على غرار الكثير من محاولات التطوير في ميادين مختلفة بطريقة الاستنساخ لتجارب البلاد الأخرى، فان تكرار المحاولة غير المنطقية للتعليم الرقمي عند الآخرين، يعني تكرار فشل آخر وضياع وقت وأموال وجهود ذهنية وعضلية دون طائل، إنما المطلوب تضافر جهود الأسرة مع المدرسة والدولة لتوفير الاجواء المناسبة لتعليم رقمي ناجح للطالب...
التعليم الرقمي عبر الانترنت يمثل مواكبة لعصر السرعة والتنافس المحموم على كسب المعلومة الجديدة خلال أقصر فترة زمنية، لإنتاج علماء، وفي فترة قصيرة ايضاً لخوض المنافسة الاقتصادية عالمياً، وقد نجحت التجربة لدى الشعوب الآسيوية بفضل عوامل نجاح في ذات الانسان الآسيوي مثل الحاجة الى العمل لتوفير العملة الصعبة، وتعويض فقر بلده للثروات الطبيعية مثل النفط والمعادن، مما أوجد عوامل نجاح فرعية مثل سرعة التعلّم والدقة في العمل لكسب الثقة، واحترام الوقت.
وحتى نستفيد من تجارب الآخرين علينا أن لا نقع في مشكلة التنظير والتطبيق عندما نتحدث عن افكار حداثوية للتطوير في واقع له أرضية لا يثمر من هذه الافكار شيء، ويكون كمن يلقي سمكة في غير مياهها فتموت، والتعليم الالكتروني في بلادنا، ومنها؛ العراق، يتطلب توفير الأرضية المناسبة عند الطالب والكادر التدريسي والمحيط التعليمي، وظروف موضوعية اخرى ذات علاقة للخروج بتجربة ناجحة ومثمرة.
مقدمات لابد منها
حتى يتلقى الطالب تعليمه في المراحل كافة، ويتواصل مع المدرس بشكل صحيح وجادّ، لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أمور لها مدخلية بمشروع التعليم برمته في العراق، منها:
1- حالة الانضباط اثناء الدرس بين الطالب والمدرس، فالمعروف في الوقت الحاضر، معاناة المدارس عندنا من تسيّب خطير داخل الصفوف، وعلاقة غير متّزنة بين الاثنين، فالضجيج، والتقاطع في الحديث، والسُخرية، تجعل من مغادرة الصف وجعل التدريس عبر الاثير، حيث يكون الطالب في غرفته الصغيرة ببيته، وكذا الحال بالنسبة للمدرس، أمراً يشبه الموت البطيئ للتعليم! ففي معظم المدارس يبذل الكادر التعليمي جهوداً مُضنية لفرض حالة الجدّ على أجواء الصف دون جدوى في كثير من الاحيان.
إن تخصيص الوقت المحدد خارج البيت لتلقي الدروس يمثل قاعدة رصينة وحضارية لمشروع التعليم، وهذا ينطبق على الطالب كما ينطبق ايضاً على المعلم والمدرس في المدارس والجامعات ليكون للعلم والتعليم حرمته وقيمته.
وإضافة الى كل ما مرّ، فان التعليم عن بعد يهدد المشروع التربوي الرديف للمشروع التعليمي، بالتهميش والتقليل من أهميته، او دوره في مستقبل الطالب، وتثقيفه على محورية العلم وحسب، كما أشرنا الى هذه المسألة بشيء من التفصيل في المقال السابق عن دور الأخلاق في مسيرة التعليم.
2- فقدان التفاعل الحسّي وتبادل المعلومة من خلال الاسئلة بين المدرس والطالب وجهاً لوجه، فمن المعروف اليوم أن المدرس يلقي نظرة على طلابه بعد شرح الدرس ويطلب التفاعل والاجابة على أسئلته، فإنه سيختار من بين الطلاب الذين يرفعون اصابعهم للإجابة، ذلك الطالب المتردد والصامت فيجذبه الى السؤال ويدفعه لمزيد من الانتباه والفهم والتعلم، حتى وإن أخفق في المرة الاولى، فانه سيستعد للمرة الثانية والثالثة حتى لا نجد في الصف الواحد من لا يرفع اصبعه للتفاعل مع المدرس، وهذا ربما لا نجده في التعليم عن بعد.
