ان دراسة لا تقف عند حدود التأصيل الفقهي، بل تمتد إلى محاولة بناء رؤية عملية يمكن أن تُسهم في تطوير منظومة التمويل الإسلامي داخل العراق وخارجه. فالمصارف الإسلامية، كما تشير الباحثة، ليست مجرد مؤسسات مالية فحسب، بل هي مشروع معرفي واقتصادي يرتكز على إرث فقهي واسع قادر على إنتاج حلول متجددة...

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها القطاع المصرفي الإسلامي، وما يرافقه من توسّع في الأدوات التمويلية وتحديات المواءمة بين المتطلبات الشرعية والضرورات الاقتصادية، برزت الحاجة إلى دراسات علمية قادرة على إعادة قراءة الفكر الفقهي بمنهج معاصر يستجيب لأسئلة الواقع. ومن بين هذه الجهود البحثية ما قدّمته الباحثة مريم موسى عبد الحسين من كلية العلوم الإسلامية في جامعة كربلاء، التي اختارت الخوض في واحد من أكثر الموضوعات تعقيدًا وحيوية، وهو "موارد تمويل المصارف الإسلامية في الفقه الإمامي".

وخلال هذا الحوار، تكشف الباحثة دوافع اختيارها للموضوع، وتتوقف عند التحديات التي تواجه المصارف الإسلامية اليوم في سعيها للالتزام بروح الشريعة لا مجرد تطبيق أحكامها الشكلية. كما توضح الفروق البنيوية بين التمويل الإسلامي والتقليدي، وتناقش قدرة الفقه الإمامي على استيعاب الابتكارات المالية الحديثة، فضلًا عن دور الرقابة الشرعية، وإمكان توظيف موارد كالخمس والوقف والزكاة في تحقيق تنمية اقتصادية متوازنة.

حوارٌ غني بالمفاهيم الدقيقة والرؤى التحليلية، يسلّط الضوء على أهمية إعادة ربط الصيرفة الإسلامية بجذورها الفقهية، وبناء نموذج مصرفي يمتلك القابلية على المنافسة، ويحافظ في الوقت ذاته على العدالة والبعد الأخلاقي الذي ميّز الفقه الإمامي عبر العصور.

ما الذي دفعكِ لاختيار موضوع "موارد تمويل المصارف الإسلامية في الفقه الإمامي" تحديدًا، في ظل تعدد الموضوعات الفقهية الاقتصادية؟

إن انتقاء موضوع “مصادر تمويل البنوك الإسلامية في الفقه الإمامي” جاء استجابةً لضرورة علمية وواقعية عاجلة، تتمحور في لزوم إدراك القواعد الفقهية التي يرتكز عليها الجهاز المصرفي الإسلامي في عصر تتسارع فيه التغيرات الاقتصادية والمصرفية. كما أن كثرة المصادر التمويلية وتنوعها في الفقه الإمامي يفتح مجالًا رحبًا لدراسة متعمقة تربط بين النص الديني والتطبيق المصرفي الحديث، مما ينمي المعرفة ويدعم المقدرة البحثية. وقد حَفَّزني نحو هذا الاختيار قلة الأبحاث التي تناولت موارد التمويل من منظور الإمامية بشكل كلي، بالإضافة إلى الحاجة إلى إبراز بدائل شرعية عملية بعيدة عن الربا المحظور. كما أن أهمية المصارف الإسلامية في دعم التطور الاقتصادي والاجتماعي جعلت بحث مصادرها ومناقشتها أمرًا لازمًا لتقييم وضع المصارف وتطوير طرائق عملها بما يتوافق مع أحكام الشريعة.

كما أن الانتشار الواضح في المجال المصرفي الإسلامي، وما يصحبه من مقتضيات تنظيمية وقانونية، يوجب التعمق في المبادئ الفقهية التي تضبط حركة النقود وتُحدِّد مساراتها المشروعة. ومن هنا برزت الحاجة لمعالجة علمية تجمع بين التأسيس الفقهي والتقييم الاقتصادي، وتُعيد إظهار مقدرة الفقه الإمامي على تقديم خيارات تمويلية جذرية ومؤثرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن قلة الأوراق البحثية التي أولت هذا الجانب اهتمامًا تحليليًا دقيقًا اتسم بالترابط بين النظرية والتطبيق، قوَّت الرغبة لاختيار هذا الموضوع بوصفه مجالًا يفتح مسارات جديدة للتحقيق الفقهي والاقتصادي ويُثري المكتبة الإسلامية.

 كيف ترين العلاقة بين الفقه الإمامي والتطورات المالية المعاصرة؟ وهل يستطيع الفقه مواكبة الابتكارات المصرفية الحديثة؟

تُبرز الصلة بين الفقه الإمامي والمستجدات المالية الحديثة رابطة تناغمية واسعة النطاق، تستند إلى مرونة أسلوب الاستنباط ومقدرته على مجاراة المتغيرات، فالفقه الإمامي يَتَّسم بهيكلية اجتهادية ترتكز على اعتبار العقل كأصل من أصول الاستنباط. مما يمنحه قدرة ملحوظة على استيعاب التغيرات الاقتصادية وصياغة أحكام تلاءم طبيعة التعاملات الباكرة دون المساس بمقاصد الشريعة.

