وهذه الآليات التي يسير بها نظام الحكم في العراق هي التي جعلت من الأغلبية ان تعزف عن المشاركة في الانتخابات، لان مهما كان حضورهم وعدده، فان الوجوه هي التي تفوز او يتم تدويرها، مع ان أوجه الاتهام بارتكاب الفساد بمجمله يوجه الى هذه الطبقة التي ظهرت بعد الممارسة الانتخابية...

ونحن نعيش أجواء انتخابية ومناخ انتخابي متقلب بين المرشح الذي يقدم برنامجه على أساس تقديم الخدمة وبين الذي يوعد بالتوسط للجمهور للنيل حقوقه في التعيين والتعليم والخدمات وغيرها من الشعارات التي لا يمكن ان تسمى برامج انتخابية مطلقاً، حتى ان بعضهم اختزل برنامجه بالتحفيز الطائفي او القبلي وغيرها من الشعارات الجوفاء التي لا تمثل في حقيقتها عنوانها، وانما هي وسيلة للكلام والحديث مع الجمهور فقط، لان من يتكلم بها لا يؤمن بها، وانما هدفه الوصول الى المقعد النيابي للحصول على وجاهة المنصب ومنافعه.

 وهذا ما ثبت لنا من خلال الدورات الانتخابية السابقة، حتى أصبح من ينال منصباً ينتقل وبقدرة قادر من خط الفقر او ادنى منه الى طبقة الأثرياء، وفي عرض تلفزيوني أشار احدهم الى انه كان في ضلالة عندما شارك في احتجاجات تشرين ونال المقعد النيابي باسم ضحايا تشرين، لانه ذاق طعم الوجاهة والثروة التي حلت عليه دون ادنى عناء او جهد.

وفي الوقت ذاته نجد فئات واسعة من الجمهور الانتخابي تقاطع العملية الانتخابية، ليس في هذه الدورة فحسب بل حتى السابقة، باستثناء الدورة الأولى وكذلك انتخابات الجمعية الوطنية والاستفتاء على الدستور، حيث تزاحمت الجموع للمشاركة، لإنها كانت تعتقد وتظن ان من سيمثلها هو فعلاً من يجسد الديمقراطية التي وصف بها نظام الحكم في العراق وعلى وفق ما ورد في ديباجة الدستور والمادة (1) منه التي جاء فيها (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق) ويتم تداول السلطة فيه بالوسائل الديمقراطية وعلى وفق ما ورد في المادة (6) من الدستور التي جاء فيها (يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور).

لكن تجارب الدورات الأربع السابقة أعطت نتائج على خلاف ما كان يتمناه المواطن، وهذا ما جعل نسبة المشاركة بالانتخابات تتدنى الى أدنى مستويات المشاركة فيها، حتى ان بعض التيارات السياسية ومنهم التيار الصدري اعلن وعلى لسان قائده السيد مقتدى الصدر الى مقاطعة الانتخابات، بعد ان انسحب المشاركة في الدورة النيابية السابقة.

وخلال هذا التجاذب بين المقاطع وبين الساعي الى المشاركة، تظهر تبريرات لكليهما، ومنها ما يدعو اليه فريق المشاركة بان الانتخابات صورة من صور التداول السلمي ووجه من أوجه الديمقراطية، مع ان الدستور لم يطلب ان يكون التداول سلمي فقط، بل يجب ان يكون ديمقراطي على وفق احكام المادة (6) من الدستور التي جاء فيها (يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور)، والمقاطع يعلن أسباب مقاطعته لانتشار الفساد في السلطة والمشاركة تعني المساهمة فيه.

لذلك يزعم البعض ان الشعب او المجتمع العراقي لا يرغب بالديمقراطية، لأنه ما زال تحت تأثير أنماط السلطة الديكتاتورية، وبحاجة الى سنوات إضافية أخرى حتى يتقبل فكرة الديمقراطية، بل بعضهم يمرر شعارات وأقوال تثبط عزيمة الشعب بالممارسة الديمقراطية عندما ينعتونه بانه من العبيد الذي يرفضون الحرية والديمقراطية حتى لو امطرتها السماء لسعوا الى الاتقاء منها بمظلة سيدهم الذي يسوسهم.

