كيف تنهض الدول؟ سؤال فضفاض، لكنه أكثر من مهم، هل السياسة تنهض بالدولة أم الاقتصاد أم غيرهما من المجالات والسبل؟، لم نذكر العامل الأهم الذي يقف خلف نهوض الأمم والشعوب، نعني به العلم، مجتمع لا يهتم بالعلم، لا تلوح له فرصة بالتقدم، من هنا تبدأ الدولة بالتخطيط السليم لنشر العلم وتثبيت هذا الأساس بصورة لا مجال للخلل فيها.
أي تهاون في التعليم ينعكس بصورة مؤذية على المجتمع وعندما يغيب أو يتلكّأ التخطيط السليم للدولة، تضعف حلقات بناء كثيرة ومهمة، تقع في المقدمة منها، منظومة التعليم بمراحله كافة، حيث تعاني هذا المنظومة من الإهمال والإدارة المزاجية إن جاز الوصف، وهو أمر يعيشه التعليم العراقي منذ سنوات، حيث تطفو على السطح مظاهر مثل الضعف التعليمي التربوي والعنف المدرسي، وتكديس الطلاب في صفوف صغيرة، وانتشار مدارس الطين في بعض القرى والأماكن النائية وربما في مراكز بعض المدن أيضا، فضلا عن أساليب التدريس التي أكل عليها الدهر وشرب، والعجز المتواصل في دعم التدريسي علميا وما ديا.
إذا غاب عنصر المنافسة تضمحلّ المزايا، وهذا يحدث في مرافق متعددة من العراق، فالمعروف أن منظومة التدريس العراقية ذات عائدية حكومية بالدرجة الأولى، لذا نجد فيها حلقات ضعف متعددة، لاسيما مع غياب روح المنافسة، فعندما يقتصر التعليم على الحكومة سيكون هناك تأخر في التربية المدرسية، أما عندما يظهر منافس للتعليم الحكومي، فهذا يجعله يتحرك الى الأمام، المنافسة سنجدها في ما تقدمه المدارس الأهلية من طرق تعليم ذات مزايا جيدة، حيث يبرز دور القطاع الخاص في عملية بناء المدارس بمراحلها كافة ويبدأ باستقطاب الطلبة، ليبدأ بدور المنافسة الايجابية مع المدارس التابعة للحكومة، هذه المنافسة ستجلب الكثير لصالح العملية التربوية.
عندما يشعر أحدهم أن هناك من يسعى للتفوق عليه، سوف يتحرك ويفكر ويبحث عن سبل ووسائل تدفعه الى أمام، يحدث هذا تبعا لطبيعة الإنسان من خلال المنافسة التي تنمو بمرور الوقت، وهذا يحدث في الميدان الدراسي العراقي، حيث أخذت المدارس العراقية تفكر جديا بتطوير أدواتها ومناهجها وطرق تدريسها وكادرها، إذ أخذ القطاع الخاص يقدم تجارب جيدة في التدريس تتفوق على المدارس الحكومية، وهذا أمر جيد بطبيعة الحال، لا ضير في مثل هذا المسعى، لاسيما أنه يصب في تحفيز القائمين على التعليم الرسمي كي يطوروا قدراتهم وأساليبهم ومؤسساتهم بمختلف مهامها وخدماتها.
المنافسة والبدائل المتطورة
لقد صنع التعليم غير الرسمي نوعا من المنافسة الجيدة، وقدم بدائل لا بأس لها، لا تسعى لإقصاء المدارس الحكومية أو تفشل تجربتها، وإنما تضعها أمام المحك كي تتطور وتنهض، حيث أظهر التعليم الأهلي بعض المزايا منها، اعتماد السبل العصرية في طرق التدريس بالمدارس التي يمولها القطاع الخاص، كذلك الابتعاد عن أساليب العنف مع الطلبة، وعدم السماح بتبني أي مبرر لها، وتمكن التعليم الأهلي من الاهتمام بالمنشآت والصفوف وتوابعها، وقام بتوفير وسائل الإيضاح والمختبرات بصورة أفضل مما يتوافر بمدارس وزارة التربية.
وهناك ميزة مهمة جاء بها التعليم الأهلي، تخص العلاقة بين الأستاذ والطالب وتقوية أواصر الثقة بينهما، حيث يعاني الطلبة من خلل وإشكالية في هذه العلاقة، فكثيرا ما يشكو الطالب من الأستاذ والعكس صحيح، لذا ساعد التعليم الأهلي على معالجة هذه العلاقة وجعلها أكثر عمقا.