إن المعاملة بين الفقه الإمامي والتطورات المالية المعاصرة تُمثّل رابطة وظيفية تقوم على قدرة الفقه على استيعاب التحولات وتكييفها ضمن الأطر الشرعية. فالفقه الإمامي يتميز بأسلوب استنباطي شامل يقوم على تعدد البراهين الشرعية وتنوع مصادرها، مما يوفّر مجالاً رحباً للتعامل مع الوقائع المالية المستحدثة. وقد أثبتت التجربة أن قواعد الفقه الإمامي كـالاستصحاب، والبراءة، والاحتياط تُشكّل آليات تشريعية نافعة في استخلاص حكم التعاملات المالية المستجدة، بما يضمن اتساقاً بين ثبات النصوص ومرونة العمل. كما أن ما يَتَّسم به الفقه الإمامي من كفاءة على تحليل مقاصد الشريعة وفهم أبعاد المصلحة العامة، يمنحه قابلية عالية لمجاراة المستجدات المصرفية التي تشهدها الأسواق المالية، كـالصيغ التمويلية الجديدة، والهياكل الاستثمارية المتداخلة، والمنتجات المصرفية المتقدمة. ومن هذا المنطلق، يتبيّن أن الفقه الإمامي ليس منعزلاً عن المستجدات الاقتصادية، بل يملك إمكانية دائمة للتفعيل والإحياء، بما يضمن توافق المستجدات المصرفية مع الضوابط الشرعية دون عرقلة لمتطلبات الوضع الاقتصادي. وعليه، فإن الفقه قادر على مواكبة التطور المصرفي بشرط أن تُقرأ النصوص والقواعد الفقهية ضمن منظور علمي ممنهج يدرك مقاصد التشريع وحدود التأويل. يمكن القول إن الابتكار المصرفي الحديث يجد في الفقه الإمامي قاعدة راسخة للتكييف والمواءمة والتطوير المتواصل.

 ما أبرز الفروق الجوهرية بين مصادر التمويل في المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية من وجهة نظر فقهية؟

إن الفروق الجوهرية بين مصادر التمويل في المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية تتعمق عند تحليلها وفق الرؤية الفقهية التي تقوم عليها كل منهما؛ فالمصارف الإسلامية ترتكز على منظومة تشريعية تهدف إلى تحقيق الاستقامة المالية والمشروعية الشرعية، بينما تعتمد المصارف التقليدية على الفائدة الربوية كنموذج أساس في تحصيل الموارد. فالتمويل في المصارف الإسلامية قائم على العقود المباحة مثل المرابحة والمضاربة والمشاركة والسلم والإجارة، وهي عقود تتمتع بضوابط فقهية دقيقة تجعل الربح ناتجًا عن نشاط اقتصادي حقيقي وعن مشاركة في المخاطر. أما المصارف التقليدية فتستند إلى الإقراض بفائدة ثابتة أو متغيرة لا ترتبط بجهد حقيقي أو مخاطرة، بل تقوم على المتاجرة بالمال ذاته، وهو ما يتعارض مع الأسس الشرعية التي تمنع تحقيق الربح دون مقابل أو مخاطرة معتبرة ومن جانب آخر، تعتمد المصارف الإسلامية في مواردها التمويلية على مصادر مشروعة ومرنة، مثل الودائع الاستثمارية، ورأس المال، والوقف، والخُمس في إطار الفقه الإمامي، ما يضفي على التمويل بعدًا اجتماعيًا وتنمويًا، بينما تعتمد المصارف التقليدية على تراكم الفوائد وتحويل المال إلى سلعة، مما يعزل التمويل عن محيطه الإنتاجي. كما أن القواعد الفقهية الحاكمة للمصارف الإسلامية كمنع الغرر، وتحريم الربا، وتحقيق المصلحة، وضرورة ارتباط المعاملة بعين أو منفعة مشروعة تجعل التمويل ملازمًا للنشاط الاقتصادي الحقيقي. في المقابل، لا تراعي المصارف التقليدية هذا الارتباط، إذ تحصّل الأرباح بغض النظر عن النتائج الاقتصادية أو المخاطر. ولذلك فإن الاختلاف بين النظامين ليس شكليًا أو فرعيًا، بل هو اختلاف في المنهج والرؤية والمقصد، بين نظام يقوم على العدالة والمشروعية والاستثمار الحقيقي، وآخر يقوم على الفائدة الربوية والربح المالي الخالص المنفصل عن الإنتاج.

هل تعتقدين أن المصارف الإسلامية اليوم تطبّق فعلاً مبادئ الشريعة كما نصّ عليها الفقه الإمامي، أم أنها تتجه إلى نماذج تجارية أقرب إلى التقليدية؟

يتضح أن المصارف الإسلامية رغم تبنيها للعناوين الشرعية لا تطبق دائمًا مبادئ الشريعة كما نصّ عليها الفقه الإمامي بصورة كاملة ودقيقة. فالفجوة بين التنظير والتطبيق أصبحت واضحة، خاصة مع ميل العديد من المصارف إلى تبني نماذج تمويل تجارية أقرب إلى المصارف التقليدية من حيث آليات الربحية وضبط المخاطر. فقد اكتفت بعض المصارف بتحويل العقود الشرعية إلى قوالب شكلية دون الالتزام بروحها ومقاصدها، فصارت صيغ التمويل أقرب إلى إعادة تغليف للفائدة الربوية بأسلوب قانوني أو تجميلي، لا إلى استثمار حقيقي قائم على المشاركة وتحمل المخاطر.

 وأن الإفراط في استخدام المرابحة وغياب الاعتماد الكافي على صيغ المشاركة والمضاربة يعكس تراجعًا عن جوهر الفقه الإمامي الذي يقوم على ربط العائد بالمخاطرة والإنتاج. وهذا الاتجاه يجعل بعض المصارف الإسلامية أقرب في ممارستها إلى التقليدية منها إلى النموذج الشرعي، رغم وجود الرقابة الشرعية. ومع ذلك، فإن الرقابة نفسها تعاني في بعض المؤسسات من ضعف في الدور أو محدودية التأثير الفعلي على القرارات التمويلية.

