ما يُثيرُ الغرابةَ حقّاً هو أَنَّنا نحرَصُ على تحديثِ وتجديدِ كُلِّ شيءٍ في حياتِنا؛ المنزلُ والسيَّارةُ وجهازُ الهاتفِ وملابِسنا وأَجهزةِ المنزلِ، حتَّى قصَّاتُ الشَّعرِ نسعى لتحديثِها لتتناسبَ معَ آخرِ الموديلاتِ العالميَّةِ! إِلَّا العلمِ والمعرفةِ والثَّقافةِ، لا نكترِثُ كثيراً في تحديثِها وتجديدِها وتطويرِها لتنسجِمَ كذلكَ معَ...
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}.
هذه الآيةُ الكريمةُ تتحدَّثُ عن واحدةٍ من أَخطرِ الظَّواهرِ التي تواجه حالاتِ التَّطوُّرِ المعرفي والفكري والثَّقافي في المُجتمعِ، وهي؛ تصدِّي المُستكبِرونَ لأَيَّةِ مُحاولةٍ من طرفِ المُجدِّدينَ والمتنوِّرينَ لتحديثِ العلمِ والفكرِ والثَّقافةِ سواءً بالقراءاتِ الجديدةِ للتُّراثِ او بالإِستنتاجاتِ والتَّفسيراتِ الحديثةِ أَو بالنَّظرةِ والرُّؤيةِ التي تُنتِجُ أَجوبةً جديدةً على أَسئلةٍ جديدةٍ والتي يُثيرُها النَّشء الجديد الذي يعيشُ {زماناً غيرِ زمانِكُم} كما يصفهُم أَميرُ المُؤمنينَ (ع).
والمُستكبِرونَ هنا بمعنى الشَّريحة في المُجتمعِ التي تبذل كُلَّ جُهدها للحَيلولةِ دونَ تجديدِ الفكرِ فهم لا يرَونَ مصالحهُم إِلَّا في استمرارِ المُجتمعِ على ما هوَ عليهِ مُنقسِمٌ إِلى قِسمَينِ؛ الأَوَّل مشغُولٌ بالماضي يُجادِلُ في أَحداثهِ وكأَنَّهُ هو الذي صنعهُ أَو أَنَّهُ قادِرٌ على تغييرهِ، والثَّاني همُ الذين لا يُعيرونَ للفكرِ والثَّقافةِ وزناً وهم الجاهِلون والأُمِّيُّونَ فكريّاً وثقافيّاً المُشبعُونَ بثقافةِ الأَحلامِ والخُرافاتِ.
وعبارةُ {بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ} الواردة في الآيةِ الكريمةِ هيَ [ضدَّ التَّحديثِ والتَّجديدِ] الذي لا يرغب بهِ المرءُ عادةً إِلَّا بشقِّ الأَنفُسِ لما يترتَّب عليهِ من إِصلاحٍ وتغييرٍ يتطلَّب الكثيرِ من الجُهدِ لمُغادرةِ ماضٍ بائسٍ تعوَّدت عليهِ النَّفسُ وتوطَّنَ عليهِ العقلُ عادةً لمُستقبلٍ أَفضل.
إِنَّ ما يُثيرُ الغرابةَ حقّاً هو أَنَّنا نحرَصُ على تحديثِ وتجديدِ كُلِّ شيءٍ في حياتِنا؛ المنزلُ والسيَّارةُ وجهازُ الهاتفِ وملابِسنا وأَجهزةِ المنزلِ، حتَّى قصَّاتُ الشَّعرِ نسعى لتحديثِها لتتناسبَ معَ آخرِ الموديلاتِ العالميَّةِ! إِلَّا العلمِ والمعرفةِ والثَّقافةِ، لا نكترِثُ كثيراً في تحديثِها وتجديدِها وتطويرِها لتنسجِمَ كذلكَ معَ حاجاتِ العصرِ وتحدِّياتهِ.
وللعلمِ فإِنَّ التَّقصيرَ أَو القُصُورَ في هذا الأَمرِ هوَ السَّببِ الأَوَّلِ ورُبَّما الأَخير وراءَ تقدُّمِ الغربِ وتأَخُّرِ الشَّرقِ، فالغربُ يُحدِّثُ معارِفهُ في كُلِّ لحظةٍ وعلى مُستوى نَوعَي العِلمِ كما يصفهُما رسُولُ الله (ص) {العِلمُ عِلمان؛ عِلمُ الأَديانِ وعِلمُ الأَبدانِ} ولذلكَ فهُو يُنتِجُ الأَفكار [خاصَّةً على مُستوى العُلومِ الإِنسانيَّةِ] أَمَّا الشَّرقُ فلا يبذُلُ جُهداً لتحديثِها ولذلكَ فهوَ يستهلِكُ الأَفكار، والمُستهلِكُ، كما هوَ واضحٌ ومعلومٌ، يكونُ تحتَ رحمةِ المُنتجِ دائماً.