ساعد هذا الحضور للجهد التعليمي الأهلي بدفع الحكومي للتفكير بصورة أفضل لتحسين التعليم، فالمزايا الجيدة حاضرة بوضوح في ما تقدمه المؤسسات العلمية الأهلية من جهد طيب، فهي تمثل حالة صحية تدفع كوادر التدريس الحكومية الى الامتثال بها، ومجاراتها، وبهذا يصبح التدريس الأهلي الذي يديره القطاع الخاص، عنصر قوة ونجاح للتدريس الحكومي وليس بديلا عنه أو مضاد له، فميزة المنافسة يمكن أن تخلق أجواء علمية تصب في صالح التعليم.
فعندما يلاحظ القائمون على التدريس الحكومي هذه التطورات، سوف يتحرك هؤلاء بسبب عنصر المنافسة لتحسين عناصر التعليم، المعلم، المنشأ، وسائل الإيضاح، المناهج، أساليب التعليم، القضاء على العنف المدرسي، وهذا الأمر يحتم على الحكومة أن ترعى وتنمّي قدرات القطاع التعليمي الأهلي، وتتخذ الخطوات الإدارية والمالية التي تشجع القطاع الخاص للاستثمار في هذا المجال بمختلف المراحل الدراسية، ابتداء من الابتدائية صعودا الى الدراسات الجامعية العلمية والإنسانية، ويمكن الاستفادة من التجارب المشابهة التي سبقت التعليم العراقي في مجال المدارس الأهلية.
خطوات لدعم القطاع الخاص
علما أن تجارب الدول المتقدمة، كاليابان مثلا، أثبتت النجاح التام للجهود العلمية التي بذلتها المؤسسة العلمية الأهلية، حيث تطورت الى حالة من المنافسة الفاعلة بين القطاعين الأهلي والحكومي، وقد أسهم ذلك في تطوير المجالين (الرسمي والأهلي) من خلال التأثير المتبادل بين الطرفين فيما يتعلق بأساليب التعليم، ووسائل الإيضاح، وتصاميم المنشآت الدراسية، وسوى ذلك مما يسهم في دفع العملية التعليمية التربوية الى أمام، ويمكن الإطلاع على تفاصيل هذه التجارب لكي ينهض التعليم في العراق بصورة جيدة، خاصة أننا بحاجة الى التعليم الفاعل للنهوض بالبلد والمجتمع معاً.
لا يمكن أن نتجاهل ما اتخذته الحكومات في الدول المتقدمة من خطوات في مجال دعم التعليم بشقيه الأهلي والرسمي، لهذا لابد أن تبادر الحكومة العراقية بتقديم سلسلة من الاجراءت والخطوات الفعلية، لدعم القطاع الخاص في مجال التدريس الأهلي، لكي ينهض بدوره المطلوب، ويسهم في تطوير الدراسة الحكومية أيضا، أما نوع التسهيلات فهي كثيرة ومتنوعة، أهمها التسهيلات المالية كالمنح والقروض التي تقارب أثمان المباني والأرض التي تشيّد عليها، وأجهزة المختبرات ووسائل الإيضاح وسواها، بالإضافة الى تسهيل الخطوات الإدارية المختلفة، بما فيها الضريبية التي ينبغي أن تكون لا تشكل عائقا أمام تطوير التعليم الأهلي، أو تتسبب بأعباء مالية قد تجعل الراغبين بإقامة مشاريع علية تعليمية الى العزوف عن ذلك.
وعندما يطّلع أصحاب الشأن على تجارب التعليم الأهلي في البلدان المتطورة، يمكنهم ملاحظة ما تحقق من هذه التجربة لتلك البلدان، لهذا ينبغي أن نستفيد من هذه التجارب المتطورة في التعليم، علما أن تجربة التدريس الأهلي في العراق، على الرغم من أنها موجودة منذ زمن، لكنها بقيت ضعيفة، أما في الراهن فهي في حالة صيرورة وتطور بطيء، نظرا لتردد القطاع الخاص في الاستثمار بهذا المجال، بالإضافة الى ضعف الخطوات الحكومية اللازمة للاستثمار في هذا الميدان، بسبب الاعتماد على التدريس والتعليم الحكومي، على الرغم من النواقص والهفوات التي تجعل منه تعليما لا يمكنه النهوض بصورة جيدة بهذه المهمة الكبيرة التي يعتمد عليها تقدم الدولة برمتها.
من هنا لابد أن تكون هناك رؤية ثاقبة في هذا المجال، وأن توضع الخطط الكفيلة باطوير التعليم الأهلي الرديف وليس المضاد للتعليم الحكومي، لاسيما أن هناك فرصة جيدة لتعميق تجريبة التعليم الأهلي في العراق، من خلال الاستفادة من الخبرات الجيدة المتخصصة ولا بأس أن نستعين بالخبرات الخارجية في هذا المجال، فالمهم أن يتقدم التعليم ويتميز.. لأن الهدف من ذلك بناء الدولة ومؤسساتها ورفدها بالخبرات العلمية المتميزة.
اضف تعليق