وعليه، فإن المصارف الإسلامية بحاجة إلى مراجعة جادة وإعادة مواءمة بين المبادئ الشرعية وممارساتها العملية، حتى لا تتحول إلى نموذج تجاري يحمل الاسم الإسلامي دون الالتزام الحقيقي بالمضامين الفقهية التي بُني عليها هذا النموذج.

تناولتِ في بحثكِ موضوع الربا وتحريمه، برأيكِ ما التحديات العملية التي تواجه المصارف في تطبيق هذا المبدأ في ظل النظام المالي العالمي؟

إن تطبيق مبدأ تحريم الربا في المصارف الإسلامية يواجه تحديات عملية متعددة، تنبع من طبيعة النظام المالي العالمي المُهيمن على الاقتصاد الدولي. 

إن تحريم الربا، رغم وضوحه الشرعي، يواجه تحديات عملية ثقيلة تجعل تطبيقه في الواقع المصرفي العالمي بالغ الصعوبة. فالمنظومة المالية الدولية مبنية بالكامل تقريبًا على الفائدة فالعالم يقوم إلى حد كبير على نظام مصرفي ربوي خالص، ما يجعل المصارف الإسلامية تعمل ضمن بيئة يتداخل فيها الربح بالربا، والتمويل بالإقراض، وتُفرض فيها أدوات مالية وأسعار فائدة دولية تؤثر في حركة رؤوس الأموال. ومن أبرز التحديات تناولت في البحث صعوبة توفير بدائل تمويلية قائمة على المشاركة الحقيقية في ظل ضغط المنافسة، والاعتماد المفرط على صيغ المرابحة التي قد تُفقد النظام الإسلامي جوهره.

كما تواجه المصارف الإسلامية تحديات تتعلق بإدارة المخاطر، إذ إن العقود الشرعية وخاصة المشاركة والمضاربة تتطلب شفافية مالية عالية من العملاء، وهو ما لا يتوافر دائمًا، مما يدفع المصارف للجوء إلى صيغ أقل مخاطرة وإن كانت أقل انسجامًا مع مقاصد الفقه. إضافة إلى ذلك، تُعد التشريعات الدولية والضوابط المحاسبية القائمة على سعر الفائدة تحديًا أمام خلق منظومة بديلة بالكامل، فضلاً عن غياب سوق مالية عالمية متكاملة داعمة للأدوات الإسلامية وأن النظام المالي العالمي يفرض واقعًا صعبًا على المصارف الإسلامية، يجعل الالتزام بتحريم الربا نظريًا سهلًا، لكنه عمليًا يحتاج إلى تطوير أدوات تمويلية مبتكرة، وتعزيز الرقابة الشرعية، وتوفير بيئة تنظيمية تدعم التحول الحقيقي نحو الاستثمار الإنتاجي. وعليه، فإن التحدي ليس مجرد تجنب الفائدة، بل بناء نظام بديل قادر على المنافسة والنمو دون التخلي عن الضوابط الشرعية.

كيف يمكن للمصارف الإسلامية أن توظف موارد مثل الخمس والوقف في تمويل مشاريع تنموية معاصرة دون الإخلال بأحكامها الشرعية؟ 

إن توظيف موارد مثل الخمس والوقف في تمويل مشاريع تنموية معاصرة يتطلب فهمًا دقيقًا لأحكامهما الشرعية وحدود التصرف بهما. فالخمس والوقف من الموارد التي تتمتع بحساسية شرعية عالية، ولا يجوز استخدامها إلا ضمن الإطار الذي حدده الفقه الإمامي. ومع ذلك، يتيح الفقه الإمامي مساحة واسعة لاستثمار هذه الموارد بشرط الالتزام بمقاصدها وأغراضها الأصلية.

فالوقف يمكن توجيهه نحو مشاريع خدمية وتنموية معاصرة، مثل التعليم، والرعاية الصحية، ودعم الفئات الضعيفة، وتمويل المشاريع الإنتاجية ذات النفع العام، بشرط المحافظة على أصل الوقف وصرف ريعه فيما وُقِف له. وهناك إمكانية إنشاء مؤسسات وقفية متخصصة تعمل بإدارة مصرفية احترافية تستثمر أموال الوقف في مجالات مشروعة تحقق عائدًا مستدامًا، دون الإخلال بأركانه وشروط الواقف.

أما الخمس، فاستثماره يخضع لضوابط أدق، ويجب أن يتم تحت إشراف الجهات الشرعية المختصة، حيث يُصرف في مصارفه المحددة شرعًا. إلا أن الفقه الإمامي يتيح توجيه جزء من أموال الخمس لدعم مشاريع تنموية تحقق مصلحة عامة، خاصة تلك المتعلقة بنهضة المجتمع، دعم العلم، نشر المعرفة، وتمكين الفقراء من فرص اقتصادية مستقرة، بشرط موافقة المرجعية الشرعية.

 أن المصارف الإسلامية يمكن أن تلعب دورًا وسيطًا منظمًا في استثمار هذين الموردين من خلال قنوات شرعية واضحة، ونماذج تمويلية آمنة، ورقابة شرعية صارمة، بحيث تضمن أن عملية الاستثمار لا تتعارض مع الأهداف الشرعية لكل من الخمس والوقف. وبذلك يتحقق التكامل بين الالتزام الشرعي والتنمية الاقتصادية دون مخالفة أحكام الفقه الإمامي. 

