجوء القاطع لسياسة الاحتواء بدلا من التصادم، وكأنه لم يشتعل بنيران الصراعات الكبرى السابقة، التي ازهقت ارواح الملايين وأحرقت ودمرت أمما وشعوبا برمّتها، لذا ليس اما الانسانية من طريق يجنبها الدمار والموت القادم، سوى (أخلاقيات الربح)، التي يمكن اعتمادها في درء مخاطر الحروب والصراعات، من خلال سياسة احتواء الصراعات وليس إلغاؤها.
اضف تعليق