التنافس الشريف والتطلع الى اهداف سامية، بل والتخطيط والبرمجة في هذا الطريق، كلها تمثل حركة الى الامام، فيما تمثل القناعة؛ العقل المنظم لهذه الحركة، يوجهها لما يفيد صاحبها، وتلجم جموح النفس من الانفلات نحو مسارات خاطئة ونتائج كارثية بدعوى الشطارة والذكاء والحصول على الأكثر...
"العبدُ حُرٌ ما قَنَع الحُرُ عبدٌ ما طَمَع"
أمير المؤمنين، عليه السلام
يبدو للوهلة الاولى ثمة تناقضاً او تقاطعاً بين ان يكون الانسان قنوعاً مكتفياً بما لديه، و ان يكون طموحاً متطلعاً للحصول على المزيد، حتى يكاد القنوع يتعرض للاتهام بالكسل والتراخي وعدم الإقدام والشطارة!
اذا كان الامر كذلك لما جاءت القناعة مع التنافس والمسارعة في العمل ضمن حزمة مفاهيم ايجابية وردت في القرآن الكريم، وترجمها الى واقع عملي؛ الرسول الاكرم، والأئمة من بعده.
التنافس الشريف والتطلع الى اهداف سامية، بل والتخطيط والبرمجة في هذا الطريق، كلها تمثل حركة الى الامام، فيما تمثل القناعة؛ العقل المنظم لهذه الحركة، يوجهها لما يفيد صاحبها، وتلجم جموح النفس من الانفلات نحو مسارات خاطئة ونتائج كارثية بدعوى الشطارة والذكاء والحصول على الأكثر.
لماذا لا يجب أن أكون طماعاً؟!
كل انسان مجبول على حب الاستزادة في التملّك والحصول على ما يحب، ليس المال فقط؛ بل وحتى فرصة العمل، او الزوجة، او العقار، والسيارة ومختلف مستلزمات الحياة، وحتى الكماليات غير الضرورية الداخلة بقوة في حياة الناس اليوم.
وهذا ما تكنّه النفس من رغبات يسعى صاحبها لتحقيقها، بيد أنه مطالب في الوقت نفسه الالتفات الى اسحتقاقات دونها التلبّس بصفة الطمع على حين غرّة، وإلا فان في ثقافتنا وصف للسعادة بأن تكون للإنسان "المسكن الواسع، والمرأة الصالحة، والجار الصالح، والمركب البهيّ"، كما في الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، بمعنى مشروعية السعي لامتلاك أوسع مساحة ممكنة من الدار، وكذا الحال بالنسبة للدابة التي فسّرها العلماء بالوسيلة القابلة للتحديث والتطوير على مر الزمن؛ كل هذا عندما يتوفر أمرين –من جملة أمور- حتى نتحاشى الطمع:
الأمر الأول: الحاجة.
إن افتقاد الانسان لأشياء ضرورية في حياته يُعد حافزاً له للسعي للحصول عليه، ويكون مطلبه مشروعاً للمسكن الكريم، وللمورد المالي الكافي للحاجات اليومية لنفسه ولأسرته، وحتى وسيلة النقل وحاجات ضرورية اخرى.
بيد أن الامر يختلف تماماً عندما يفقد الشعور بوجود حاجات ومستلزمات عديدة في حياته، مع شعور عارم وقاتل بالحاجة والضِعة أمام الآخرين ممن يتصور أنهم متفوقون في حياتهم، ولديهم الكثير ويحصلون على الكثير باستمرار، وهم أفضل حالاً منه.
هذه الحالة النفسية تنعكس سريعاً على الواقع الخارجي، لاسيما على محيط الأسرة، وعلى الحياة الزوجية، فكم من أسرة تملك بيتاً جيداً، وفي منطقة جيدة، مع مستلزمات لابأس بها وفق الحياة اليومية الراهنة، مع وارد مالي يسد الحاجات الاساسية، وربما بعض الكماليات ايضاً، ولكن! نلاحظ غيوم الكآبة والنكد والحروب الكلامية تخيم على هذه البيوت لسبب واحد؛ الطمع، وعدم القناعة بالموجود.