 ذكرتِ أن التمويل في الفقه الإمامي ذو بعد أخلاقي، فكيف يمكن تفعيل هذا البعد في المؤسسات المصرفية اليوم؟

إن تفعيل البعد الأخلاقي للتمويل في المؤسسات المصرفية وفق الفقه الإمامي يتطلب انتقالًا من مجرد الالتزام الشكلي بالعقود الشرعية إلى تبنّي منظومة قيمية كاملة توجه القرارات المصرفية. فالفقه الإمامي لا ينظر إلى المال بوصفه وسيلة للربح فحسب، بل بوصفه أمانة ومسؤولية اجتماعية، وهو ما يمنح التمويل بُعدًا أخلاقيًا يتجاوز الحسابات التجارية. ويمكن تفعيل هذا البعد عبر جملة من الإجراءات العملية التي تعيد بناء العلاقة بين المصرف والمجتمع على أساس العدالة والشفافية.

أول هذه الإجراءات تعزيز آليات الرقابة الشرعية بحيث لا تكون مجرد جهة رقابية شكلية، بل جهة فاعلة تشارك في تقييم العقود، مراقبة التطبيق، وضبط الانحرافات الأخلاقية قبل القانونية. كما يمكن تفعيل البعد الأخلاقي من خلال اعتماد صيغ التمويل التي تقوم على المشاركة في الربح والخسارة، وليس على ضمان الربحية للمصرف وحده، مما يعزز العدالة ويحقق مبدأ تحمل المسؤولية المشتركة.

وتشير الدراسة كذلك إلى أهمية دمج المسؤولية الاجتماعية في النموذج المصرفي، بحيث تتجه المصارف إلى تقديم منتجات مالية تحقق المنفعة العامة، مثل تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ودعم الفئات الأقل قدرة، وتوجيه جزء من الربح نحو مبادرات مجتمعية. إضافةً إلى ذلك، فإن الشفافية والصدق في عرض المنتجات، وتجنب الغرر، وإيضاح الحقوق والالتزامات للعملاء، كلها تشكل عناصر أخلاقية مركزية أكد عليها الفقه الإمامي.

وعليه، فإن تفعيل البعد الأخلاقي لا يتحقق بالكتابة على الورق، بل عبر إعادة صياغة السياسات المصرفية بما ينسجم مع مبادئ الفقه الإمامي في العدالة، رفع الضرر، حفظ المال، وتحقيق المصلحة العامة حتى يصبح المصرف الإسلامي نموذجًا أخلاقيًا قبل أن يكون نموذجًا مالياً.

 ما الدور الذي يمكن أن تؤديه هيئات الرقابة الشرعية في ضمان التزام المصارف بروح الفقه الإمامي وليس فقط بأحكامه الشكلية؟

إن هيئات الرقابة الشرعية تمتلك دورًا مركزيًا في ضمان التزام المصارف الإسلامية بروح الفقه الإمامي، وهو دور يتجاوز بكثير مجرد التدقيق في نصوص العقود أو الموافقة الشكلية على نماذج التمويل. فالرقابة الشرعية لا يُفترض أن تكون جهة “تصديق”، بل جهة “توجيه وتقويم”، تضمن أن التطبيقات العملية تعكس روح العدالة والمشروعية التي ارتكزت عليها المدرسة الفقهية الإمامية.

 أن هذا الدور يتحقق عبر مراقبة جوهر المعاملات، وليس فقط الصياغات الورقية. فالمعيار ليس أن تحمل المعاملة اسم “مرابحة” أو “مشاركة”، بل أن تُطبق ضمن شروطها الحقيقية دون التفاف أو تحايل. كما أن الهيئة مسؤولة عن منع المؤسسات من الانجراف نحو النماذج التجارية التي تُشبه المصارف التقليدية، مهما كانت مغرية أو مربحة، إذا كانت بعيدة عن مقاصد التمويل الشرعي.

ومن هنا، يجب أن تمتلك هيئة الرقابة الشرعية استقلالًا حقيقيًا عن الإدارة التنفيذية، وأن تكون قراراتها مُلزمة وليس استشارية، حتى تتمكن من التصدي لأي انحراف أو مخالفة. كما أن دورها العلمي يُحتم عليها تقديم توصيات واضحة لتطوير الأدوات التمويلية بما ينسجم مع روح الفقه الإمامي في المشاركة، العدالة، رفع الضرر، ومنع الاستغلال، وليس فقط التحقق من خلو العقود من الربا.

 أن الهيئات الشرعية يمكن أن تكون عنصرًا إصلاحيًا داخل المصرف، من خلال تقييم استراتيجيات التمويل، مراجعة نماذج الربحية، ومراقبة أثر المعاملات على المجتمع، بحيث يصبح المصرف منشأة أخلاقية قبل أن يكون مؤسسة مالية. فإذا قامت الهيئات بدورها الحقيقي، فإن المصارف ستكون أقرب إلى الالتزام بروح الفقه الإمامي ومقاصده، وستبتعد عن الشكلية التي تهدد جوهر التمويل الإسلامي. 

 من خلال دراستكِ، ما الصيغة التمويلية الإسلامية الأكثر فاعلية لتحقيق التوازن بين الربحية والعدالة الاجتماعية؟ 

لصيغة التمويلية الإسلامية الأكثر فاعلية لتحقيق التوازن بين الربحية والعدالة الاجتماعية، بحسب دراستي، هي الصيغ التي تقوم على المشاركة في المخاطر والربح مثل المضاربة والمشاركة في رأس المال. هذه الصيغ تتيح للمصارف المشاركة الفعلية في المشاريع الإنتاجية، مما يربط الربح بالجهد والإنتاجية الفعلية، ويعزز العدالة بين المصرف والمستفيد.

