أمير المؤمنين، عليه السلام، يكشف لنا أن "لا فاقة مع عفاف"، عكس ما يتصور الكثير ممن يخشون الفاقة والفقر وهم يتحلّون بصفة العفّة، ثم يقدم لنا، عليه السلام، ثمار هذه الصفة العظيمة؛ "العفة تضعف الشهوة"، و "ثمرة العفّة الصيانة"، وآثار عديدة اخرى تعود بالفائدة على صاحبها وتجعله بعيداً عن المكاره والخسائر...
" من عفّ خفّ وزرُه و عَظُم عند الله قدره"
أمير المؤمنين، عليه السلام
كم هي جميلة الحياة الاجتماعية عندما يستشعر الناس فيها بالأمان فيما بينهم من مغبة التطاول والتحايل وكل ما يكدّر صفو العيش المشترك!
ليست هي من التمنيات والأحلام اذا عرفنا أن مدعّمة بمفهوم أخلاقي عظيم يعصم الانسان من ارتكاب الخطأ قولاً وفعلاً، مهما كانت المغريات، فهو ربما يتجاهل ما يردده البعض؛ "فاز باللذات من كان جسوراً"، ولا يفوز بصفقة تجارية مربحة، او ينتزع المنصب المرموق ذو الامتيازات الكبيرة من وسط تنافس محموم وغير شريف، وربما لا تكون تلك المرأة والفتاة التي توزع الابتسامات، وتستسهل المفاكهة وتبادل مختلف الاحاديث لغايات مختلفة في الدراسة والعمل، وحتى في السوق، وإنما يكون التطلع بدلاً من كل هذا الى ما هو أبعد وأضمن للفائدة في الحاضر والمستقبل.
الجميع يدّعي العفّة
وكما هي سائر الصفات الحميدة، محببة الى النفوس، ومتطابقة مع الفطرة، فان الجميع يدّعي لنفسة العفة والترفّع والعصامية، ولا يقبل لنفسه –أو تقبل- الصفة المعاكسة الباعثة على الاشمئزاز مثل؛ الفُحش والتهتك، وإن كانت مصادقيها ماثلة للعيان، فيبتدع البعض تبريرات، او نوعاً من التلبيس لإخفاء حقيقة سلوكه، لتكون أقواله وأفعاله طبيعية، بل ويعدها البعض من استحقاقات المرحلة وتطور الحياة!
فالفتاة التي تخرج من بيتها، وقد أفنى الوالدين عمرهما لتربيتها على أفضل الخصال والصفات الحميدة، لتذهب الى المدرسة ثم الجامعة لكسب العلم، ومن ثمّ، تتوجه الى ميادين العمل المختلفة، فان عليها أن تتخلى عن كل ما تعلمته في البيت، وتنتبه الى المنهج السائد في الخارج، وهو؛ الانفتاح على الاساتذة والطلبة بالمجالسة والمحادثة والمفاكهة، وكذا الحال في أجواء العمل، وإلا عُدّت من المعقّدات، او ممن يقدّسن "التقاليد البالية"، مع قول البعض أن لو كان لهذه التقاليد فضلٌ لوفّر للفتاة والمرأة العمل، وجعلها تلامس الأموال لتكون صاحبة أرصدة مالية خاصة بها، كما فعل الانفتاح اليوم!
وحتى نكون موضوعيين، ولا نستبق بالاحكام، فانه ربما يكون التبرير عفوياً دون مقاصد من نوايا معينة، لان الوضع الاقتصادي القاسي وغير العادل يدفع بالناس لفعل كل شيء لتوفير لقمة العيش وما يحتاجونه من المستلزمات مع ارتفاع الاسعار وغلاء المعيشة بشكل عام، تجعل البعض لا يتحرّج من إطلاق اليد لمزيد من الكسب، ولطالما يسمع الواحد منّا، وفي السوق تحديداً، أن الاخلاق ليس مكانها السوق، وإنما المسجد، طبعاً؛ قد سبق الناس العاديين بهذا القول؛ النخبة السياسية الحاكمة التي تمسك بزمام أمور الناس ومصائرهم.
