صامتًا أغلب الوقت، قلّما يتكلم، ولو تكلم نطق بأسئلةٍ لا تولد إلا في الأذهان اليقظة، ولو تحدّث في توصيف وتحليل مفهوم أو ظاهرة أو حدث أو موقف، يذهب بعيدًا عن المرئي على السطح. أفكارُه لافتة، جَسورٌ في عقله، وعيُه مرآةٌ للواقع، لغته لا يرهقها فائضٌ لفظي وهذرٌ مبتذل...
عدت من عمان الأسبوع الماضي، بعد المشاركة في ملتقى بيت الزبير الفلسفي الثاني، المنعقد في مسقط، بتاريخ 28 – 29 إبريل 2024. الملتقى هذا من أجمل الملتقيات والمؤتمرات والندوات الكثيرة التي شاركت فيها ببلدان متعددة، كان منظموه أذكياء في: إدارته، وتنظيمه، وتنوع الأوراق المقدمة فيه، ومهارة المنظمين باستيعاب جيل الآباء وجيل الأبناء في لقاءٍ واحد، يناقش فيه التلميذ أستاذه ويصغي فيه التلميذ لأستاذه. زيارتي هذه هي الثانية، بعد زيارة أولى سنة 2007 للمشاركة في مؤتمر فقهي، لم اكتشف في تلك الزيارة الخاطفة ملامح الشخصية العمانية، الانطباع العاجل في الزيارة الأولى كان الرضا بما شاهدت في مسقط. في هذه الزيارة توغلت أعمق في مدينة السكينة هذه، واكتشفت المزيد من أبعادها، واتسعت صِلاتي بإنسانها.
أدركتُ أن مفتاحَ دراسة شخصية أية مدينة هو شخصيةُ مواطنها، ونمطُ تنظيمها وعمارتها. أهلُ مسقط كأنهم مخلوقون من طينةٍ أخرى، لم يمسسها صخبُ العواصم وضجيجُها، ولم تتوتر أعصابُ سكانها بزحمة مركبات النقل واختناقها بالدخان والتلوث. أهل هذه المدينة دافئون، كرماء، مهذبون، عذبون، صامتون. يبادرونك بالسلام، ولا يبادرون بكلامٍ غير السلام، لا يتكلمون إلا إن سألتهم، يجيبون على قدر السؤال. يتكلمون، لو تكلموا، بثقةٍ وهدوء تكاد لا تسمع أصواتَهم، لا يحاصرونك وأنت تجلس معهم بثرثرات وكلام يأكل سلامَ روحك.
يتقن أهل عُمان فنَّ الإصغاء قدر إتقانهم لفن الصمت، مولعون بالصمت ولع المعلِّقين السياسيين في مجتمعنا بالكلام. تسائلتُ عن منابع الصمت في حياة هذا الإنسان، وكيف استطاع أن يتحكم بلسانه بصرامة إرادة وتهذيب، وتسيّد صمتُه وتغلّب على فضول كلامه، ولماذا نُكره نحن على العيش في بلاد لا يعرف إنسانُها الصمت،كأن الكلَّ فيها يحتشدون في مباراتٍ مزمنة للحكي المتواصل بلا مناسبة، يحكون بما لا يعنيهم، الجميعُ يضع نفسَه في مقام المتخصِّص بالسياسة والاقتصاد والثقافة والدين وكلِّ شيء، ولفرط انشغالهم بالحكي وتوهم المعرفة يعجزون عن الإنصات للمتخصِّص لحظة يتحدث.
روافدُ تشكّل شخصية الإنسان تتحكم فيها: الجغرافيا والمناخ، والاقتصادُ ونمط العيش، والتنوعُ الإثني والديني والثقافي، والمعطياتُ المختلفة للمحيط، وما تفرضه صيرورةُ الواقع وديناميكيةُ التغيير الاجتماعي، ونوعُ النظام السياسي، وقدرتُه على إداراة بلاده وعلاقاته الدولية والإقليمية بواقعية سياسية، وبراعته في إتقان التسويات السياسية في محيطه الجيوسياسي.
