لقد مرّت المنطقة العربية بالعديد من التطورات آنذاك (منذ حوالي خمسة عقود) منها الاستعداد لإنشاء ما كان مقترحا تسميته بلجنة الطاقة النووية للعالم العربي والتي يكون فيها تعاون مهم في المجال النووي ما بين الدول العربية، لكن وبسبب انعدام الاهتمام الفاعل للعرب في هذا المجال اصبحت هناك فجوة كبيرة ما بين هذه الدول وكيان (اسرائيل!) الذي كان ومازال يضغط كي لا تحصل اي دولة من الدول العربية وخاصة تلك المتحررة من القيود الامريكية على النشاط النووي وان كان للاغراض السلمية.
والأسئلة الكثيرة التي تطرح هذه الايام عن جدية العمل في المجال النووي لدول قد تخلّت بشكل او آخر عن نشاطها منذ وقت ليس بالقصير كما هو مع مصر (فلربّما يكون لغايات متعددة منها السياسية ومنها الاقتصادية وغير ذلك) التي تمتلك من الطاقات العلمية التي تستطيع تغطية العمل في هذا المجال بشكل كبير ضمن الاتفاقيات التي تخضع للشروط الدولية والبرنامج الذي تفرضه الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تعمل جاهدة، ان لا تخضع لسطوة الدول التي تتحكم بهذا البرنامج ولكنها لا تستطيع لاعتبارات تتعلق بالسياسة لا بالجانب العلمي عموماً! وسأحاول في هذا المقال أن أقْصِر على ما يتعلّق بالمجال العلمي البحت! وسأحاول أن أركّز على هذا الجانب قدر الإمكان!
تعتبر مصر من الدول التي تمتلك الكثير من المقوّمات التي تستطيع ان تنطلق بها الى رحاب المجال النووي والدخول في هذا الجانب المهم لحل الكثير من النواقص التي تعاني منها كالطاقة والزراعة والصناعة والمجال الطبي وغير ذلك من الاستخدامات التي تستطيع بها الدخول بقوّة الى مجال إستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية حصراً!
لقد ضغطت الظروف على مصر عبر أكثر من أربعة عقود على أساس خشية المنطقة من دخول مصر النادي النووي انتاجا للطاقة ومتعلقاتها (بالطبع دون الاستخدام العسكري لتلك الطاقة!)، حتى وصلت الاوضاع الى أن تتخلى مصر عن سياستها بهذا الاتجاه منذ بداية الثمانينيات! والآن ترغب بالرجوع عن القرار السابق والدخول من جديد الى رحاب المجال النووي وانتاج الطاقة كمرحلة أولى بعد التأسيس الكامل للمحطة النووية التي كانت التوقيعات السابقة على الاتفاقية مع روسيا تتضمّن التأسيس والمساعدة على تزويدها بالوقود النووي والتعامل مع النفايات النووية حين بلوغها مرحلة الطرح والتعامل مع تلك النفايات وما يتعلّق بالامن النووي لتلك المفاعلات!
لقد مرّت الدول العربية (ومنها مصر) بالعديد من التحولات المهمة على النطاق العلمي، وخاصّة بين مصر وروسيا حيث بلغت هذه العلاقة مستوى مهما منذ فترة، رغم الضغوط الامريكية على مصر كي لا تتوجه الى روسيا للاتفاق حول البرنامج النووي المذكور، وقد شمل هذا الضغط العديد من الجوانب كان أكثرها تأثيراً هو الجانب الإقتصادي والمساعدات التي تقدّم لمصر خاصّة بعد توقيعها إتفاقيّة كامب ديفيد مع كيان (اسرائيل!)
