يمكن للعراق استغلال الدروس المستفادة من الأزمة الصحية الحالية وتحويل هذه الازمة إلى فرصة، وبناء مستقبل أفضل من خلال توفير فرص التعلم لجميع الأطفال العراقيين، وبخاصة الأطفال من الفئات الأشد فقراً والأكثر احتياجاً وبناء نظام تعليمي أكثر إنصافاً وأكثر قدرة على الصمود في مرحلة ما بعد انحسار...
التعليم حق من حقوق الإنسان وهو محركاً قوياً للتنمية المستدامة (الهدف 4) وأحد أقوى أدوات الحد من الفقر وتحسين الصحة والمساواة بين الجنسين، ويتيح التعليم عوائد كبيرة مستمرة من حيث الدخل، وهو أهم عامل لضمان تكافؤ الفرص، فضلاً عن كونه عنصر حاسم لتوفير فرص العمل في القرن الحادي والعشرون.
وتُشير التقديرات إلى إن هناك زيادة في الأجر تصل إلى 9% عن كل عام إضافي من التعليم، وقد حققت الكثير من دول العالم تقدماً هائلاً في هذا المجال من خلال ضخ استثمارات ذكية وفعالة لتعليم الافراد من أجل الحصول على جودة وكفاءة عالية في مجال تقديم الخدمات التعليمية.
والعراق من الدول التي أقرت بأهمية التعليم وصادقت على العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية في هذا الاتجاه، وسن الكثير من القوانين والتشريعات الخاصة بالتعليم، وقد شهد البلد إبان ثمانينيات القرن الماضي تطوراً بارزاً في نظامهُ التعليمي، وكان يتمتع بمكانة مرموقة على الصعيدين العالمي والاقليمي.
وقد نص الدستور العراقي الجديد في المادة (34/أولاً) من الدستور العراقي على إن (التعليم عامل أساس لتقدم المجتمع وحقٌ تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة مكافحة الأمية).
إلا إن عقود من تفاقم الصراعات وعدم الاستقرار الامني والسياسي والحروب وتصاعد وتيرة العنف والارهاب وغياب الاستثمارات أعاقت وبشدة حصول الافراد على التعليم الجيد، وأضعفت سنوات الصراع قدرة الحكومة العراقية على تقديم خدمات تعليمية جيدة للجميع، وأدى العنف والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية إلى تعطيل تقديم الخدمات التعليمية، وتُشير البيانات إلى إن هناك أكثر من 3 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة.
وبحسب آخر البيانات والاحصاءات بلغ عدد دور الحضانة في القطاعين العام والخاص نحو 706 دار كانت الحصة الاكبر منها للقطاع الخاص بنسبة 75% تليها دور الحضانة التابعة لأجهزة الدولة وبنسبة 25%، في حين بلغ عدد رياض الاطفال 1259 روضة في القطاعين الحكومي والخاص كانت الحكومية تُشكل 58.7% والاهلية 41.3% معظمها في المناطق الحضرية وبنسبة بلغت 96.3% مقابل 3.7% في المناطق الريفية، أما عن المدراس الابتدائية فقد بلغت 17945 مدرسة منها 91% حكومية و9% أهلية، وتوجد فيها 176538 شعبة تتوزع على مدارس البنين والبنات، فيما بلغ عدد المدارس الثانوية 8612 تشكل المدارس الحكومية نحو 85% والاهلية نحو 15% فيما بلغت نسبة المدارس الدينية نحو 0.5% وتوجد في مدارس التعليم الثانوي (الصباحي والمسائي) نحو 88823 شعبة موزعة على مدارس البنين والبنات.
وعلى الرغم من الزيادات الملحوظة في عدد الأبنية للمدارس (الابتدائية والثانوية) ودور الحضانة ورياض الأطفال إلا إن هناك فجوات كبيرة جداً، ففيما يتعلق بدور الحضانة وبحسب المعيار التخطيطي المحلي (دار حضانة لكل 5000 نسمة) فإن هناك فجوة تُقدر بنحو 5800 دار حضانة وكذلك بحاجة إلى ما يقارب 1250 روضة، وبالنسبة للمدارس الابتدائية والثانوية وبحسب ما جاء في الوثيقة المستجيبة للتعافي من ازمة Covid-19 فإن العراق يعاني من نقص في اعداد المدرسين بالمدارس الثانوية بعدد يصل إلى نحو 6121 مُدرساً و20528 شعبة ونقص في عدد الأبنية بصورة عامة يُقدر بنحو 6194 بناية في جميع المحافظات، في حين بلغ النقص في أعداد المعلمين للمدارس الابتدائية بنحو 67050 معلم ونقص في عدد الشعب والصفوف بما يقارب 4048 شعبة وصف.
