الإنفاق الهائل اللازم لتركيب توربينات الرياح وتصنيع السيارات الكهربائية وإزالة الكربون من انتاج الصلب أو المواد الكيميائية وصنع مضخات حرارية مكان تسخين الغاز، ستخلق حلقة مفيدة. لكن أكثر من خبير ينظرون بتشكيك إلى سيناريو عصر ذهبي جديد مدفوع بانتقال الطاقة والصناعات الخضراء. سيستنزف هذا التحول مليارات اليورو...
تحدث المستشار الألماني أولاف شولتس عن تحول صناعي تقوده بلاده بأقصى سرعة عندما زار مصنعًا لأشباه الموصلات أو آخر للسيارات الكهربائية، غير أن رؤساء الشركات والخبراء يحذرون من أن أوقاتاً صعبة تنتظر أكبر اقتصاد في أوروبا.
بعد أن شهد ركوداً هذا الشتاء، من المتوقع أن ينهي الاقتصاد الألماني العام في المنطقة الحمراء، لتلتحق البلاد بدول منطقة اليورو.
وكشفت أرقام رسمية أن الاقتصاد الألماني دخل في حالة انكماش تقني، أي على امتداد فصلين متتاليين من التراجع في إجمالي الناتج المحلي الذي بلغ نسبة 0,3% في الربع الأول من العام 2023، بعد أن سجل انخفاضا أيضا بنسبة 0,5% بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 2022.
وإذ تتوقع الحكومة وحدها نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، إلا أن المعاهد الاقتصادية الرئيسية وصندوق النقد الدولي يقدرون تسجيل تراجع يتراوح ما بين 0,2 و 0,4 بالمئة.
يؤثر التضخم وارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ الانتعاش في الصين وأسعار الطاقة على النشاط.
لكن العاقبة ستكون أسوأ على ما حذر هذا الأسبوع رئيس اتحاد قطاع الصناعات الألماني، سيغفريد روسورم بقوله "نرى ان البلاد في الوقت الراهن تواجه جبلًا من التحديات المتزايدة".
وقال في المؤتمر السنوي للاتحاد الذي يجمع النخبة السياسية والاقتصادية في ألمانيا إن "المزيد من الشركات، حتى الصغيرة والمتوسطة، تفكر في نقل جزء من استثماراتها إلى خارج ألمانيا".
هذا وعادت إلى الظهور في الاعلام صور تقدم ألمانيا على أنها "رجل أوروبا المريض"، في إشارة إلى الفترة الممتدة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تم وصف البلاد بهذا المسمى بسبب افتقارها إلى القدرة التنافسية وارتفاع معدلات البطالة.
لكن شولتس الذي وصل إلى السلطة في نهاية عام 2021، يفضل الإشارة إلى فترة أخرى في التاريخ الحديث.
في مقابلة أجراها في آذار/مارس، قال إنه مقتنع بأن التحول المطلوب لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2045 سيسمح لألمانيا "باستعادة معدلات النمو لفترة من الزمن كما كانت في الخمسينيات والستينيات" اي في زمن "المعجزة الاقتصادية" لهذا البلد الذي كان في طور إعادة الاعمار.
معجزة جديدة
يرى الزعيم الاشتراكي الديموقراطي أن الإنفاق الهائل اللازم لتركيب توربينات الرياح وتصنيع السيارات الكهربائية وإزالة الكربون من انتاج الصلب أو المواد الكيميائية وصنع مضخات حرارية مكان تسخين الغاز، ستخلق حلقة مفيدة.
لكن أكثر من خبير ينظرون بتشكيك إلى سيناريو عصر ذهبي جديد مدفوع بانتقال الطاقة والصناعات الخضراء.
ففي المقام الأول، سيستنزف هذا التحول مليارات اليورو "لاستبدال مخزون موجود من رأس المال" - الحراري بالكهرباء والكربون والاستعاضة عنه بمصادر الطاقة المتجددة "مع تكاليف أعلى بكثير"، وفقاً لما قاله روسورم هذا الأسبوع.
وأشار إلى أن "ذلك لن يجلب لنا نموًا اقتصاديًا إضافيًا في البداية".
من جانبه، اوضح تيمو وولميرشاوسر، مدير معهد إيفو الاقتصادي، للصحافيين هذا الأسبوع "لن نجني ثمار هذا التحول سوى في المستقبل البعيد، عندما ننجح بالفعل في الحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. على المدى القصير، سيستهلك ذلك الموارد ... وسيؤدي في البداية إلى إبطاء عملنا".
تنتظر ألمانيا سنوات من النمو البطيء وزيادات سنوية في الناتج المحلي الإجمالي تقل عن 1 بالمئة، بحسب توقعات المعاهد الاقتصادية الرئيسية في البلاد.
قال مارسيل فراتزشر، مدير معهد DIW للابحاث الاقتصادية "سيكون النمو أقل بكثير خلال هذا العقد مما كان عليه في 2010، المرتبط بازدهار البلاد".