لقد ربطت مصر وروسيا علاقات مهمّة منذ سنوات ثورة عبد الناصر 1952 ـ 1953 وخاصّة في العام 1963 كانت العلاقات في مجالات عديدة منها المجال النووي الذي سعى اليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث كانت تلك العلاقات تتجه الى إنشاء وتطوير العديد من المشاريع ومنها مشاريع في تأسيس قاعدة مهمّة من قواعد البناء النوويّ. وقد قام عبد الناصر بدور مهم بإستقدام الخبرات والخبراء السوفييت (أنذاك) لانشاء مفاعلات نووية كان مخططا أن تكون إقتصادية بالدرجة الاساس رغم الفكرة التي كان يسعى اليها والتي لا تخلو من توجّه سياسي عندما كانت مصر في حالة حرب مع كيان (اسرائيل!)، وبالفعل قام عبد الناصر بالانفتاح الكامل على السوفييت لبناء محطة نووية في منطقة سيدي كرير لتوليد 150 ميغاواط وكان الغرض منها أولا أن تستخدم لتحلية مياه البحر. وبدأت بوادر العمل بهذا الاتجاه الى سنة 1967، تلك السنة التي شنّت فيها (اسرائيل!)، الحرب على مصر (وكما اعتقد ان اولى هذه الغايات لتلك الحرب هي هذا المشروع!)، وبالفعل فقد نجحت اسرائيل بتقويض هذا المشروع الى درجة كبيرة. ولا غرابة من سعي إسرائيل للتخلص كلية من عبد الناصر بأساليب عديدة منها هذا التوجّه ولا أستغرب إذا ما قامت (اسرائيل!) بفعل يشابه هذا الفعل في الوقت الحالي إن إستمر الوضع الى هذا المستوى رغم ما قدمه الرئيس السيسي من تنازلات في العديد من التوجهات المعروفة.
لقد أنشأت مصر لجنة الطاقة الذرية في عام 1955. وفي عام 1964 تم اقتراح محطة نووية تبلغ 150 ميغاواط بقدرة 20.000 متر مكعّب في اليوم لتحلية المياه،
إنّ العودة الى النشاط النووي في مصر جاء بعد العام 1973 حيث أعادت مصر السادات التفكير في العودة الى المجال النووي بعد نهاية الحرب التي إنتصرت فيها مصر والدول العربية المشاركة بالحرب، الى حدّ ما، وأقول الى حدّ ما في بلوغ ما بلغت اليه من نتائج لانّ من النتائج السلبية التي خرجت بها الحرب هي رسم العلاقات الجديدة بإسلوب أدّى الى إخراج مصر من الساحة القومية العربية ومن المواجهة المباشرة مع (اسرائيل!)! بتوقيع إتفاقية كامب ديفيد بعد زيارة السادات المشؤومة عام 1977 الى كيان (اسرائيل!) والتي بدأت بها عصر جديد من الاستسلام في جوانب عديدة كانت بداية لإرهاصات اخراج العديد من الدول العربية من ساحة المواجهة مع كيان (اسرائيل!) حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه من توجيه بوصلة المواجهة الى اعداء وهميين لإبعاد التوجه من كيان (اسرائيل!) الى اعداء داخل الامة من هنا وهناك!!
في عام 1974 تم اقتراح إنشاء محطة بقدرة 600 ميغاواط في سيدى كرير بالقرب من الإسكندرية. وفي عام 1976، أنشأت السلطة الحكومية ما يعرف بسلطة محطات الطاقة النووية، وفي عام 1978 وضعت خطط لعشرة مفاعلات بحلول عام 1999 بقدرة 7200 ميغاواط في سيدي كرير والعريش والقاهرة وفي صعيد مصر. ثم جاءت المحادثات مع الحكومات الفرنسية والألمانية والنمساوية وكذلك ويستنغهاوس لكن لم يصلوا الى شيء من الاتفاق حول ذلك.
بعد سنوات تطوّرت الافكار في مصر السياسة والاقتصاد أدّت الى قيام مصر بالتفكير في إنشاء عدد من المحطات النووية من جديد، ومحاولة التعاون ثانيةً في هذا الاتجاه! خاصّة بعد أن ضعف الاحتياطي النفطي ومحاولة التعويض عن هذه الطاقة بالطاقة النووية لعدد من الدول ومنها مصر. بعد أن بلغ الضغط الامريكي مقصده عندما توجّه السادات آنذاك الى الولايات المتحدة الامريكية للمساعدة في تخصيب الوقود النووي اللازم للمحطات النووية التي نوت مصر انشاءها. بل وللإشراف على نشاط المحطات، والذي بات معروفا ما الغاية الاساسية لهذا التوجه بعد اعتراض كيان (اسرائيل!) على عدد من التفاصيل بما يتعلق بهذه المحطة (أو المحطات)! بعد ذلك صدر القرار المصري بإنشاء هيئة مهمة أطلق عليها بهيئة المحطات النووية المصرية، والتي تمتلك الصلاحيات بالإشراف والعمل مع الجهات المختصّة لحين بلوغ الهدف من إنشاء هذه المحطة (أو المحطات المقترحة!). وقد خصصت بالفعل مساحة 50 كيلومتر مربّع على ساحل البحر الابيض المتوسّط لبناء المشروع النووي، وبطول 15 كيلومتر وعمق ثلاثة كيلومترات في منطقة الضبعة، وقد قام السادات بإعطاء المشروع الى شركة أمريكيّة. على أساس إنتاج طاقة من محطتين نوويتين تصل هذه القدرة الناتجة من المحطتين المذكورتين الى 1800 ميغاواط.