أَلا ترَونَ كيفَ تغزو كُتُبهُم أَسواقنا بعد ترجمتِها، في الوقتِ الذي لا تجِد لـ [كُتُبِنا] رائحةً في أَسواقهِم؟!.
تعالُوا نقرأ سويَّةً قُصَّة تاريخ الطِّباعة في العالمَينِ الغربي والشَّرقي، تقُولُ المعلومةُ [ويمكِنُ أَن يُمثِّلَ المَوقف من المطبعةِ والكِتابِ المطبُوع دليلاً على اتِّساعِ الهُوَّة بينَ أُوروبا والدَّولةِ العُثمانيَّةِ، بل والعالَم الإِسلامي، وهوَ الذي كانَ قبلَ قرُونٍ خلَت يمثِّلُ أَحد أَبرز المراكزِ العلميَّةِ في العالَم.
فبينما بدأَت الطِّباعة في أُوروبا في مُنتصفِ القرنِ الخامِس عشَر، لم تسمح الدَّولة العُثمانيَّة إِلَّا لأَفرادٍ محدُودينَ من أَقليَّاتٍ دينيَّةٍ، بإِنشاءِ عددٍ محدُودٍ من المطابعِ بينما استمرَّت عمليَّة نسخِ الكُتُب بالطَّريقةِ اليدويَّةِ.
وفي عام [١٧٢٩] أَي بعدَ [٢٨٠] عاماً من بدءِ طباعةِ الكُتُبِ في أَوروبا، تمَّ إِنشاء أَوَّل دار طِباعةٍ تعُودُ مُلكيَّتها لمُسلمينَ، لتستمِرَّ لنحوِ [١٤] عاماً قبلَ أَن تتوقَّفَ عنِ العمَلِ، لتعُودَ بعدَ ذلكَ بعشَراتِ السَّنواتِ معَ رفعِ القُيُودِ عن حركةِ الطِّباعةِ].
وقد نُقِلَ عنِ [السُّلطانِ] قولهُ [إِنَّ أَشدَّ ما أَكرهُ هو رائحةُ الحبرِ]!.
كانَ ذلكَ قبلَ قرُونٍ! فإِذا تساءَلنا؛ ما هو حجم الميزانيَّاتِ التي ترصدها دُولنا لشؤُونِ البحثِ والتَّحقيقِ ليسَ للتَّاريخِ والماضي وللمخطُوطاتِ، وإِنَّما للمُستقبلِ؟!.
نترُكُ الجوابَ للمُطَّلعينَ على خفايا المُوازناتِ السنويَّةِ الرَّهيبةِ!.
وفي دراسةٍ علميَّةٍ اعتمدَت المسحِ المَيداني نُشِرَت مُؤَخَّراً عن سببِ عزُوفِ النَّشء الجديدِ عن الدِّين، تورِدُ نتائجِ الدِّراسةِ [١٨] سببٍ لعلَّ من أَهمِّها هو بحثهُ عن تفسيراتٍ جديدةٍ للدِّينِ وعن أَجوبةٍ عقلانيَّةٍ أَكثرُ منطقيَّةً لظواهِرَ علميَّةٍ واجتماعيَّةٍ جديدةٍ تنشأُ بسببِ تطوُّرِ الحياةِ وما يُرافقها من مُتغيِّراتٍ، إِلى جانبِ حالاتِ التَّضييقِ على طرحِ الأَسئلةِ الجريئةِ التي يُتَّهَمُ صاحبها بالكُفرِ والزَّندقةِ، رُبَّما، إِذا لم تكُن في الإِطارِ المعقُولِ وخارجِ المألوفِ أَو في دائرةِ المسكُوتُ عنهُ!.
فضلاً عن التَّجاربِ السَّلبيَّةِ التي يُواجهُها النَّشء الجديدِ في داخلِ [المُؤَسَّسةِ الدينيَّةِ] والتي تضعهُم على مُفترقِ طُرُقٍ، أُمُور مثل المُعاملةِ غَير العادلةِ وسوء المُعاملةِ لأَسبابٍ عدَّةٍ كالتَّمييزِ العُنصري وخيانةِ الأَمانةِ والفسادِ المُتمثِّلِ بالطَّبقيَّةِ الإِجتماعيَّةِ والصِّراعِ على السُّلطةِ والفضائحِ وغيرِها!.
وعلى مُستوى هذا السَّببِ تحديداً عالجَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) هذهِ الظَّواهرِ السلبيَّةِ المُدمِّرةِ بقَولهِ {مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه ولْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه ومُعَلِّمُ نَفْسِه ومُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِمْ}.
مُشكِلةُ [المُؤسَّسة الدينيَّة] أَنَّها تُريدُ أَن تُغيِّر المُجتمعِ مِن دونِ نُموذجٍ تُقدِّمهُ ليُحتذى!.
اضف تعليق