غير جذابة
بالإضافة إلى مشروع تحويل الطاقة، هناك نقاط ضعف هيكلية تعيق الأداء الاقتصادي: بطء الاجراءات البيروقراطية وتأخيرات في التحديث الرقمي، وقبل كل شيء الشيخوخة الديموغرافية التي تؤدي إلى نقص العمالة التي تعاني منها الشركات بالفعل.
حذر تيمو وولميرشاوسر من أنه "إذا انخفض عدد السكان لفترة طويلة، فلن يتمكن الناتج المحلي الإجمالي أيضًا من النمو في نهاية المطاف".
مع نموذج اقتصادي يعتمد بشكل كبير على النشاط الصناعي الذي يمثل أكثر من 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ستعاني البلاد أيضًا من أسعار الطاقة المحكومة بالارتفاع بشكل دائم، حتى لو هدأت بعد أن بلغت مستويات قياسية على خلفية الحرب في أوكرانيا.
لطالما كانت روسيا المورد الرئيسي للغاز في البلاد التي كانت تستورده بأسعار مهاودة.
خلال مؤتمر الصناعة، أكدت إنغبورغ نيومان، رئيسة اتحاد شركات النسيج الألمانية، أنه نظراً إلى "تكلفة الطاقة ونقص اليد العاملة الماهرة والبيروقراطية: بالنسبة لنا، الإنتاج في ألمانيا لم يعد جذابًا".
أكبر اقتصاد أوروبي يدخل في حالة ركود
وفق البيانات المعدلة للمكتب الوطني للإحصاء (ديستاتيس)، فقد انخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 0,3% بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 2023، بعد تراجعه أيضا بنسبة 0,5% بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 2022.
وخلال عام تراجع المؤشر بنسبة 0,5%.
وعلى خلفية ذلك دخلت البلاد في انكماش تقني أي فصلين متتاليين من التراجع. وهذه سابقة منذ وباء كوفيد-19 الذي تسبب في تراجع إجمالي الناتج المحلي في الربعين الأول والثاني من 2020.
وتكشف الأرقام الجديدة خفضا في توقعات مكتب الإحصاء السابقة التي نشرت في نهاية نيسان/أبريل، وتحدثت عن جمود في النشاط الاقتصادي (0,0%).
وبدا الاقتصاد الألماني أكثر متانة مما كان متوقعا في بداية العام مع الآثار التي تم احتواؤها لأزمة الطاقة، بفضل مساعدات هائلة واستخدام الغاز المسال بشكل متزايد وبدء انخفاض أسعار الغاز.
لكن التضخم الذي ما زال كبيرا جدا ويبلغ 7% أدى في نهاية المطاف إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي الخاص والعام بشكل كبير، مما أثر على هذه الدينامية.
وبدأت قرارات رفع معدلات الفائدة التي اتخذها البنك المركزي الأوروبي التأثير على النشاط من خلال تقليص الطلب.
تباطؤ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو
وفي سياق متصل تباطأ نمو القطاع الخاص في منطقة اليورو بشكل حاد في حزيران/يونيو، مع انخفاضه إلى مستوى قريب من الصفر متأثرا بالصعوبات التي يواجهها قطاع الصناعة وفقا لمؤشر "بي إم آي فلاش" الصادر الجمعة عن "إس أند بي غلوبل".
وانخفض مؤشر مديري الشراء المحتسب على أساس استطلاعات شركات، إلى 50,3 في حزيران/يونيو، بعدما كان 52,8 في أيار/مايو، وهو أدنى مستوى في خمسة أشهر "ما يشير إلى تباطؤ حاد للنمو الاقتصادي في المنطقة" على ما أوضحت "ستاندرد أند بورز" في بيان.
ويشير رقم أعلى من 50 إلى نمو في النشاط، فيما يشير رقم أدنى من ذلك إلى تراجع.
وسجّلت فرنسا أضعف أداء في منطقة اليورو في حزيران/يونيو مع تراجع النشاط في قطاعي التصنيع والخدمات، وهو أكبر انخفاض ملحوظ منذ شباط/فبراير 2021.
في المقابل، بعد ثلاثة أشهر من الارتفاع القوي، بقي النمو في ألمانيا جامدا.
وأضافت "ستاندرد أند بورز" أن المسح يكشف "عودة ظروف اقتصادية سيئة" في أوروبا "بعد انتعاش قصير للاقتصاد لوحظ في الأشهر الأخيرة".
وقالت المجموعة إن المخاوف بين الشركات في منطقة العملة الموحدة آخذة في الارتفاع.
وأضافت "شهد حزيران/يونيو زيادة في المخاوف بشأن نمو الطلب، خصوصا تأثير ارتفاع أسعار الفائدة، وما ينتج عن ذلك من احتمالات حدوث ركود في كل من الأسواق المحلية وغيرها".
إلا أن هناك شيئا إيجابيا في هذا المشهد القاتم وهو "تباطؤ ملحوظ في الضغوط التضخمية" وفق "ستاندرد أند بورز".
لكنّ اقتصاديين قالوا إن بيانات مؤشر مديري الشراء لن تجعل البنك المركزي الأوروبي يعيد النظر في رفع أسعار الفائدة.
اضف تعليق