إن عملية تقويم السلوك وتأصيل الأخلاق يمثل مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يشمل برعايته جميع افراد المجتمع دون استثناء تساهم فيه وسائل الاعلام بشكل فاعل، وتدعمه القوانين والتشريعات الخاصة، ويرفع لوائه شريحة المثقفين بأقلامهم وخطاباتهم لنشر الوعي الأخلاقي، وتبيين أهمية طهارة اللسان والعين في صنع مجتمع نزيه ومتماسك، تكون لغته العامة...
الشعوب ذات العمق الحضاري ترسم منظومتها الثقافية وفق هذا الرصيد، فتجعل الضوابط للسلوك والعادات والآداب الى جانب القوانين المسنونة من قبل البرلمان، وربما نجد في بلدان مرموقة مثل؛ فرنسا واميركا يتحدث الساسة فيها عن "نمط حياتنا" عندما يشعرون بتزاحم العادات والتقاليد القادمة مع المهاجرين والمقيمين عندهم، رغم أنها تَعِد القانون وسيلة عليا لاقرار النظام في الحياة.
وبين الاعراف والتقاليد، وبين القوانين المستحدثة ثمة حالة مدّ وحزر يكون رجحان احدهما على الآخر حسب قوة وتفاعل الناس، وعمق ايمانهم، وبين هذا وذاك، يبقى كلٌ له احترامه ومكانته، ولا مجال لتجاوز هذا او انتهاك ذاك، كما يحصل في بلداننا ثم نسمع بشكل غريب من يتحدث عن عدم وجود تفسير مشترك للمفاهيم الاخلاقية يلزم الجميع، فربما –حسب قولهم- هنا يُعاب هذا الفعل، وفي مكان آخر مباح.
العلماء يتحدثون عن معيار آخر غير الثقافة المستقاة من العقيدة والدين، وغير القانون، وهو الفطرة الانسانية السليمة التي تميّز لصاحبها الحسن من القبيح، مثال ذلك؛ التعرّي، والتلفّظ بما هو شائن وخادش للحياء في الاماكن العامة، فلا يماري أحد في العالم منذ الأزل على أن التعرّي فعل غير قبيح، وأن على بني البشر ستر البدن بشكل أو بآخر، لاسباب عدّة تبينها الآية الكريمة في سورة الاعراف: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، بينما ظهور السوءة عند بعض الحيوانات أمر طبيعي، وقد ذكر بعض المفسرين أن "الريش" يمثل جانب الزينة في الملابس، كما يمثل "لباس التقوى" الجانب المعنوي المنظم للسلوك والآداب بين بني البشر، بأن يرتدي بني البشر من الملابس ما يضمن لهم تقوى الله –تعالى-.
مع كل هذه الحقائق نلاحظ الإصرار على ترويج التعرّي، ليس اليوم، وإنما منذ اواسط القرن الماضي في حملة ثقافية معد لها سلفاً بقيادة مفكرين اوربيين، حاولوا –وما يزالون- اقناع الناس بان الانسان هو الذي يصنع ذاته وشخصيته و وجوده بشكل عام دون الحاجة الى قيم او أحكام سابقة على وجوده في الحياة، وثمة اسباب اخرى كثيرة تعاضدت لانجاح هذا الترويج لسنا بوارد الخوض فيها، منها؛ ما خلفته الحرب العالمية الثانية من آثار نفسية سيئة على الانسان الاوربي والغربي بشكل عام، فاراد المفكرون في تلك البلاد معالجة الكآبة والعقد النفسية بالاباحية الجنسية.
وفي البلاد الاسلامية ومنها؛ العراق الذي يُعد من ذوي العمق الحضاري، فان التعرّي والاباحية الجنسية لا تنجح بالمستوى الحاصل في بلاد أخرى، نلاحظ رواج عادة دخيلة وهي؛ إطلاق الالفاظ النابية بين افراد المجتمع، وحتى بين افراد الأسرة، بدءاً بالتشبيه بالحيوانات، مثل؛ الكلب او الحمار، مروراً بأوصاف قاسية مثل؛ الغباء، والحقارة، ثم الى درجة الالفاظ الجنسية، وفي خطوة لاحقة نلاحظ في الوقت الحاضر من يعد كل هذه "لغة الشارع"! لتبرير وتسويق برامج تلفزيونية ومشاريع اعلامية مدفوعة الثمن.
ولمن يتذكر في سنى السبعينات –حسب مرحلتي العمرية- كانت نسبة تداول الالفاظ الجنسية، سواء بالشتم او المزاح أكثر بكثير مما عليه اليوم، وهي إشارة واضحة لحالة المدّ والجزر بين الإصالة والحداثة في الاخلاق العامة، و إيمان المجتمع بالقيم الاخلاقية وحرصه على تقويم سلوك افراده باستمرار.
ما هو المعيار؟
من السهل الحديث عن المعيار والضابطة، إنما المهم فيمن يحدد المعيار ومصدره؟
هل هو شخص بعينه؟ كأن يكون زعيم او قائد مُلهم، أو أحكام دينية؟ أم القضية حسب رغبة الناس واتفاقهم عليه؟
وجود المصدر الضابط للاخلاق العامة له فوائده الجمّة على الصالح العام، وكلما كانت أكثر أصالة وعمقاً، كانت أكثر فائدة لحياة الناس، نذكر بعض هذه الفوائد:
1- حافز الالتزام من لدن الغالبية العظمى، فالتجربة تؤكد التزام الناس وتفاعلهم مع مصدر تشريع واحد، لاسيما اذا كان ذو صفة مقدسة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بمعنى أن يكون مسنوداً من المعصوم المتصل بالسماء.
2- حماية المناخ الثقافي من التلوث بالشوائب الواردة من هنا وهناك، لاسيما الاطفال والشباب، عندما يعرفون هم ايضاً حدود الالفاظ وضوابطها، وآداب الملبس والنظر، فلا يسمحون بالخطأ يمر بالقرب منهم، ولا ان يخوضوا هم فيه.
3- غلق الباب بوجه من يتخذ هذه الالفاظ السيئة والافعال المنكرة وسيلة للتسقيط عند الحاجة، مع وجودها لفترات طويلة تجت جنح الظلام، ثم تدفع الى الاضواء في وقت معين، كما تفعل اليوم منصات التواصل الاجتماعي في بلداننا ومنها؛ العراق، فمن يكون هدفاً للتسقيط يحتاج فقط لمجموعة من المقاطع المسجلة في مناسبات مختلفة تتضمن ألفاظ سيئة، او ربما مشاهد مخلّة بالآداب، وهذا ينجح كثيراً مع موظف مرموق في الدولة، او ضابط في الجيش، أما الانسان العادي او الكاسب فلا ينظر اليه أحد، حتى وإن مارس نفس هذه الاخطاء، وحتى أكبر منها، عندئذ يسود الفهم بمقبولية هذه الاخطاء عند عامة الناس وكراهيتها فقط للكبار في المجتمع.
إن عملية تقويم السلوك وتأصيل الأخلاق يمثل مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يشمل برعايته جميع افراد المجتمع دون استثناء تساهم فيه وسائل الاعلام بشكل فاعل، وتدعمه القوانين والتشريعات الخاصة، ويرفع لوائه شريحة المثقفين بأقلامهم وخطاباتهم لنشر الوعي الأخلاقي، وتبيين أهمية طهارة اللسان والعين في صنع مجتمع نزيه ومتماسك، تكون لغته العامة؛ ليس فقط حسن القول والفعل، بل والالتزام بالقيم الأخلاقية المنصوص عليها.
اضف تعليق