وارى ان هذه النظرة تجاه الشعب العراقي تجافي الحقيقة، لأنه شعب واعي ويملك مقومات الأمم المتحضرة، ولديه دستور يكاد يكون الأفضل من حيث الإقرار بحقوق الشعب وحماية الانسان من الظلم.

لكن الخلل يكمن في الاليات المتبعة لانتقال السلطات الثلاث التي يتكون منها نظام الحكم في العراق التي وردت في المادة (47) من الدستور التي جاء فيها (تتكون السلطات الاتحادية من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على اساس مبدأ الفصل بين السلطات).

حيث نجد ان احدى السلطات وهي السلطة القضائية، قوانينها لا تسمح بالانتخاب لشغل المناصب الإدارية فيها، بل جعلت من المناصب موقعاً مؤبداُ لمن يشغلها، اما السلطة التشريعية فان قانون الانتخابات والأنظمة التي تعالجها، هي التي حالت دون ان تتم عملية تداول السلطة بالوجه الديمقراطي الدستوري.

حيث ان المواطن ليس له الا ان يرشح شخصاً واحداً فقط، وصوت هذا الناخب يحسب للقائمة أولاً ومن ثم يحسب للمرشح، بينما من يمثل المحافظة مثل بغداد اكثر من ستين نائباً، كما ان هذه الالية لم تمكن المواطن من اختيار الفريق النيابي الذي يمثل محافظته ويمثله في مجلس النواب، حيث المفروض ان يمنح هذا الناخب فرصة اختيار نصف عدد المقاعد المخصصة لمحافظته (الدائرة الانتخابية) على الأقل من اجل ان يضمن المواطن ان من نال ثقة اغلبية الناخبين من المحافظة هو الأفضل.

وكان العديد من المختصين بالشأن الانتخابي طرحوا هذه الفكرة الا انها تجابه بتبرير سقيم لا يقوى على مواجهة الحجة الدستورية، حيث يبرر المنتفعين من هذه الالية الانتخابية (سانت ليغو) بان فتح الباب للناخب باختيار نصف عدد المقاعد لدائرته الانتخابية، سوف يؤخر عملية العد والفرز، وهذا العذر غير مقبول لان أي عملية انتخابية سابقة، كان العد والفرز فيها يتأخر لأشهر، فلا ضير ان تأخرت لشهرٍ اخر مع الفوائد التي سوف يجنيها الناخب.

بينما البعض الاخر يطرح تبرير اكثر سقماً من سابقه، حيث يقول بان مجلس النواب لن يتمكن من اختيار الجهة التي ترشح رئيس مجلس الوزراء، لان المادة (76) من الدستور تشترط في يمن يرشح رئيس مجلس الوزراء هم النواب الذين يشكلون الكتلة النيابية الأكثر عدداً، وعلى وفق النص الآتي (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية).

والرد على هذا القول هو ايسر من غيره، لان النص الدستوري لم يذكر القوائم الفائزة، وانما الكتلة التي تتشكل من المرشحين الفائزين بعد أداء اليمين الدستورية، وهؤلاء هم الذين يتكتلون بعنوان الكتلة الأكبر من حيث العدد وهذه تتشكل ويعلن عنها في الجلسة الأولى، وعلى وفق ما فسرته المحكمة الاتحادية العليا في قرارها التفسيري العدد 25/اتحادية/2010 في 25/3/2010 الى وجوب تحديد الكتلة النيابية الأكثر عددا في الجلسة الأولى، حيث ورد في نهاية القرار الملمع عنه العبارة الآتية (تكليف مرشح الكتلة النيابية التي أصبحت مقاعدها النيابية في الجلسة الأولى لمجلس النواب أكثر عدداً من الكتلة أو الكتل الأخرى).

