لا تكون المجاملة والكلام الجميل من سنخ الأدب والأخلاق، ومطلوبة أسرياً واجتماعياً إلا حينما تصدر عن قلوب صادقة وأرواح متحابة، وإذا كانت بخلاف لما في القلوب بحيث يظهر الناس المحبة ويكنون العداوة فهي مرتبة من مراتب النفاق الأخلاقي. لذا نحن بحاجة إلى مهارة أدب دقيقة يستطيع المؤمن بواسطتها...
يخلط الناس بين سلوك المداراة والمجاملة، فالمداراة أدب إنساني راقي، أما المجاملة فهو سلوك اجتماعي تنتابه حالات الإفراط والتفريط، فينتقل من سلوك صادق إلى حالة تصنع، يفضي في النهاية إلى نفاق أخلاقي، خاصة إذا كان على حساب عقيدة أو مبدأ أو أضر بحقوق الآخرين.
كون مظاهر الأدب مقدمة على الأخلاق، لذا لم يصف الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وآله بالخلق العظيم إلا بعد التأديب، وهذا ما أشار إليه النبي بقوله: (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
فالمداراة خلاصة الأدب والأخلاق العالية التي يحملها الإنسان، وتمثل حاجزاً يحميه من وقوعه في براثن النفاق الأخلاقي، وتتلخص في قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وتتمثل: بسعة الصدر، والعفو عن الزلات، والإعراض عن تصرف الجاهلين.
وقد حثّ النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله عليه عليها فقال: (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض)، لذلك أوصلت شدة الأدب، وعظمة الأخلاق كثير من العلماء الربانيين إلى بعض مراتب العصمة.
فأظهرت كثير من التعاملات الأسرية والمناسبات الاجتماعية حقيقة المجاملة المفرطة، كأن يظهر شخص تفجعاً مفرطاً عند موت إنسان وهو من القاطعين أو المعادين له، وذلك من أجل استمالة عاطفة الحضور !!، أو يقف شخص إجلالاً لشاب غني، ولا يوقر كهلاً فقيراً !!، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: (من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه)!!.
كما تتخلل شبكات التواصل صوراً وكتابات وألقاباً تبين حالات المجاملة المفرطة والمدح المبالغ لشخصية دينية أو اجتماعية، بسبب الفرط الزائد لمدح المريدين، أو من أجل حصول كاتبها على شهرة ومكتسبات شخصية تهدف إلى استمالة شخص أكثر من سعيها إلى رضا الله عز وجل !!.
فالكثير يعلم أدب وصدق كلام عمر، ومجاملة وكذب زيد لكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك!!، ونستشهد بكلام الإمام الرضا عليه السلام الذي يصف هؤلاء بقوله: (ظاهرهم سليم، وباطنهم مريض، يتظاهرون بالطيبة، ويذرفون الدموع عند كل مصيبة وحزن، ويتملقون لبعضهم البعض، وينتظرون الأجر والإثابة من بعضهم البعض).
لذلك لا تكون المجاملة والكلام الجميل من سنخ الأدب والأخلاق، ومطلوبة أسرياً واجتماعياً إلا حينما تصدر عن قلوب صادقة وأرواح متحابة، وإذا كانت بخلاف لما في القلوب بحيث يظهر الناس المحبة ويكنون العداوة فهي مرتبة من مراتب النفاق الأخلاقي.
لذا نحن بحاجة إلى مهارة أدب دقيقة يستطيع المؤمن بواسطتها الإبحار في برزخ اجتماعي دقيق يفصل عذوبة المدارة المطلوبة عن أتون المجاملة المفرطة، وإلا سقط غريقاً في بحر النفاق الأخلاقي المقيت.
اضف تعليق