يبدو أن العراق يعيش مفارقة مؤلمة في سياساته التعليمية. ففي الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم على تعزيز التعليم المهني والتقني باعتباره المحرّك الرئيس لعجلة الاقتصاد والضامن لتأهيل قوى عاملة ماهرة، ما زلنا نميل إلى القرارات الارتجالية التي لا تعالج جوهر الخلل بقدر ما تغيّر العناوين والمسميات...

يبدو أن العراق يعيش مفارقة مؤلمة في سياساته التعليمية. ففي الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم على تعزيز التعليم المهني والتقني باعتباره المحرّك الرئيس لعجلة الاقتصاد والضامن لتأهيل قوى عاملة ماهرة، ما زلنا نميل إلى القرارات الارتجالية التي لا تعالج جوهر الخلل بقدر ما تغيّر العناوين والمسميات.

أملاً في استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة والحد من تمدد التعليم الأهلي الذي يهدد التعليم الحكومي المجاني بالتهميش. كان من المفترض أن تكون هذه الخطوة بداية إصلاح حقيقي، لكن ما جرى لاحقاً كان صادماً: وزارة التعليم قررت تحويل المعاهد التقنية إلى كليات جامعية، وكأن المشكلة تكمن في الاسم لا في المضمون.

كيف يمكن تفسير هذه السياسة سوى باعتبارها امتداداً لنهج بدأ منذ عهد الوزير علي الأديب، حيث جرى التعامل مع التعليم المهني والتقني كأنه عبء ثقيل يجب التخلص منه؟ والحقيقة أن هذا القرار ليس تطويراً بل تهميش ممنهج لقطاع يمثل في الدول المتقدمة العمود الفقري للاقتصاد والإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي.

إن السياسات التعليمية في العراق تعكس عقلية تفتقر إلى رؤية استراتيجية طويلة الأمد، بل إنها تكرّس النظرة الاجتماعية الدونية للتعليم المهني. المجتمع بدوره يعزز هذا الانحياز فيعتبر أن من يلتحق بالمعاهد التقنية أو المدارس المهنية “أقل شأناً” من زملائه في الجامعات الأكاديمية، وكأن القيمة تكمن في شهادة البكالوريوس والدكتوراه وحدها، لا في المهارات التي يكتسبها الفرد.

اليوم نواجه سيلًا من الشهادات العليا يقابله عجز صارخ في المهارات الوسطى. الجميع يلهث خلف لقب “دكتور” أو “ماجستير”، بينما السوق يبحث عن فنيين قادرين على تشغيل مصنع، أو مهندسين تقنيين قادرين على إصلاح منظومة كهربائية، أو كوادر ماهرة تدير خطوط الإنتاج. النتيجة: بطالة مقنعة بين أصحاب الشهادات، وتعطّل لمشاريع الإنتاج والخدمات بسبب نقص اليد العاملة المتخصصة.

هذه المفارقة الخطيرة تضعنا أمام سؤال مصيري: كيف يمكن لبلد يحلم بالتنمية الاقتصادية والنهوض الصناعي أن يحقق ذلك وهو يهمل التعليم الذي يمثل المدخل الحقيقي للتنمية؟

التجارب الدولية تقدم دروساً بالغة الوضوح، ألمانيا مثلاً تعتمد نظام “التعليم المزدوج”، الذي يدمج بين الدراسة النظرية والتدريب العملي، حتى بات خريجو المعاهد التقنية هناك عصب الصناعة الألمانية ومصدر قوة لاقتصادها.

- كوريا الجنوبية لم تنهض من تحت أنقاض الحرب، إلا حين استثمرت في التعليم المهني، فصارت مصانعها تنتج وتغزو الأسواق العالمية.

- حتى الدول الخليجية بدأت مؤخراً تعيد الاعتبار لهذا المسار عبر إنشاء “كليات التقنية العليا” التي صارت رافداً أساسياً لسوق العمل.

أما نحن فما زلنا نساوي بين التطوير و”تغيير الاسم”، فنحوّل المعاهد إلى كليات في عملية ترقيع لا تخدم الطالب ولا السوق.

الخلل يكمن في غياب رؤية استراتيجية للتعليم. لا يمكن أن نبني اقتصاداً متوازناً يعتمد على قطاع أكاديمي متضخم من دون قاعدة تقنية قوية. كما أن النظرة الاجتماعية التي تزدري المهن التطبيقية تحتاج إلى تفكيك عبر الإعلام والسياسات الحكومية التي تعزز مكانة المهارات العملية لا أن تهمشها.

الحل لا يكون بجرة قلم، بل عبر:

1_إعادة الاعتبار للتعليم التقني باعتباره مساراً موازياً لا يقل أهمية عن التعليم الأكاديمي.

2_إصلاح المناهج لتكون مرتبطة بسوق العمل، مع توفير تدريب عملي حقيقي للطلبة.

3_بناء شراكات مع القطاع الصناعي والزراعي والخدمي لفتح فرص تدريب وتشغيل.

4_تغيير الوعي المجتمعي عبر حملات إعلامية تبرز قيمة المهن التقنية كركيزة للتنمية.

إن تحويل المعاهد التقنية إلى كليات جامعية ليس إصلاحاً بل إمعانٌ في تجاهل الحقيقة. الحقيقة التي تقول إن العراق لن ينهض إلا إذا أعاد التوازن بين التعليم الأكاديمي والمهني، وأدرك أن التنمية الحقيقية تبدأ من ورشة عمل، من مصنع، من مختبر تطبيقي، لا من شهادات تتكدس على الرفوف.

فهل نملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ وتغيير المسار؟ أم سنواصل السير في طريق يفاقم البطالة ويهدر الفرص ويغلق أبواب التنمية قبل أن تُفتح؟.

اضف تعليق