ليس معروفاً إذا كان ساتوشي ناكاموتو، فرداً أو مجموعة، إنما الأكيد أن حلمه بإنشاء شكل جديد من المال والتحويلات خارج سيطرة الحكومات والمصارف، تحقق. فابتكر أول عملة رقميّة مشفّرة وسمّيت «بتكوين». كانت تقنية ثورية لأنها خلقت للناس أموالاً يمكن تحويلها بلا الوسيط التقليدي، وقد استندت إلى تقنية مذهلة تسمّى بلوكتشاين...
ليس معروفاً إذا كان ساتوشي ناكاموتو، فرداً أو مجموعة، إنما الأكيد أن حلمه بإنشاء شكل جديد من المال والتحويلات خارج سيطرة الحكومات والمصارف، تحقق. فابتكر أول عملة رقميّة مشفّرة وسمّيت «بتكوين». كانت تقنية ثورية لأنها خلقت للناس أموالاً يمكن تحويلها بلا الوسيط التقليدي، وقد استندت إلى تقنية مذهلة تسمّى «بلوكتشاين» التي لا يستطيع أحد أن يتحكّم فيها. أما آلية إصدار هذه العملة الرقمية، فتسمّى تعدين. أول إصدار من بلوكات سلسلة «بلوكتشاين» أنجز في 3 كانون الثاني 2009 وأنتج 50 «بتكوين»، وجرى تضمينه مقالاً من «نيويورك تايمز» يتحدّث عن الأزمة المالية العالمية.
لم يكن هناك تداول لهذه العملة الرقمية. بدا لفترة كأنه لم يفهمها أحد، ولم تكن ترتبط بسعر صرف تجاه الدولار ولا تجاه أي عملة أخرى. ففي نيسان من عام 2010، كانت قيمة الـ«بتكوين» الواحدة تساوي 13 سنتاً. وكان انتشارها بطيئاً أيضاً. فبحلول مطلع تشرين الثاني من السنة نفسها، ارتفع سعرها إلى 36 سنتاً، ثم استقرّت في نهاية السنة عند 29 سنتاً. وفي عام 2011، بدأت هذه العملة تكتسب قوّة دفع لتزداد قيمتها إلى 1.06 دولار. مروحة التعرّف إلى هذه العملة «الثورية»، وفوائدها، بدأت تتّسع توازياً مع ارتفاع قيمتها. لكن المسار التصاعدي لم يدم طويلاً، إذ انخفض سعرها إلى 4.77 دولارات بحلول أيلول 2011 بعدما كانت 8,9. وبعد أقلّ من شهر، ظهرت عملة مشفّرة جديدة اسمها «Litecoin». وفي العام التالي أطلقت عملة ثالثة كان اسمها «Ripple» واشتهرت بـ«OpenCoin».
أثارت هذه العملات نقاشاً واسعاً حول حقيقة كونها عملة. فهل هي وسيط للتبادل؟ هل هي تحفظ القيمة؟ هل هي مستقرّة؟
رغم الشكوك الواسعة بهذه العملات والمبنية على حقيقة أنها لا تعكس إنتاجاً اقتصادياً، وأنها ليست مبنية على أصول فعلية، بمقدار ما تستند إلى آلية عملة قد يستحيل التحكّم فيها، إلا أن هذه العملات أثارت اهتمام أصحاب الرساميل، وباتت منصّات التبادل تتيح التجارة فيها. ففي عام 2013 انطلق سعر الـ«بتكوين» الواحدة بقيمة 13.4 دولاراً، لكنها قفزت في نهاية السنة إلى 1156 دولاراً. وتميّزت هذه العملة بأنها متقلّبة طوال الوقت، إنما في المجمل لديها مسار تصاعدي. ففي الأيام الأولى من عام 2014 انخفض سعرها إلى 760 دولاراً، ثم تراجعت في بداية 2015 إلى 315 دولاراً.