والعراق من الدول التي لا تلبي الحد الأدنى من المعايير الدولية لتمويل التعليم المتفق عليها، والذي دعا الدول إلى تخصيص ما لا يقل عن 15-20% من اجمالي الانفاق على التعليم لتحقيق الهدف الرابع من اهداف التنمية المستدامة.
وبحسب دراسات اليونيسف والبنك الدولي ووفقاً للمعدلات الحالية للالتحاق بالمدارس من المتوقع أن يتمكن الطفل العراقي من إكمال 6.9 سنوات فقط من التعليم المدرسي مقارنةً بـــ 11.3 سنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وإذا ما تم الأخذ بنظر الاعتبار مقدار التعلم الذي يحصل عليه التلميذ فعلياً مُقاساً من خلال الاختبارات المعيارية فإنه يحصل على ما يعادل 4 سنوات دراسية فقط بالمقارنة مع 7.6 سنة لدول المنطقة، ونتيجة لذلك فإن 2.9 من مجموع 6.9 سنة يمضيها الطفل العراقي في المدرسة (أي 40%) تُعد ضائعة ولا تُترجم إلى مهارات إنتاجية يحتاجها عندما يلتحق بصفوف القوى العاملة.
وتخفي هذه المعدلات تفاوتات كبيرة ترتبط بالموقع الجغرافي والحالة الاجتماعية والاقتصادية، في حين تتراوح ساعات التدريس في المدارس التي تعمل بنظام الدوام الواحد او الدوامين بين 543 و634 ساعة في السنة، ويبلغ متوسط وقت التعليم لطلبة المرحلة الابتدائية في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية نحو 794 ساعة سنوياً، وتُفيد الدراسات إلى إن 13% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و4 سنوات يمضون على مسار سليم في اكتساب مهارات القراءة والكتابة.
وحتى قبل جائحة كورونا كان العراق يعاني من أزمة على مستوى تقديم الخدمات التعليمية على المستويات كافة، وكانت نسبة كبيرة تحصل على قدر ضئيل من التعليم وكان العراق يتميز بمعدل مرتفع من فقر التعليم، ومن ثم جاءت جائحة كورونا والتي مثلت تهديداً لملايين الطلاب الذين اضطروا إلى الانقطاع عن دراستهم، ومع بدء إجراءات التباعد الاجتماعي أصيب التعليم بصدمة قوية وأُجبر نحو 10 ملايين طالب وطالبة على البقاء في بيوتهم واللجوء إلى التعليم عن بعد سواءً من خلال استخدام الانترنيت او من خلال استخدام البرامج المخصصة لهذا الغرض.
شكل (1): صدمة التعليم في ظل جائحة كورونا
الشكل من عمل الباحث بالاستناد إلى مصادر متعددة
وتُشير آخر تقارير جودة التعليم (مؤشر دافوس لجودة التعليم) عن خروج العراق خارج التصنيف لعام 2021 والذي ضم 180 دولة.
ويشير تقرير جديد للبنك الدولي (بناء مستقبل أفضل لضمان التعليم لجميع اطفال العراق: مذكرة اصلاح التربية) إلى أنه هناك حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى للاستثمارات في التعليم لاستعادة التعلم المفقود وتحويل أزمة جائحة كورونا إلى فرصة سانحة، إذ يجب أن تكون هذه الاستثمارات مصحوبة بأجندة إصلاح شاملة بحيث تكون نواتج التعلم هي بؤرة تركيز المنظومة التعليمية برمتها كما يجب أن تؤدي إلى بناء نظام تعليمي قادر على الصمود والاستدامة لصالح جميع الأطفال العراقيين.