الأمر الثاني: القدرة
هل لديّ القدرة المالية على أن تكون لي "المسكن الواسع والمركب البهيّ"؟
من المؤكد؛ المقصود في حديث النبي الأكرم، من يتمكن من ذلك مالياً، وإلا فان ذوي الدخل المحدود ممن كان يراهم رسول الله، وكيف كانوا يعيشون في تلك الفترة، لم يكونوا مجبرين لتطبيق بمختلف الطرق والوسائل، بقدر ما هو شعار للتحفيز على تحسين الحال، والطموح الى الأفضل بما أوتي الانسان من قدرات وامكانات ذهنية وعضلية.
وفي هذا السياق لا ننسى أن الخيط الرفيع بين الطمع والقناعة متصل بمفهوم الرزق الإلهي، والايمان بالحكمة البالغة بتقسيم الأرزاق بين الناس مع إتاحة الفرصة أمام الجميع للسعي والعمل للإثراء المشروع، وقد بحث العلماء في أمر الفقر والغنى، مؤكدين عدم صحة القبول بحالة الفقر، بل دعوة للسعي للإثراء والغِنى، فهنالك "ثنائي المزيج من الكره الموضوعي والذاتي للمال، ومن الرغبة الشديدة في الوصول الى الغنى والثروة طريقياً لاجل عون العباد وإعمار البلاد وباء المؤسسات الدينية وما أشبه، هو الذي يصنع الانسان المتكامل فإن من يكره الاموال لا يعقل ان يرتشي او يسرق او يغش ويخدع ويرابي لاجل حفنة منها مهما كثرت". (ملامح النظرية الاسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة)
بما يعني أن القفز على الحالة المعيشية الراهنة بدعوى التفوّق والتهرّب من هواجس الفقر والفاقة، ربما يؤدي الى السقوط في أخطر شاهق، وهو؛ عبادة المال ومحاول الحصول عليه بكل الأشكال.
القناعة تعالج الحالات السلبية في النفس
ربما تتحلّى الشطارة ببعض المكاسب الظاهرية من ارباح في السوق، أو الحصول على فرص عمل مرموقة، او التقرّب الى هذا أو ذاك مواقع حكومية او اجتماعية، بيد أن هذه الصورة المحلاة في عيون البعض ربما تخفي مشاعر القلق الدائم من هواجس الفقر والتصاق تهمة الغباء والسذاجة، فهذه المشاعر المستفزّة هي التي تأخذ بزمام صاحبها الى المجهول، وليس بالضرورة الى تحقيق الامنيات والطموحات، لأن الأولوية للناس وتقييمهم النهائي للشخصية، ومن ثمّ لترضية النفس الجامحة للمزيد، وفي الاخير تكون حصة الانسان شيئاً من المنجز الذي ربما لا يهنأ بها كما نسجت له أحلامه وأمنياته بأنها تحقق له السعادة والحبور.
ولمن يراجع الحكم البليغة لأمير المؤمنين، وايضاً؛ لرسول الله، والأئمة المعصومين، عليهم السلام، في أمر القناعة، وكيف أنها تمثل التطلع السعيد الى المستقبل، وتضمن للانسان الحياة التي يرجوها ويأملها، يجد طائفة رائعة من الاحاديث الملامسة للفطرة ولواقع الانسان، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في "غُرر الحكم و دُرر الكلم": "جمال العيش القناعة"، وايضاً: "القناعة عزّ و غناء"، فمن يريد التطلع الى التفوّق علمياً واجتماعياً، والحصول على المزيد من المال، فان القناعة هي طريقه الأسلم والأضمن لتحقيق كل ذلك.
اضف تعليق