نظام عُمان السياسي يبتني على أساس المواطنة الدستورية، النصابُ فيه الانتماءُ لأرضٍ واحدة تضمن عيشَ مواطنيها، وبناءَ دولة حديثة تتأسس على هوية وطنية عابرة للهويات الدينية والطائفية والإثنية، تلتقي فيها مصالحُهم المشترَكة. جغرافيا ومناخ عُمان واقتصادُه متنوع، فهو يغفو على أطول ساحلٍ لبلد في الخليج والجزيرة، هذا الساحل يرقد على شاطئٍ متعرّج بطول 3165 كلم، ويمتدّ من مضيق هرمز في الشمال إلى اليمن الجنوبي. مدينةُ مسقط منذ القرن الأول للميلاد كانت مرفأ تجاريًا حيويًا يوصل الغربَ بالشرق، تستريح هذه المدينةُ على ساحلٍ بحري شاسِع، مبانيها أفقية بيضاء مريحة، لا تغرق وأنت تتجول فيها بغابة كتلٍ حجرية صماء لمبانٍ شاهقة، كالمدن الحديثة في الأرض. مدينةٌ تكاد تخلو من التلوث، لا يخنقك فيها عصفُ دوران محركات السيارات والمصانع ودخانُها الكئيب. كابوسُ التلوث في المدن الحديثة يستلب سكينةَ الروح ويكسر صمتَها وسلامها.
أهلُ عُمان شخصياتُهم عميقة عمق البحر، الشخصيةُ العميقة واثقة لا تبوح بأسرارها إلا لضرورة، تتقن قراءةَ معادلات واقعها، وتعرف جيدًا أين وكيف ومتى تتكلم، بصيرتُها حاذقة في إدراك وتدبير تناقضات الاجتماع والسياسة. وإن كانت تبدو بسيطةً بساطة الهواء، هذه الشخصية طرية كالماء إلا أنها لا تنكسر، تشبعتْ روحُها بهدوء البحر، ولم تتصدّع سكينتُها بهديره في أوقات معينة، وتغذّى ذهنُها بهيبة الآفاق المدهشة للمياه، وجلال مدياتها الواسعة أفقيًا وعموديًا، وألهم بصيرتَها ما يختزنه البحرُ في قاعه من كائنات غريبة وجواهر نفيسة.
الشخصية العُمانية تاريخُها العريق محصلةُ تفاعل خلّاق لثقافات آسيوية هندية وإفريقية زنجبارية، وكأنها تشبعتْ بسلام البوذية وأديان الهند وآسيا المعروفة بالارتياض الروحي واكتشاف روافد بالسكينة، وارتوتْ من ثقافات بعض القبائل الإفريقية، يوم كانت عُمان امبراطوريةً يحكم سلطانُها مسقطَ وزنجبار.
كنتُ وما زلتُ أنجذب بشغفٍ للشخصية الصامتة، وهي قليلة جدًا في المحيط الذي أعيش فيه، وأشعر بالضجر من حضور مجالس تفرضها عليّ أعرافٌ اجتماعية، لا أجد مهربًا منها، أجزع فيها من هوس بعض المتحدثين بصوت غليظ أجشّ يقرع السمع، وهو يتحدث بلا أن يتوقف، بألفاظ يكرّرها في المجالس اليومية المدمِن عليها، وهو لا يعرفها جيدًا، وكثيرٌ مما يقوله لا يعرف عنه شيئًا، ويتسابق معه آخرون بشكلٍ منفر، ليعتلو منصةَ الكلام في هذا الجمع المتنوع، وتلبث أنت مكرها على الاستماع، في مكان اضطرتك الأعرافُ للحضور فيه. إثر ذلك صرتُ أكتفي منذ سنوات برسالةٍ هاتفية ومكالمة، وأحيانًا رثاءٍ في وسائل الاتصال للأحبة، لئلا يعبث بسلامي الداخلي هذا الضجيجُ الذي أجزع منه.