تضرّرت سمعة العملات المشفّرة بسبب إفلاس أكبر منصّة تداول لـ«بتكوين» آنذاك، واسمها Mt.Gox. ليس واضحاً إذا كانت عملية الإفلاس ناتجة من اختلاس داخلي للعملات، إلا أن الثابت أن المنصّة خسرت 850 ألف «بيتكوين» يعتقد أنها بيعت على مراحل زمنية مختلفة. لكن التعافي كان أقوى من الضرر. ففي مطلع 2016 عاد سعر «بيتكوين» إلى الارتفاع ليبلغ 998 دولاراً في مطلع 2017. وبعد سبعة أشهر، أنجز معدّنو شبكة الـ«بلوكتشاين» حول العالم، تحسينات تضمن نسبياً أمان العملات المشفّرة، ما أدّى إلى ارتفاع في سعر «بتكوين» بعد أسبوع إلى 2700 دولار. من يومها بدأت القفزات السعرية تتوالى، وبدأ يظهر المزيد من العملات المشفّرة. فأنشئت «إيثيريوم» التي اكتسبت زخماً كبيراً لتصبح سريعاً ثاني أكبر عملة مشفّرة لجهة القيمة السوقية. حملت هذه العملة معها مفهوم «العقود الذكية» التي سمحت بأن يُبنى فوق «إيثيريوم» مشاريع برمجية تتيح تداولها وفق عقود متفق عليها بين الأطراف ذات الصلة، أو بناء شركات يتم تشغيلها من قبل هذه البرامج، أو خلق شهادة توثيق لأيّ منتج رقمي أو توأم رقمي لأصل حقيقي...
حتى الآن، وُلد أكثر من 21 ألف عملة مشفّرة وكلها قيد التداول. لكن لم يرتق أيّ منها إلى مرتبة «العملة» بالمفهوم التقليدي، رغم أن «بتكوين» هي الأقرب إلى ذلك. فلطالما كانت هذه العملات ذات قيمة متقلّبة جداً. وهي باتت مرتبطة بعمليات التداول في البورصات العالمية، أكثر من أن تكون مدعومة بنشاط اقتصادي. وأصحبت غالبية هذه العملات المشفّرة مماثلة للأصول الأخرى المعروضة للبيع والشراء على البورصات. أما آليتها التقنية، من التعدين (إنشاء وحدات إضافية منها) وانتقالها من جهة إلى أخرى، فلم تتغيّر بشكل عام، إذ إن «بتكوين» محدودة الكمية، وهي الأكبر في القيمة السوقية، والأغلى ثمناً، ما زالت تعمل وفق مبدأ «إثبات العمل»، إلا أن «إيثيريوم» انتقلت إلى مبدأ «إثبات الملكية». كل عملية خلق وحدات إضافية تحتاج إلى موافقة الجزء الأكبر من المعدّنين أو المالكين. التلاعب بها من خلال اتفاق الغالبية يعني انخفاض قيمتها. لا مصلحة لهم للقيام بذلك.
رغم ذلك، لم تصبح هذه العملات المشفّرة حافظة للقيمة مقارنة مع العملات التقليدية، بل ما زالت وسيطاً للتبادل قيد الاختيار ضمن حصّة ضئيلة من السوق العالمية. التقلّبات السعرية كانت شديدة أحياناً. ففي الفترة ما بين نهاية 2017 ونهاية 2018، والتي سمّيت «شتاء الكريبتو»، انخفض سعر الواحدة من «بتكوين» بنسبة 84% من 20 ألف دولار إلى 3252 دولاراً، وسعر «إيثيريوم» من 1000 دولار إلى 85 دولاراً.
