الجامعة التي نريدها ليست مكاناً لرفع المعنويات عبر الدرجات، بل لرفع الكفاءات عبر المعرفة. جامعة تحاسب لا تجامل، تقيم لا تواسي، تنصف لا تساوي. جامعة لا ترتجف مع كل مناسبة، بل تظل ثابتة قوية لأنها مؤسسة تحكمها معايير قبل كل شيء. إن تحويل الدرجات إلى هدايا هو رسالة خطر لا يجب السكوت عنها...
هناك أشياء تبدأ صغيرة، هامشية، تقال على سبيل المزاح أو التسهيل أو حتى الإنصاف، ثم لا تلبث أن تتحول إلى ظواهر تقضم أساساً كاملاً من أسس المجتمع.
منذ سنوات، ومع كل مناسبة وطنية أو دينية أو رياضية يشهدها العراق، تنتشر في مجموعات الجامعات على منصات التواصل الاجتماعي رسائل من نوع: الدكتورة فلانة تمنح ٥ درجات بمناسبة فوز المنتخب، الدكتور فلان يوزع ١٠ درجات بمناسبة المولد النبوي، زميلتنا تمنح ٢٠ درجة بمناسبة تخرج ابنتها.
وفي كل مرة، يمر الخبر كأنه لطيف، بسيط، مليء بالفرح، حتى صار جزءً من العرف الجامعي غير المكتوب.
لكن السؤال الذي يتجنبه كثيرون هو: ما الذي نفعله بالتعليم حين نجعل الدرجات خاضعة للمناسبات لا للمعايير؟
منطق الدرجة الهدية… ومنطق الجامعة
الأستاذ الذي يمنح درجات كهدية لا ينطلق من نية سيئة بالضرورة. ربما يريد إدخال الفرح على الطلبة، أو مكافأة التزامهم، أو الاحتفال بحدث يهم الجميع.
لكن النيات الحسنة لا تحمي التعليم حين يصبح المبدأ: أعطِ درجاتك بحسب مزاجك.
فالجامعة ليست مجلس عزاء أو وليمة نذور؛ الجامعة مؤسسة تبنى على ضبط ومعايير وتقييم حقيقي يخضع لقواعد دقيقة لا لعواطف طارئة.
الدرجة في جوهرها حكم أكاديمي على مستوى أداء الطالب. حين تعطى كهدية، فإننا نرسل رسالة واضحة:
الأداء ليس مهماً… الجهد ليس مهماً… الدراسة ليست مهمة… كل شيء قابل للتجاوز إذا صدف أن حدثاً وطنياً جميلاً وقع في اليوم السابق.
الخلل الأخطر: مساواة غير عادلة
المشكلة لا تتوقف عند حد المرونة أو التخفيف.
هناك خلل أخلاقي يحدث بصمت:
طالب يدرس لساعات، يراجع، يطالع، يعرض نفسه للضغط والتعب، ثم يقف جنباً إلى جنب مع طالب آخر لم يفتح الكتاب إلا يوم الامتحان، ويحصل كلاهما على الدرجات نفسها لأن الدكتور قرر أن يقدم هدية بمناسبة فوز المنتخب.
وهنا نقع في أخطر أنواع الظلم الأكاديمي: المساواة بين غير المتساوين.
الجامعة التي لا تميز بين الجاد والمتقاعس لن تخرج إلا جيلاً ضائع الاتجاه، يظن أن الحياة ستعاملهم بنفس طريقة الدرجات الاحتفالية.
من يربح ومن يخسر؟
قد يربح الطالب درجات سريعة، لكن الخاسر الحقيقي هو الطالب نفسه.
فحين يعفى الطالب من تحصيل المعرفة بسبب مناسبات تتكرر دائماً، فإنه يتخرج ناقص المهارات، ضعيف الكفاءة، غير قادر على مجابهة سوق العمل.
والخاسر الثاني هو الجامعة التي تفقد هيبتها العلمية تدريجياً.
والخاسر الثالث هو البلد نفسه، الذي يبدأ بإنتاج شهادات لا تعكس مستوى حقيقياً، ويزيد بذلك من فجوة الثقة بين المجتمع وخريجيه.
التعليم ليس مساحة عاطفية
التعليم مشروع دولة، مشروع مستقبل، مشروع أجيال.
وحين يصبح هذا المشروع محكوماً بالمناسبات، نفقد بوصلته الأساسية: صناعة إنسان قادر.
لا أحد ينكر جمال المناسبة، ولا فرح الناس بفوز المنتخب أو حلول الأعياد. لكن الفرح لا يمكن أن يكون معياراً علمياً. الجامعة تستطيع الاحتفال، نعم، لكنها تحتفل بالإنجاز العلمي لا بمنح بونس جماعي.
كيف نواجه الظاهرة؟
نحن لا نتحدث عن قرارات وزارية كبرى، بل عن ثقافة يومية تتسرب من أسفل الهرم الأكاديمي.
معالجة الظاهرة تحتاج إلى ثلاثة مستويات:
1_ وعي الأساتذة: بأن الدرجة ليست ملكاً شخصياً يوزّعونه وفق رغبتهم. إنها ملك للنظام الأكاديمي بأكمله.
2_ ثقافة طلابية ناضجة: فبدلاً من الاحتفال بالدرجات الممنوحة، على الطالب أن يسأل نفسه:
هل هذه الدرجة تعبر عن جهدي أم عن جّ عام؟
هل أريد أن أتخرج ومعي شهادة حقيقية أم ورقة لا تعكس قدراتي؟
3_ ضوابط مؤسسية واضحة: جامعات العالم تعتمد سياسة تقييم دقيقة، لا تسمح بإضافة أي درجة بدون مسوغ أكاديمي مكتوب، وموافق عليه، ومعلن للطلبة.
أما في العراق، فغياب الضوابط التطبيقية جعل الأمر متروكاً للذوق الشخصي.
الجامعة التي نريد
الجامعة التي نريدها ليست مكاناً لرفع المعنويات عبر الدرجات، بل لرفع الكفاءات عبر المعرفة. جامعة تحاسب لا تجامل، تقيم لا تواسي، تنصف لا تساوي. جامعة لا ترتجف مع كل مناسبة، بل تظل ثابتة قوية لأنها مؤسسة تحكمها معايير قبل كل شيء. إن تحويل الدرجات إلى هدايا هو رسالة خطر لا يجب السكوت عنها.
فنحن لسنا بحاجة إلى تعليم يوزع الفرصة بالمناسبات، بل إلى تعليم يصنع الفرصة عبر الجهد والمعرفة والكدّ الحقيقي.
وفي النهاية، لا بأس أن نفرح… لكن لا يجوز أن نفرط. الفرح عابر، أما التعليم فباقٍ، يحدد شكل المستقبل، ويرسم ملامح البلد، ويصنع الأجيال التي ستقف بعدنا.
وإذا أردنا أن نضع لبنة تعليمٍ حقيقي، فعلينا أن نبدأ من هنا: من احترام الدرجة… واحترام الطالب… واحترام الجامعة قبل كل شيء.



اضف تعليق