كما أن الاستصناع يُعد من الصيغ الفعالة في تمويل المشاريع الإنتاجية الكبيرة، لأنه يحقق الربح المشروع ويضمن حماية المستهلك والمستثمر معًا. أما المرابحة، فهي مناسبة للتمويل الشخصي أو التجاري، وتحقق ربحية مستقرة للمصارف، لكنها أقل قدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية إلا إذا طُبقت بروح الفقه الإمامي الأخلاقية.

ان التوازن الحقيقي بين الربحية والعدالة الاجتماعية يتحقق من خلال الصيغ التمويلية القائمة على المشاركة والمضاربة والاستصناع، لأنها تدمج بين المنفعة المالية والبعد الأخلاقي والاجتماعي، بما يتوافق مع روح الفقه الإمامي. 

هل يمكن اعتبار المصارف الإسلامية نموذجًا اقتصاديًا قابلًا للتطبيق عالميًا، أم أن خصوصية الفقه الإمامي تجعل التجربة محصورة في الإطار الإسلامي فقط؟

المصارف الإسلامية يمكن اعتبارها نموذجًا اقتصاديًا قابلًا للتطبيق عالميًا من حيث المبادئ الأساسية للتمويل القائم على المشاركة في المخاطر، العدالة في توزيع الأرباح، والبعد الأخلاقي في التعاملات المالية. هذه المبادئ ليست محصورة على الإطار الإسلامي، إذ أن الاقتصاد المعاصر يبحث عن نظم تمويلية تحقق الاستدامة المالية، الشفافية، والعدالة الاجتماعية، وكلها قيم موجودة في الفقه الإمامي.

ومع ذلك، خصوصية الفقه الإمامي تمنح المصارف الإسلامية إطارًا تشريعيًا وأخلاقيًا محددًا، يميزها عن النظم التقليدية، مثل تحريم الربا، والمضاربات المشروعة، والاستصناع، والاستثمار في أنشطة أخلاقية. هذه الخصوصية تجعل التطبيق الكامل للنموذج يتطلب التزامًا بالقيم الشرعية، لكنه لا يمنع الاستفادة من مبادئه

في نظم مالية عالمية مع التكيف مع البيئات غير الإسلامية.

إن المصارف الإسلامية نموذج عالمي من حيث العدالة والمشاركة في المخاطر، لكن إطار الفقه الإمامي يمنحها طابعًا أخلاقيًا وروحًا متكاملة يصعب نسخه حرفيًا خارج السياق الإسلامي دون مراعاة التوافق التشريعي والثقافي.

ما مدى إمكانية دمج الوقف والخمس والزكاة ضمن منظومة واحدة لتمويل المصارف الإسلامية الحديثة؟ 

يمكن اعتبار ضم الأوقاف والخمُس والزكاة في نظام مالي موحد خطوة محورية لتحويل البنوك الإسلامية إلى مؤسسات مالية شاملة أخلاقيًا واجتماعيًا، بدلاً من كونها مجرد كيانات ربحية. كل مصدر من هذه المصادر يمتلك سمات شرعية تجعل تجميعه معًا ممكنًا وناجعًا، بشرط التصميم المؤسسي المُتقن:

1_الأوقاف:

_تُعد رصيدًا دائمًا لا يزول، ويمكن توظيفه في الاستثمارات طويلة الأجل أو المبادرات الخيرية الدائمة.

_من منظور الفقه الإمامي، يحقق الوقف إنجاز واجب مجتمعي مستمر ويتيح للبنك استثمارًا دائمًا دون المساس برأس المال الأساسي، مما يجعله أداة مثالية لدعم المشاريع الإنتاجية والمجتمعية على حد سواء.

2_ الخمُس:

_مصدر شرعي يشمل أرباحًا محددة أو فائضًا ماليًا، يمكن توجيهه إلى الأنشطة التي تخدم المصلحة العامة، كالمشاريع الصغيرة، أو مساندة الفقراء والمحتاجين.

_الخمُس يجمع بين الجانب التجاري والاجتماعي، إذ يمكّن البنوك من استغلال فوائض الأرباح في مشاريع إنتاجية، مع تخصيص جزء منها للجانب الخدمي، طبقًا للتوازن الذي حدده الفقه الإمامي.

3_الزكاة:

_وسيلة لإعادة توزيع الثروات وتحقيق الترابط الاجتماعي، يمكن إدماجها ضمن برامج تمويل المتعاملين ذوي الاحتياجات المادية أو تمويل المشروعات الصغيرة المُنتجة.

_عبر استغلال الزكاة، تستطيع البنوك بلوغ الإنصاف الاجتماعي بصورة مباشرة، مع تقليص التحديات الاجتماعية المتعلقة بالعوز والبطالة.

طريقة التجميع ضمن إطار واحد:

يمكن تأسيس حساب مركزي أو هيئة استثمارية موحدة داخل البنك، تشتمل على الأوقاف والخمُس والزكاة، وتضع مبادئ استثمارية واضحة لكل مصدر، مع الأخذ في الحسبان:

_ديمومة رأس المال (الأوقاف)

_المرونة في توزيع العوائد والزيادات (الخمُس)

_توجيه الموارد المجتمعية بشكل مباشر للمستحقين (الزكاة)

_هذا التوحيد يتيح تحقيق ثلاثة محاور متكاملة:

1_المحور الربحي: من خلال استثمار الأوقاف والخمُس في أنشطة منتجة.

 2_المحور المجتمعي: عبر تخصيص الزكاة والخمُس لدعم الشرائح المستحقة والمبادرات الجماعية.

3_المحور القيمي والشرعي: الامتثال التام للمبادئ الإسلامية كما نص عليها الفقه الإمامي، مما يعزز الموثوقية بين البنك والمحيط الاجتماعي.