لذلك ان اختيار الناخب لأكثر من مرشح بما يعادل نصف عدد المقاعد المخصصة لدائرته الانتخابية، سوف لن يؤثر على تطبيق المادة (76) من الدستور، لان أصحاب المشتركات هم من يتكتلون مع بعضهم ويعلنون عن انفسهم بانهم الكتلة النيابية الأكثر عدداً، ومما لابد من ذكره، بان الالية الحالية (سانت ليغو) لن تمنع من تسرب الفائزين مع قوائمهم الى قوائم أخرى وتشكيل كتل نيابية جديدة، مما دعا المهيمن على مجلس النواب الى حماية مصالحه بتعديل قانون الانتخابات ومنع انتقال أي نائب من كتلته الا بعد تشكيل الحكومة وعلى وفق احكام المادة (19) من قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات رقم 4 لسنة 2023 التي جاء فيها (ولا : لا يحق لأي نائب أو عضو مجلس محافظة أو حزب او كتلة مسجلة ضمن قائمة مفتوحة فائزة بالانتخابات الانتقال إلى ائتلاف أو حزب أو كتلة أو قائمة أخرى إلا بعد تشكيل الحكومة أو انتخاب المحافظ ونائبيه بعد الانتخابات مباشرة، دون أن يخل ذلك بحق القوائم المفتوحة أو المنفردة المسجلة قبل إجراء الانتخابات من الائتلاف مع قوائم أخرى بعد إجراء الانتخابات).

وهذه الآليات التي يسير بها نظام الحكم في العراق هي التي جعلت من الأغلبية ان تعزف عن المشاركة في الانتخابات، لان مهما كان حضورهم وعدده، فان الوجوه هي التي تفوز او يتم تدويرها، مع ان أوجه الاتهام بارتكاب الفساد بمجمله يوجه الى هذه الطبقة التي ظهرت بعد الممارسة الانتخابية الأولى وما يليها، فضلا عن التخادم بين هؤلاء عبر مناصبهم السيادية في هرم السلطة، حيث لا يستطيع صوت المواطن ان يغير متهما بالفساد او محكوما بجرائم نهب المال العام، لان هؤلاء هم من يشرع القانون، وهم من يعين الأشخاص في مناصبهم، واقرب مثل قائمة السفراء، وكيف اعتلى صوت الشعب المعارض، لكن دون جدوى، حتى ان اللجوء الى القضاء الدستوري لم ينفع في ضمان احتجاجهم الدستوري، او الغضبة الجماهيرية التي واجه بها الشعب اتفاقية خور عبدالله، وكيف تكاتف أصحاب السلطة بالوقوف ضد إرادة الشعب، ولم يعنيهم امر حلفائهم ومن ناصرهم واعانهم على حماية مصالحهم، عندما حاول الميل نحو الإرادة الشعبية، حيث كان خلعه اهون من خلع القفطان.

هذه هي أسباب المقاطعة والعزوف، ولا علاقة لها باي بعد اثني او طائفي او عرقي مثلما يحاول البعض تسويقه للحصول على المغانم النفعية، مع ان المرجعيات الدينية ومنها مرجعية سماحة اية الله العظمى السيد السيستاني (حفظه الله ورعاه) كان قد أشار الى ان الحق في المشاركة هو الأصل على ان يتم اختيار الأفضل والأكثر استقامة ونزاهة، فاذا انعدمت الوسيلة لتحقيق هذا الغرض، فان عدم المشاركة هي الحل.

وفي الختام اكرر ما كنت قد كتبته سابقا ونادى به الكثير من المختصين في الشأن الانتخابي، بان حجز الزاوية في الإصلاح هو قانون انتخابات يوفر الضمانة لاختيار من يرغب فيه الشعب لا من يرضى عنه صاحب المال والسلطة، وان يتم اصلاح التشريعات الناظمة لأشغال المناصب العليا في السلطات الثلاث عبر فتح باب التداول لأشغالها، حتى لا يظهر لنا ديكتاتور، كان الدستور قد سعى الى منع وصوله الى مقاليد الحكم.

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق