في العراق الحرية الأكاديمية موجودة لكنها محدودة، ومن الناحية النظرية فإن الدستور العراقي (مثلاً المادة 36) يكفل حرية الفكر والتعبير، وهناك حديث عام عن دعم حرية البحث العلمي، لكن من الناحية الواقعية ثمة ضغوط سياسية على بعض الجامعات والأساتذة، خصوصاً إذا تناولت أبحاثهم أو مواقفهم قضايا سياسية أو اجتماعية حساسة...
للأسف الشديد والمرير أيضًا فإن الطالب العراقي لدينا سواء أكان في قيد الدراسات الأولية أو العليا غالبًا ما " يختار" تخصصه بناءً على املاءات أو تلقينات أو اختيارات الآخرين له، ونادرًا ما تتاح الفرصة أمامه ليختار هو بنفسه اختيارًا واعيًّا وذاتيًّا!
ما يشغل بال الطالب أو الطالبة لدينا على نحو عام في الدراسة الأولية هو أن يكون داخلا في ضمن المجموعتين الطبيّة أو الهندسية. أمّا في "العليا" فيجب أن يكون الطالب ذا حظ عظيم ليحظى بتخصص يناسب شغفه وميوله، وقدراته.
لا أريد الدخول في سجال أيهم أهم: التخصص الإنساني، وسأضرب صفحًا عن الحقيقة أو الفرضية التي تقول إن المنتمين للعلوم المادية ليس من واردهم تحريك الأفكار العامّة؛ لأنهم غالبا ذوو عقول ميكانيكية بخلاف الأكفاء المتخصصين بالعلوم الإنسانية...
وبقدر ما يتعلق الأمر بمفهوم (الحرية الأكاديمية) فلا يوجد بحسب اطلاعي تعريف واحد متفق عليه من لدن "الجميع" سوى أن الحرية الأكاديمية تساوي من حيث الاعتبار حق الأكاديميين في البحث والتعليم والنقاش من دون خوف رقابة أو تدخل من أحد وبعض "التعريفات" شبه الرسمية ركزت إجمالا على فحوى ما ذُكر آنفا. اليونسكو مثلًا عرّفت الحرية الأكاديمية بالمعنى المتقدم في حين أشار اتحاد الجامعات العالمية (IAU) إلى أنها تشمل حرية التدريس والنقاش والبحث والنشر، مع حماية الحقوق للأفراد والمؤسسات.
وبصفة عامة فإن بعض التعريفات تُركّز أكثر من سواها على حماية الفرد الأكاديمي، وأخرى تُبرز استقلالية المؤسسة الأكاديمية ذاتها، كما أن أبرز تطبيقاتها تشمل حرية البحث والتدريس، والقدرة على اختيار الموضوعات، وكذا المناهج المرغوبة للأكاديميين من حيث دراستها وتدريسها بناءً على اهتماماتهم وخبراتهم العلمية دون تدخل خارجي، وأيضا حرية النشر من دون تعقيدات أو رقابة مسبقة تُنذر سلفا بالعقاب أو الاضطهاد، وتصادر استقلالية الفرد أو المؤسسة.
في العراق: الحرية الأكاديمية موجودة لكنها محدودة، ومن الناحية النظرية فإن الدستور العراقي (مثلاً المادة 36) يكفل حرية الفكر والتعبير، وهناك حديث عام عن دعم حرية البحث العلمي.
لكن من الناحية الواقعية ثمة ضغوط سياسية على بعض الجامعات والأساتذة، خصوصاً إذا تناولت أبحاثهم أو مواقفهم قضايا سياسية أو اجتماعية حساسة. والضغوط الطائفية والعشائرية تلعب أحيانًا " دورًا" سلبيّا مؤثرًا، وفي هذا السياق حدّثني خبير في النظام العشائري العراقي أن إحدى القبائل العراقية في العهد الملكي أجبرت بعض دور النشر على عدم إعادة طبعة كتاب لكاتب أكاديمي تناول ملف عشائر الفرات الأوسط، وكان السبب المباشر في ذلك التصرّف الغريب أن الكاتب نقل آراء موثقة تُعلي من شأن قبيلة معادية لتلك القبيلة !
وفي الوقت الحاضر كثيرة هي الأخبار التي تؤكد تعرّض قسما من الأساتذة أو الباحثين لمضايقات أو تهديدات على خلفية ممارسة حقهم في التعبير...
من نافلة القول التذكير بأن البحث العلمي يفترض أن يكون مبنيًا على حرية اختيار الموضوع وبحسب اهتمام الطالب وميوله الفكرية، وكذلك الفراغ العلمي الذي يرغب أن يملأه هذا الطالب او ذاك، وعندما يُفرض على الطالب العنوان سيفقد الطالب حكما "دوره" بصفته مبدعًا متحولًّا إلى مجرد منفّذ، وكما هو معروف فإن تقييد العناوين يحصر الابتكار في زاوية حرجة؛ لأن الطالب "لن" يستكشف قضايا جديدة أو يطرح أسئلة جريئة، بل سينشغل بإجراءات مفروضة سواء أكان مقتنعًا بها أم لا، وليس بخاف على أحد وجود عناوين لدراسات وبحوث تخدم مصالح سياسية، ودينية، وفئوية، وهو الأمر الذي يصيّر البحث العلمي إلى أداة دعائية أكثر منه بحثًا حقيقياً مستقلاً...
وبطبيعة الحال فحين "يتعود" جيل من الباحثين على العمل تحت الإملاء سوف تضعف شخصيتهم الأكاديمية عاجلا أو آجلا وفي هذا تثبيط لتطور المعرفة، وإعاقتها في أمثل الظروف.
في كثير من الدول المتقدمة يشيع القول بأن رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه تمثّل "تمرينات" في البحث العلمي، وأنّ الجهد البحثي الحقيقي للباحث يتجلّى حين يحصل على لقب "أ.د" لكن الحال لدينا أن الباحث حين يبلغ هذه المرتبة العلمية الرفيعة لا يُطلب منه إنجاز البحوث...
وهناك قضية أخرى تتعلق بالدور أو الأثر الذي يؤديه المشرف في نطاق إجراء البحوث لا سيما في الدراسات العليا: المشرف لدينا يحضر مناقشة الطالب لكنه لا يشارك رسميًا في وضع الدرجة النهائية له فالدرجة تحددها لجنة المناقشة حصرا وهو ليس عضوا فيها.
ولكن في مصر، وعدة دول أخرى عربية وأجنبية يُسهم المشرف عادةً بوضع الدرجة النهائية، بل أحيانًا تكون له الكلمة الفصل داخل لجنة التحكيم، بملاحظة أن المشرف هو الأكثر دراية بجهد الطالب ومستوى تطوره العلمي، ومن هنا فإن من الظلم استبعاده من دائرة التقييم. على أن مشاركة المشرف في التقييم تعزز من احترام دور المشرف الأكاديمي بوصفه جزءًا من العملية العلمية الكاملة، وهذا يُعدّ أقرب للحرية الأكاديمية من حيث استقلالية الجامعة، واحترام علاقة الطالب بمشرفه. أمّا استبعاد المشرف بذريعة ضمان النزاهة الأكاديمية فإنه تخريج واه يسوّغ تقييد حرية التقدير العلمي للمشرف كما يفهمه كثيرون، وما يؤيد هذا الطرح الأخير من التجارب العالمية الناجحة أن المشرف في أمريكا -مثلا- هو عضو أساسي في "لجنة مناقشة الأطروحة" (dissertation committee) وأحيانًا هو -أي المشرف- من يدير جلسة المناقشة نفسها!
اضف تعليق