ضم الأوقاف والخمُس والزكاة في شبكة تمويلية واحدة ليس مجرد تصور نظري، بل يمثل هيكل عملي متقدم للبنوك الإسلامية المعاصرة، يمكنه أن يحوّلها إلى نموذج مالي دائم يوازن بين الكسب، الإنصاف الاجتماعي، والأمانة المالية، بناءً على رؤية الفقه الإمامي. هذا المنهج يجعل البنوك ليست مجرد وسيط مالي، بل داعم اقتصادي واجتماعي مستدام.

 كيف يمكن تهيئة الكوادر المصرفية لتفهم الأبعاد الفقهية العميقة التي بُنيت عليها فكرة المصرف الإسلامي؟  

تأهيل الركائز البنكية لإدراك الأبعاد الفقهية الجوهرية التي أُسِّس عليها المصرف الإسلامي يتطلب منهجية متعددة المستويات، تجمع بين المعرفة الشرعية، الاستيعاب الاقتصادي، والمنحى القيمي والاجتماعي. هذه المقاربة ليست تدريبًا تقنيًا عاديًا، بل هي عملية تحول معرفي تُمكّن العامل من استيعاب روح الفقه الإمامي وكيفية ترجمتها إلى إجراءات مصرفية قابلة للتطبيق. ويمكن تفصيل ذلك في المحاور الآتية:

 1. التثقيف الفقهي التفكيكي: ينبغي تزويد الركائز بدورات دراسية معمقة حول الفقه المالي الإسلامي، مع التركيز على الركائز مثل: المداينة، الشركة، الاستصناع، الوقف، الخمس والزكاة. هذه الدورات لا تقتصر على الشرح النظري، بل ترتكز على التمحيص النقدي للمفاهيم الفقهية، وبيان حكم كل قاعدة وتأثيرها على توزيع المخاطر، الاستحقاقات والالتزامات المالية، مما يزيد من قدرة الركائز على اتخاذ قرارات تمويلية متوافقة مع الشريعة.

 2. المواءمة بين الفقه والاقتصاد المعاصر: تدريب الموظفين على فحص الصيغ التمويلية الحديثة من منظور شرعي واقتصادي، مثل تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، الصكوك، والتمويل الإلكتروني، لضمان ملاءمتها للمبادئ الشرعية. ودراسة نماذج واقعية ومقارنتها بالمعايير الاقتصادية الحديثة تساعد الركائز على استيعاب سبل دمج الإنصاف الاجتماعي مع الجدوى المستمرة. 

3. التأسيس القيمي والاجتماعي: تدعيم فهم أن المصرف الإسلامي ليس مجرد كيان لتحصيل الأرباح، بل وسيلة لتحقيق التكاتف الاجتماعي والعدالة الاقتصادية، بالاستفادة من جوانب الزكاة والخمس والوقف. وتعليم الركائز كيفية الموازنة بين الغايات الربحية والمسؤولية المجتمعية، بحيث تكون كافة التعاملات التمويلية انعكاسًا للبعد القيمي للفقه الإمامي.

 4. التدريب على الأدوات الشرعية والإشراف: منح الركائز مهارات صياغة العقود الشرعية وتدقيقها، مع التشديد على التوازن بين استحقاقات الأطراف والتزامهم بالواجبات. وإشراك الموظفين في هيئات التدقيق الشرعي بانتظام، لفهم كيفية تطبيق الفقه في حسم القرارات التمويلية، وضمان الالتزام بروح الشريعة وليس بمجرد الشكل الظاهري.

 5. الاستمرار في التعلم والتطور المهني: توفير مسارات تطوير مهني متواصلة تربط بين المعرفة الفقهية، الاستحداث المالي، وإدارة التحديات. ودعم الركائز في متابعة التوجهات الدولية في التمويل الإسلامي، مع تحليل كيفية توافقها مع الفقه الإمامي، لتشكيل قدرات على الابتكار ضمن النطاق الشرعي. الخلاصة الأكاديمية: تأهيل الركائز المصرفية لفهم الفقه الإمامي العميق ليس مجرد نقل للمعلومات، بل هو مسار تعليمي كلي يتطلب دمج: الفحص الفقهي العميق، الربط بالاقتصاد المستحدث، ترسيخ الحس القيمي والاجتماعي ، وتطبيق الإشراف الشرعي بهذه الصيغة، يصبح الموظف محركًا تمويليًا شاملًا، قادرًا على اتخاذ الأحكام بما يحقق الانسجام بين الربحية والإنصاف الاجتماعي والتقيد الشرعي، ويحول المصرف الإسلامي إلى نموذج مؤسسي دائم ومبتكر.

في رأيكِ، ما أبرز الثغرات التشريعية أو الفقهية التي تواجه التمويل الإسلامي اليوم؟ وكيف يمكن معالجتها في ضوء الفقه الإمامي؟

الثغرات التشريعية والشرعية في الصيرفة الإسلامية الحديثة يمكن تصنيفها على مستويات عديدة، ترتبط في جوهرها بالأسس النظرية، التنفيذ العملي، والتعامل مع المحيط الاقتصادي الحديث:

1_ الغموض في الترجمة التطبيقية للفقه الإمامي: العديد من المؤسسات المصرفية تُجري تعاقدات شرعية كـ "المرابحة" أو "الإجارة" بصورة شكلية، مع تركيز على الكسب المؤكد دون مساهمة فعلية في المخاطر أو الإثمار. وهذا التحول عن مبدأ الفقه الإمامي الأصيل يؤدي إلى تمويل مصطنع يقترب من الفائدة المعاصرة، ويقلل من المقدرة على تحقيق الإنصاف الاجتماعي المرجو.