لقد تطورت العديد من التوجهات خلال سنين السبعينيات وما بعد حرب تشرين 1973 بسبب ما حصل من تطورات على مستوى العالم خاصّة بما يتعلّق بالتوجّه النووي، حيث بدأت العديد من الدول بهذا التوجّه ونشوء الرغبة العالية في الحصول على الطاقة الكهربائية من الانشطار النووي داخل قلب المفاعل النووي. حيث بدأت تنحى العديد من الدول مناح اخرى منها الهند والباكستان في تطوير هذا النشاط الى الدرجة التي جعلت الهند عام 1974 ان تجري اول تجربة نووية باتجاه عسكرة الطاقة النووية! لكن بنفس الوقت اعطى ذلك الحذر للكثير من الدول حينما قامت دول النادي النووي بتأليب الرأي العام على الهند حينما اجرت التجربة المذكورة. لكن ذلك جعل من الدول النووية الكبرى الضغط باتجاه توقيع معاهدة عدم انتشار الطاقة النووية لأغراض غير الاغراض السلمية. واطلق على هذه الاتفاقية بمعاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية والتي كان من ضمن الشروط الواردة فيها اخضاع المحطات النووية الى التفتيش للتأكد من التوجه كما ورد في المعاهدة. وهنا وكورقة من اوراق التفاوض على اتمام الصفقة وكورقة سياسية باتجاه التاثير على كيان (اسرائيل!) رفض السادات التوقيع على الاتفاقية الا بتوقيع كيان (اسرائيل!) عليها كورقة من اوراق التفاوض والمساومة السياسية باعتبار ان كيان (اسرائيل!) يمتلك الاسلحة النووية على المستوى الكبير منذ فترة ليست بالقصيرة وبعلم الكثير من الانظمة السياسية! وكرد على تصرف السادات امتنعت امريكا عن الاستمرار في مشروع بناء المحطتين، كورقة ضغط للتوقيع واخلاء الساحة لكيان(اسرائيل!) في تطوير نشاطه النووي للاستخدامات العسكرية بلا توقيع على اي وثيقة لحظر العمل بالطاقة النووية للاغراض العسكرية!
في عام 1983 تم اختيار موقع الضبعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط - على بعد 170 كم غرب الإسكندرية و زفرانا على خليج السويس - لاستضافة محطة نووية. وقد قدمت شركة كو، وفراماتوم، وستنغهاوس في ألمانيا عرضا لتوفير المفاعلات في الضبعة، ووافقت أستراليا والنيجر على توريد اليورانيوم الى المفاعلات المذكورة.
واستمرت المباحثات بين مد وجزر الى العام 1986 حينما حصلت المشكلة الكبيرة التي اربكت السوق النووي بشكل عام وهي حادثة تشرنوبيل في اوكرانيا (الاتحاد السوفييتي السابق)، عندها اعلنت مصر عن تخليها عن هذا التوجه في زمن حسني مبارك، ولم يعرف السبب الاساس لهذا التخلي الغريب باعتبار ان مصر لها القدرة الجيدة على انضاج التوجه والوعي النووي لانتاج الطاقة الكهربائيّة من التفاعل النووي من خلال المحطة الكهرونووية بلا اي مشاكل، خاصّة وانّ الادعاء بما قيل من خطورة من التعامل مع الطاقة النووية، لم يشمل اي دولة من الدول السائرة بهذا الركب! وان المحطة التي اراد فيها نظام مصر ان يؤسس لها اصبحت في عهدة الولايات المتحدة لا مع غيرها!
مصر النووية.. الآن!