3- مشكلة الانترنت والطاقة في العراق، وهي المشكلة المستعصية بشكل غريب الى درجة أن تحولت الى واقع مستساغ لا وجود لاحتمال زوال هذه المشكلة، وقد تجرع عدد كبير من الطلاب في فترة الإغلاق التام بسبب جائحة كورونا، من متطلبات مواكبة التعليم عن بُعد مع وجود هذه المشكلة، علاوة على رداءة خدمة الانترنت، فالتقطعات المستمرة، وانقطاع الكهرباء، وعدم وجود جهاز خازن للطاقة (يو بي أس) بسبب تكلفته لدى البعض، تسبب في تخلف كثير من طلبة الجامعة عن المحاضرات.
تضافر الجهود لتحقيق النجاح
حتى لا نكون متشائمين وبعيدين عن فرص التطور في مسيرة التربية والتعليم، فان التفاؤل يكمن في وجود نوايا حقيقية صادقة لدى الاطراف المعنية في مقدمتها؛ الأسرة، ثم المدرسة، ومن مؤسسات الدولة ذات الصلة، مثل؛ الاتصالات في تحسين أداء شبكة الانترنت، و وزارة التربية في جعل المناهج اكثر مرونة وانفتاح على طرائق التدريس واختيار المواد العلمية القابلة للفهم.
وعلى غرار الكثير من محاولات التطوير في ميادين مختلفة بطريقة الاستنساخ لتجارب ونمط حياة البلاد الأخرى، فان تكرار هذه المحاولة غير المنطقية يعني تكرار فشل آخر وضياع وقت وأموال وجهود ذهنية وعضلية دون طائل، إنما المطلوب تضافر جهود الأسرة مع المدرسة والدولة لتوفير الاجواء المناسبة لتعليم رقمي ناجح للطالب.
ففي بلاد مثل الصين فان الطفل الصغير يُلقن فلسفة التعليم بدءاً من الصف الاول الابتدائي وحتى يصل الى الجامعة، وكيف ان العلم يخدمه شخصياً، كما يخدم أسرته وبلده في وقت واحد، فلا أنانية، ولا احتكار، ولا احتيال في الأمر مطلقاً، المهم متركز على العلم فقط، وعندنا في بلادنا الاسلامية، ومنها؛ العراق، يلتقي العلم والمعرفة مع الأخلاق والمفاهيم الانسانية مما يضفي على اجواء التعليم مسحة روحانية ومعنوية جميلة، تتبلور فيها الغايات النهائية للعلم ودوره في الحياة، وايضاً؛ دوره في توطيد العلاقات الاجتماعية، و ردم الفجوة بين افراد المجتمع المتفاوتين في العلم والمعرفة.
والتعليم الرقمي يتيح للطالب حرية الحركة في هذه المسيرة، كما هو شأن الحوزات العلمية التي تدرس العلوم الدينية منذ حوالي ألف عام، فالطالب حُر في اختيار المادة الذي يدرسها، والاستاذ الذي يتعلم على يديه، دون التقيد بالمكان والزمان، إنما المهم المذاكرة والمباحثة للفهم الكامل للمسائل بحيث يكون جاهزاً للإجابة على أي سؤال في محضر العلماء والفقهاء، وكلما كانت درجة استيعابه للعلوم أكثر، وقدرته على الإجابة أكبر، كان أسرع لارتقاء المراقي نحو المراتب العليا.
فهل هذا ممكن ضمن ظروفنا الحالية؛ اجتماعياً، ونفسياً، وإدارياً؟ ربما تكون المسألة نسبية، مع محاولة التجربة على أمل تحقيق النجاح في المستقبل.
اضف تعليق