وفي هذا الإطار، أشار المدير الإقليمي لدائرة المشرق بالبنك الدولي إلى إنه يمكن للعراق استغلال الدروس المستفادة من الأزمة الصحية الحالية وتحويل التعافي إلى فرصة، وبناء مستقبل أفضل لضمان توفير فرص التعلم لجميع الأطفال العراقيين، وبخاصة الأطفال من الفئات الأشد فقراً والأكثر احتياجاً، ومن ناحيته، فإن البنك الدولي على استعداد لدعم العراق في بناء نظام تعليمي أكثر إنصافاً وقدرة على الصمود في مرحلة ما بعد انحسار جائحة كورونا، بحيث يضمن توفير التعلم لجميع الأطفال وتحقيق المكاسب المنتظرة من أجل نمو أسرع وأكثر شمولاً.
ويعكس هذا الضعف في المتحصلات الضئيلة في التعليم المكاسب المتواضعة والتراجع الخطير في مؤشر رأس المال البشري (والذي يمثل 64% من إجمالي الثروة على مستوى العالم)، ويحدد كمياً بمقدار مساهمة الصحة والتعليم في مستوى الإنتاجية المتوقع أن يحققه الجيل القادم من الأيدي العاملة، ووفقاً للمؤشر فإن الطفل المولود اليوم في العراق سوف لن يتمكن من تحقيق أكثر من 41% من انتاجيته كمعدل عندما يبلغ من العمر 18 عاماً مقارنةً بنحو 57% في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهو ما يعكس تراجع حاد في انتاجية الجيل القادم من القوى العاملة، ويمثل مؤشر رأس المال البشري في العراق من بين أدني المعدلات في العالم بل هو الادنى في المنطقة باستثناء اليمن، إذ تبلغ نسبة رأس المال البشري 15% من إجمالي الثروة وهي أدني نسبة في منطقة الشرق الاوسط.
وفي ظل هذه الاوضاع بادر البنك الدولي مع بداية عام 2022 الى إطلاق مشروع دعم التعليم العالي باستثمار مبلغ 5 مليون دولار في هذا القطاع الحيوي وربطه بشكل أكبر بتنمية البلد الى جانب جهود التصدي لتغير المناخ والارتقاء بمهارات العمل لدى الخريجين، وسيعمل المشروع الجديد على تطوير قدرة مؤسسية أكبر في المجالات التخصصية الرئيسة ومطابقة التعليم العالي لسوق العمل من خلال تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الدولية.
وعلى وجه التحديد، سيقوم هذا المشروع بدعم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتطوير مراكز التميز في قطاعين من القطاعات ذات الأولوية، وهما الزراعة والطاقة المتجددة، وتشجيع النُهج المبتكرة للارتقاء بمهارات العمل لدى الخريجين من خلال برنامج تجريبي، إذ ستستفيد منه 10 جامعات حكومية، وسيُخصص أيضاً ما يقرب من نصف مبلغ التمويل المخصص للمشروع لزيادة القدرات والتدريب في مجالي الطاقة الشمسية ومهارات الوظائف المراعية للبيئة.
وتجدر الإشارة إلى أن تمويل مشروع دعم التعليم العالي سيتم في إطار "صندوق الإصلاح والتعافي وإعادة إعمار العراق" الذي تأسس بالشراكة مع حكومة العراق في عام 2018 وبتمويل مشترك من جانب ألمانيا والمملكة المتحدة وكندا والسويد، ويوفر منصة للتمويل والحوار الاستراتيجي للتنمية وإعادة الإعمار، مع التركيز على الإصلاحات المستهدفة والاستثمار العام والخاص في أنشطة التعافي الاجتماعي والاقتصادي، ويسعى الصندوق إلى دعم أجندة تغير المناخ والمساواة بين الجنسين وبناء السلام ومشاركة المواطنين العراقيين(1).
ختاماً، يمكن للعراق استغلال الدروس المستفادة من الأزمة الصحية الحالية وتحويل هذه الازمة إلى فرصة، وبناء مستقبل أفضل من خلال توفير فرص التعلم لجميع الأطفال العراقيين، وبخاصة الأطفال من الفئات الأشد فقراً والأكثر احتياجاً وبناء نظام تعليمي أكثر إنصافاً وأكثر قدرة على الصمود في مرحلة ما بعد انحسار جائحة كورونا، بحيث يضمن توفير التعلم والتعليم لجميع الأطفال وتحقيق المكاسب، وتحسين نظم الحوكمة في قطاع التعليم، ووضع استراتيجية خاصة بقطاع التعليم وتنفيذها، الى جانب مواءمة المهارات مع احتياجات سوق العمل من خلال البرامج والإصلاحات الموجهة.
اضف تعليق