عموماً يمكن القول ان توجّه مصر الان ليس بالجديد لكنّ التوجّه صحيح قدر تعلّق المشروع بالمفاعلات الاربعة التي نوت انشاءها بقدرة تحلية كبيرة لمياه البحر.
لمعرفة الطاقة المنتجة في مصر نلقي نظرة بسيطة على الارقام:
لقد أنتجت مصر ما مجموعه 172 تيرا واط ساعة من الكهرباء في عام 2015 (بلا اي توجّه نوويّ!) يكون منها 135 تيرا واط ساعة من الغاز وما يعادل x بالاضافة الى 38 تيرا واط ساعة من النفط و13 تيرا واط ساعة من المياه. وقد بلغ نصيب الفرد من استهلاك الكهرباء نحو 1650 كيلوواط ساعة في عام 2015. ويبلغ نمو الطلب على الطاقة بشكل كبير حيث يكون بنسبة 4 الى 7 بالمئة بالسنة. وفي عام 2015 تمّ تثبيت قدرة تصل الى توليد ما يقدر 39 غيغا واط كهرباء
39GWe
(أنظر المصدرين أدناه)
1. Electricity data from International Energy Agency\'s Electricity Information 2017. Per capita consumption calculated using 2015 population information from World Bank Open Data.
2. Central Intelligence Agency
إستمرّ الطموح المصري لامتلاك الطاقة النووية للاغراض التي ذكرناها آنفاً حيث اعتمدت مصر فترة طويلة على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة. وبلغ الإنتاج المحلي السنوي من الغاز ذروته في عام 2009 حيث بلغ 62.7 مليار متر مكعب، وانخفض إلى 41.8 مليار متر مكعب بحلول عام 2016. وخلال نفس الفترة، ارتفع استهلاك الغاز في البلاد من 42.5 إلى 51.3 مليار متر مكعب. وقد ظهرت قيود على العرض بعد أن أوقفت الحكومة عقود الاستكشاف الجديدة عقب الانتفاضات الشعبية في عامي 2011 و2013. ونتيجة لذلك، أصبحت هناك الآن قيود كبيرة على إمدادات الغاز، لا سيما بالنسبة للصناعات الثقيلة، حيث أعطت الحكومة الأولوية للمستلزمات المحلية. لذلك أصبح لزاما على الحكومة التوجه من جديد الى امتلاك الطاقة النووية!
ولاستطلاع النشاط الاخير في هذا الجانب نقول: خلال الفترة 1999-2001، أجرت الوكالة الوطنية للطاقة الذرية دراسة جدوى لإنشاء محطة للتوليد المشترك للكهرباء وتحلية المياه، وتحديثها في عام 2003. وتم توقيع اتفاقات تعاون نووي جديدة مع روسيا في عامي 2004 و 2008، وإحياء خطط مصر لإنشاء محطة للطاقة النووية وتحلية المياه، بواسطة روس أتوم (ترجمتها الذرة الروسية). وفي أكتوبر 2006 أعلن وزير الطاقة أنه سيتم بناء مفاعل بقدرة 1000 ميغاواط في منطقة الضبعة بحلول عام 2015.
في ديسمبر 2008، وبعد مناقصة دولية، منحت وزارة الطاقة والكهرباء عقدا بقيمة 180 مليون دولار لشركة بكتل لاختيار تكنولوجيا المفاعلات، واختيار موقع المصنع، وتدريب العاملين بالعمليات، وتقديم الخدمات الفنية على مدى عشر سنوات. ومع ذلك، في مايو 2009 نقلت الحكومة هذا العقد إلى وورلي بارسونس، الذي وقع في يونيو مع سلطة محطات الطاقة النووية
Nuclear Power Plants Authority
بقيمة 160 مليون دولا أمريكيّ على مدى ثماني سنوات لدعم إنشاء محطة نووية بقدرة 1200 ميغاواط. وشمل العقد مسوح الموقع والتحليل الإقليمي لتحديد المواقع المحتملة، ومقارنتها وترتيبها، ووضع مواصفات تقنية لعطاء مخطط له. وفي الوقت ذلك صرّحت الوزارة إن مصر تهدف إلى البدء في توليد الكهرباء النووية في عام 2017.
ولنا عودة.. في حلقة أخرى
اضف تعليق