2_كثرة الفتاوى وتفاوت الأطر الشرعية: غياب أسس فقهية موحدة بين اللجان الرقابية الشرعية ينتج عنه عدم استقرار في الأدوات المالية بين البنوك المختلفة، مما يضعف اطمئنان الممولين والمستفيدين. والتباين في فهم النصوص الفقهية للإسلام الحديث، خاصة فيما يخص "المضاربة" و"الاستصناع"، يخلق فراغًا تنظيميًا يُستغل أحيانًا لجني أموال على حساب روح العدالة.

3_ ضعف التناغم بين الكسب والجانب الاجتماعي: أغلب البنوك تنصب اهتمامها على الكسب المباشر وتلتزم بهيئة العقود الشرعية، لكنها لا تستثمر الأموال الشرعية كالزكاة والخمس والوقف لإنجاز أهداف اجتماعية حقيقية. وهذا يحدّ من الدور الشامل للمصرف الإسلامي كأداة لتعزيز التكافل المجتمعي وتحقيق النمو الاقتصادي المتواصل، وهو الهدف الأساسي الذي سعى إليه الفقه الإمامي.

4_ المعضلات المرتبطة بالتجديد المالي والتقني: المستحدثات الجديدة كالتسييل الرقمي، الصكوك المُجَزّأة، وساحات الاستثمار الحديثة تقتضي إعادة تدقيق فقهي عميق لضمان انطباقها مع المفاهيم الإسلامية دون التخلي عن الإنصاف ورضى تقاسم المخاطר.

استراتيجيات التدارك وفق الفقه الإمامي:

1_ التمسك بالتوجه الفقهي لا الشكلانية: إعادة ترسيخ أن جميع الصيغ التمويلية يجب أن تقوم على المساهمة الحقيقية في المكسب والخسارة، بدلاً من مجرد ترتيبات شكلية تضمن مردوداً محدداً، وذلك بغية بلوغ الإنصاف الاقتصادي والاجتماعي.

2_ توحيد المقاييس الشرعية: استحداث هيكل موحَّد على صعيد المصارف الإسلامية الدولية لتطبيق الفقه الإمامي، مع تحديد ضوابط نافذة لكل نمط من العقود، لضمان توافق التشريع المصرفي والتطبيق الفعلي.

3_دمج الشق الاجتماعي والاقتصادي: استغلال الأرصدة كـ الزكاة والخمس والوقف في خطط تمويلية متكاملة، بحيث يحقق المصرف الكسب والعدالة الاجتماعية في آن واحد، وهو التوازن الذي يُميِّز الفقه الإمامي عن الأنظمة المالية التقليدية.

4_ استنباط أدوات متوافقة فقهيًا: تطوير وسائل تمويلية حديثة مُستلهَمة من الفقه الإمامي، مثل تمويل المشاريع الإثمارية الصغرى والكبرى، المنصات الإلكترونية الإسلامية، والصكوك الاستثمارية الرشيدة، لضمان استدامة المردود والمساهمة في المخاطر.

إن الخلل القائم في التمويل الإسلامي ينبع بشكل رئيسي من الاكتفاء الجزئي بالشريعة الظاهرية، تباين الفتاوى، ضعف المزج بين الجانب الاجتماعي والكسبي، وصعوبات التجديد المالي.

معالجتها استناداً على الفقه الإمامي تستوجب إعادة تأسيس العمليات التمويلية على روح المساهمة والإنصاف، توحيد الأطر الشرعية، وتنمية التجديد المالي الأخلاقي، كي يصبح الاستثمار الإسلامي نموذجاً شاملاً وناجحاً عالمياً، قادراً على الجمع بين الكسب، الإنصاف الاجتماعي، والمتانة الأخلاقية.

تحدثتِ عن أن الفقه الإمامي يتمتع بمرونة عالية، فكيف تفسرين هذه المرونة في مواجهة الأدوات المالية الجديدة مثل العملات الرقمية أو التمويل الإلكتروني؟

تظهر مرونة الفقه الإمامي في احتواء الأدوات المالية المعاصرة، كالأموال الرقمية والتمويل الإلكتروني، في قدرته على التأقلم مع المستجدات الاقتصادية والتقنية دون الإخلال بالأسس الشرعية الأساسية. هذه الليونة تنبع من سمات فقهية منهجية تتيح للمصارف الإسلامية استحداث خدمات مبتكرة تتوافق مع الإطار الشرعي. ويمكن إيضاح ذلك كالآتي:

1_ الليونة الاجتهادية: يقوم الفقه الإمامي على التفكير العقلاني المتواصل، مما يمهد لاستنباط أحكام جديدة تتماشى مع أهداف الشريعة (المنافع والمضار). وبناءً عليه، يمكن فحص الأموال الرقمية ومنصات التمويل الإلكتروني من زاوية تحريم الفائدة، درء الغموض، وإرساء الإنصاف في التوزيع المالي، بدلاً من الاكتفاء بالعقود المعيارية الشكلية.

2_ تطبيق القواعد الفقهية على المستحدثات: القواعد المحورية كالمساهمة في الكسب والخسارة، الاستثمار المنتج، وحماية المتعامل يمكن تكييفها لتناسب التعاملات الرقمية أو التمويل الإلكتروني، من خلال تحديد نسب المشاركة إلكترونياً مع تأمين الوضوح والتوثيق.

3_ المرونة الزمانية والمكانية: يأخذ الفقه الإمامي في الحسبان أوضاع الزمن وخصوصيات البيئة الاقتصادية، مما يسمح للمصارف الإسلامية بتوظيف الأدوات الحديثة بشرط الالتزام بالمقاصد الشرعية، وتجنب الانخراط في ممارسات ممنوعة كالفائدة أو المراهنات المحظورة.