كان يأسرني أحدُ الأصدقاء بصمتِه الملهِم، وكلامِه القليل جدًا، الذي كنتُ أتعلّم منه وأشتاق اليوم إليه. فرض علينا المنفى أنا وهو أن نعيش في مدينةٍ واحدة عدة سنوات.كان هذا الرجل حادَّ الذكاء، متفرّدًا بعدد غير قليل من الأفكار والمواقف وطريقة العيش.
صامتًا أغلب الوقت، قلّما يتكلم، ولو تكلم نطق بأسئلةٍ لا تولد إلا في الأذهان اليقظة، ولو تحدّث في توصيف وتحليل مفهوم أو ظاهرة أو حدث أو موقف، يذهب بعيدًا عن المرئي على السطح. أفكارُه لافتة، جَسورٌ في عقله، وعيُه مرآةٌ للواقع، لغته لا يرهقها فائضٌ لفظي وهذرٌ مبتذل. أراه في الشارع يمشي وحده، ويعيش وحده، وينام في غرفة وحده، ويأكل وحده، ولا ينخرط في أية مجموعة يستنزف معها الوقت.
كنا نتمشى معًا قبل نحو 40 سنة، سألتُه ما رأيك أن نلتزم بموعدٍ يومي نلتقي فيه، ونتحدث في شيءٍ من شؤون الدنيا والدين، أجاب: حتى لو تمشيتُ مع أيّ إنسان أحبّه، لا استوفي حاجتي إلا أن أتمشى وحدي، كان متأملًا عميقَ النظر، تراه وهو منشغلٌ بسياحةٍ داخل ذاته، تتحسّس كيف أيقظ الصمتُ ذهنَه من سباته، وأنقذه من ضوضاء الثرثارين ولغوهم، يحرص ألا يكسر صمتَه بأيِّ إغواءٍ مهما كان.
يقول أنه لا يطيق الحضورَ الطويل مع مَن يحبهم، فكيف يطيق الحضورَ مع أولئك البشر الذين يضجر منهم الحجر. رأيتُ هذا الصديقَ ينشغل دائمًا بما هو مثمر وبنّاء، كانت شخصيتُه تتطور وتتكرّس بشكلٍ يدهشني، قرر تعلّمَ اللغة الإنجليزية، فصار يقرأ ويكتب بالإنجليزية في ستة أشهر، وقرّر أن يدرس الرياضيات العالية والفيزياء النظرية والكيمياء وعلوم الحياة، فقرأ مؤلفات حديثة متقدِّمة في هذه العلوم حتى استوعبها، على الرغم من أنه لم يكمل الدراسةَ الثانوية.
لم يتعلّم على يد معلّم، بل كان معلّمًا لكلِّ من يعرفه. تعلّم من الصمت الزهدَ بكلِّ شيء، زرتُه في غرفةٍ يعيش فيها، لم أجد مدفأةً في شتاءٍ بردُه قارس، لما فكرتُ أن أتبرع له بمدفأة، قال: لا احتاجها، قرّرتُ الاستغناءَ حتى عن بعض الاحتياجات الضرورية، بغية أن تتصلب إرادتي وتشتدّ، لا أريد أن تتملكني الأشياء، وأخاف من أن أمسي مملوكًا لها، كلُّ مَن تتملكه الأشياءُ يغدو هشًّا، ولا يقوى على مقاومة مواجع الأيام، فتكسره تقلباتُها، ويجرحه عنفُها.
جاء في توصية بوذا للرهبان في سياق تحذيرهم من "آفة الكلام" وحثِّهم على الصمت، قائلًا: "والحق أقول لكم: إن أفضلَ رفيق لمن يسير إلى الـ (نرفانا) الصمتُ والسكينة".
اضف تعليق