ولعل هذا يكون تبريراً آخر لإزاحة الفضائل والمحاسن والمكارم من الحياة بحجة التعقيد الحاصل في هذه الحياة، وضرورة استخدام كل الوسائل لمجاراتها، وهذا يعني فيما يعنيه؛ الإصابة بداء النفاق والازدواجية، ففي جانب يكون الادعاء بالأخلاق والفضيلة، وفي الجانب العملي والسلوكي نرى العكس، والنتيجة؛ بدلاً من أن يكون الانسان هو المُدان والمطالب بتغيير سلوكه ومنهجه، يلقي البعض باللائمة على الأخلاق برمتها، بأنها غير ممكنة التحقيق في هذه الحياة المعقدة!
ولو تصفحنا كتب الحديث والروايات عن المعصومين، عليهم السلام، لاكتشفنا الآثار الطيبة للعفّة، كما هي سائر الصفات الحميدة الاخرى، وايضاً؛ الآثار السلبية السريعة على حياة الانسان، كفرد وجماعة، لاسيما ما ورد عن أمير المؤمنين في "غُرر الحكم ودُرر الكلم"، ما يبعث على الارتياح والتفاؤل والثقة.
ومما جاء عنه، عليه السلام: "حُسن العفاف من شيم الأشراف"، و"من عفّت أطرافه حسُنت أوصافه "، و"دليل غيرة الرجل عفته"، كما نقرأ اقتران العفّة بالعقل، وما يدل على دورها في تنظيم حياة الانسان: "يُستدل على عقل الرجل بالتحلّي بالعفة و القناعة"، وهذا يعني اتخاذ موقف حذر من مفهوم "الشطارة" والذكاء، لان العقل أوسع بكثير من النظر في الامور السطحية والجزئية، فالذكاء والشطارة ربما تفيد في زمان ومكان محددين، كأن يكون الذكاء في الدراسة والتعلم، بل والابتكار، ثم ينتهي دوره، ليأخذ العقل دور الموجه نحو الطريق الصحيح للحصول على أ فضل النتائج بأقل الجهود والخسارة.
العفة والطريق الى الغنى
بكل بساطة؛ يحتاج الامر الى قليل من الصبر والتأنّي، فالحياة ليست بالتعقيد والخطورة التي يتوهمها البعض، يكفي مشاهدة اصحاب الدخل المحدود، كيف يعرضون بضاعتهم من الفاكهة والخضار والألبان على صناديق فارغة او طاولات حديدية على قارعة الطريق، فهم يكابدون الحياة ويكسبون رزقهم الحلال بما يسد رمقهم دون ان يجدوا حاجة في فعل ما يناقض "العفّة والسداد" التي أوصانا بها أمير المؤمنين في خطبته المشهورة، حتى وإن ضاقت بهم الامور، فانه يتطلعون الى العواقب قبل التفكير بالكسب السريع وقضاء الحاجة.
والشواهد كثيرة أمامنا عمن حاد عن طريق العفّة في حياته ما الذي اكتسبه؟ ثم ما الذي خسره؟
فمن يطلق العنان لرغباته فيتملكه الشره (عكس الشبع) في كل شيء، ويركّب عقله على الشطارة والمنافسة غير الشريفة، يجد العواقب بعد حين، لأن ببساطة؛ ثمة معادلة وجودية واضحة تكشف عن وجود شطّار آخرين في الساحة، ربما يفوقون في التهتّك والخُرق، ولا يتورعون عن فعل كل شيء بلا حدود، فيخسر ما كان يرجوه، كما يخسر ما كان يدعيه من الأخلاق الفاضلة.
أمير المؤمنين، عليه السلام، يكشف لنا أن "لا فاقة مع عفاف"، عكس ما يتصور الكثير ممن يخشون الفاقة والفقر وهم يتحلّون بصفة العفّة، ثم يقدم لنا، عليه السلام، ثمار هذه الصفة العظيمة؛ "العفة تضعف الشهوة"، و "ثمرة العفّة الصيانة"، وآثار عديدة اخرى تعود بالفائدة على صاحبها وتجعله بعيداً عن المكاره والخسائر.
اضف تعليق