4_ التركيز على مقاصد الشريعة: يولي الفقه الإمامي أهمية قصوى لتحقيق المصلحة العامة، مثل دعم التكافل الاجتماعي وتقليص الفقر، مما يتيح استخدام الوسائل الرقمية إذا أسهمت في توسيع نطاق الوصول إلى التمويل وتعزيز الشمول المالي، بما يخدم المجتمع ويحقق العدل الاقتصادي.

مرونة الفقه الإمامي تعكس مقدرة منهجية على الجمع بين الثوابت التشريعية ومتطلبات الزمن الحالي. ومن هذا المنطلق، تستطيع المصارف الإسلامية استيعاب الأموال الرقمية والتمويل الإلكتروني في إطارات فقهية محددة، لتبقى معاملاتها متفقة مع روح الدين، الإنصاف المجتمعي، واستدامة الكسب المشروع، مع المحافظة على القيم الأخلاقية الجوهرية التي تميز الفقه الإمامي عن الأنظمة المالية.

 لو أتيح لكِ تقديم توصية عملية لصناع القرار في البنوك الإسلامية، فما أول خطوة إصلاحية تقترحينها لضمان تمويل شرعي مستدام ومتوازن؟

لو أُتيحت لي الفرصة لتقديم توصية عمليّة لصُنّاع القرار في المصارف الإسلاميّة، فإنّ أوّل خطوة إصلاحيّة استراتيجيّة لضمان تمويل شرعيّ دائم ومتوازن تتمثّل في تأسيس إطار منهجيّ متكامل لتطبيق الفقه الإماميّ على كافة الخدمات والمنتجات التمويليّة، بحيث يضمن هذا الإطار الالتزام بالمقاصد الشرعيّة وتحقيق الإنصاف الاقتصادي والاجتماعي.

مكوّنات هذا الإطار المنهجيّ:

1_توحيد المعايير الفقهيّة والحوكمة الشرعيّة:

_تطوير دليل إجرائيّ موحّد يوضّح كيفيّة تطبيق جميع العقود التمويليّة (مضاربة، مشاركة، استصناع، مرابحة، إجارة) بما يعكس روح الفقه الإماميّ، مع التركيز على الربح المرتبط بالمخاطر الفعليّة والمنشآت الإنتاجيّة وليس مجرّد تحقيق الكسب الظاهريّ.

_إنشاء هيكل إشرافيّ مستقلّ يراجع كلّ المنتجات الماليّة ويضمن التطابق بين التطبيق الفعليّ والنصوص الشرعيّة، بما يعزّز الثقة في المؤسّسات الماليّة الإسلاميّة.

2_ دمج البعد الاجتماعيّ والاقتصاديّ في لبّ العمليّات التمويليّة:

_توجيه الموارد الشرعيّة كـالزكاة، والخمس، والوقف ضمن استراتيجيّات تمويليّة متكاملة، بحيث تساهم في دعم المشاريع الإنتاجيّة، وتمكين الصغار من المستثمرين، وتعزيز العدالة الاجتماعيّة.

_اعتماد مؤشّرات أداء اجتماعيّة وماليّة متناسبة، لضمان أنّ تكون الأرباح متوافقة مع الأثر الاجتماعيّ الإيجابيّ.

3_ تنمية الكوادر المصرفيّة وتعزيز الابتكار الشرعيّ:

_تأهيل الموظّفين على الأبعاد الفقهيّة المعمّقة للتمويل الإسلاميّ، مع دمج مهارات الابتكار الماليّ الرقميّ، بما يتيح تصميم منتجات مستحدثة متوافقة شرعًا.

_تعزيز ثقافة الوضوح، المساءلة، والالتزام الأخلاقيّ لضمان دوام العمليّات الماليّة ومواءمتها مع غايات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

أوّل خطوة إصلاحيّة ناجعة تتمثّل في ترسيخ تطبيق الفقه الإماميّ بصورة منهجيّة وشاملة في جميع ميادين العمل المصرفيّ، مع دمج البعد الاجتماعيّ والأخلاقيّ وتطوير الكوادر المصرفيّة للابتكار ضمن الإطار الشرعيّ. هذه الخطوة لا تضمن فقط استدامة التمويل الإسلاميّ، بل تحوّل المصارف إلى أدوات اقتصاديّة واجتماعيّة متوازنة تحقق الإنصاف، الربحيّة، والاستمراريّة الأخلاقيّة في آن واحد.

وبين ثنايا هذا الحوار يتضح أن دراسة لا تقف عند حدود التأصيل الفقهي، بل تمتد إلى محاولة بناء رؤية عملية يمكن أن تُسهم في تطوير منظومة التمويل الإسلامي داخل العراق وخارجه. فالمصارف الإسلامية، كما تشير الباحثة، ليست مجرد مؤسسات مالية فحسب، بل هي مشروع معرفي واقتصادي يرتكز على إرث فقهي واسع قادر على إنتاج حلول متجددة إذا ما أُحسن استثماره.

وبذلك، تضع هذه الدراسة لبنة إضافية في مسار فهم أعمق للعلاقة بين الفقه الإمامي ومتطلبات العمل المصرفي، مؤكدة أن البحث العلمي ما يزال الطريق الأكثر أمانًا نحو نظام مالي أكثر انسجامًا مع القيم، وأكثر قدرة على خدمة الإنسان والمجتمع.

وفي الختام، نتقدم بالشكر الجزيل للباحثة مريم موسى عبد الحسين على إتاحة وقتها ومشاركة رؤاها القيمة في هذا الحوار، الذي أضاف بعدًا علميًا مهمًا لفهم التمويل الإسلامي وفق الفقه الإمامي.

اضف تعليق