انتعاش العملات المشفّرة، عاد مجدداً في أواخر 2020. يومها أعلن مايكل سايلور، أحد مؤسّسي «MicroStrategy»، أن شركته اشترت عملات «بتكوين» بقيمة 250 مليون دولار. على إثر ذلك، نشأت سوق صاعدة انضم إليها مستثمرون آخرون من ضمنهم «تسلا» التي اشترت «بتكوين» بقيمة 1.5 مليار دولار في أوائل 2021، ليرتفع سعر «بتكوين» إلى أعلى مستوى قياسي في تاريخها مسجلة 69 ألف دولار في تشرين الثاني 2021. طبعاً، استفادت العملات المشفّرة من جائحة «كورونا» والضخّ الهائل للأموال من الحكومات الغربية. تكدّست الأموال التي لا مجال لاستعمالها أثناء الحجر الصحي، في محافظ الاستثمارات المالية في البورصات. أسهم وسندات وعملات مشفّرة وأصول أخرى. وبالتوازي، كانت تقنية «بلوكتشاين» تتطوّر بشكل مذهل وكثير التعقيد وتخلق منتجات غير حقيقية إلا في الخيال، لكنها باتت قيد التداول أيضاً!
كل ما كان ينطبق على الأسواق المالية انطبق على العملات المشفّرة. فوبيا الفرصة الفائتة انتقلت إلى العملات المشفّرة فاستثمر الكثيرون في هذه العملات التي ارتفع سعرها كثيراً، خوفاً من أن تفوتهم الفرصة. ساهم ذلك في «نفخ» العمليات الاحتيالية.
تأثّرت العملات المشفّرة كباقي الأصول المتداولة في الأسواق المالية العالمية. كل أزمة تحدث، كانت تنعكس بشكل متماثل بين الأسهم والسندات والعملات المشفّرة. التضخّم ومكافحته من حلال رفع أسعار الفائدة، والتوقعات بالركود، وارتفاع أسعار الطاقة، والحرب الروسية الأوكرانية وانخراط أوروبا وأميركا فيها... كل ذلك انعكس مباشرة على أسواق الأسهم والسندات والعملات المشفّرة. خسائر قاسية للأفراد والشركات، وفي الأسعار والحجم السوقي، إذ انسحبت الأموال من هذه الأصول لشراء السندات الأميركية التي تضمن أرباحاً هائلة بمردود ثابت وشبه مضمون. حتى إن عمليات الاحتيال، أو الإفلاس لم يكن لها تأثير واسع. فعلى سبيل المثال، إن إفلاس منصّة التداول «FTX» خلق هامشاً من التذبذبات لفترة قصيرة، قبل أن تستقرّ السوق، والأمر نفسه حصل عندما انفجرت العملة المستقرّة «تيرا-لونا».
وكان واضحاً أن سوق العملات المشفرة أصبحت أكثر ارتباطاً بالأسواق المالية القائمة على الوهم المالي ووعود بتحقيق الربح السهل والسريع... كل ذلك عكس رؤية ناكاموتو. وأسوأ ما يحلم به هذا الرجل، أو هذه المجموعة، أن تصبح العملات المشفّرة تحت السيطرة. هذا التحوّل تقوده اليوم أميركا ودول أخرى من خلال خلق عملات رقمية تكون تحت السيطرة ويمكن التحكّم بالمعروض منها وتتبع عمليات التبادل فيها اعتماداً على تقنية «بلوكتشاين».
في الواقع، ما زال النقاش قائماً بشأن اشتراكية، أو ليبرالية العملات المشفّرة. حتى الآن، تتشكّل هذه العملات تماهياً مع مبادئ النظام المهيمن حول العالم، باعتبارها شفافة وتنافسية وحرّة. ولأنها ما زالت أقرب إلى أن تكون أصلاً قابلاً للتداول من دون أن يكون مدعوماً بنشاط اقتصادي حقيقي، فإن العملات المشفرة جذبت المضاربين من دون أن تكون لدى آلية العمل، أو التكنولوجيا التي خلقت هذه العملات، قدرة على ضبط إيقاع المضاربات، بل إن أسعارها باتت تتأثر بهذه العمليات وسلوك السوق ورغبات أصحاب الرساميل الكبرى. في أكثر من مرّة، كانت تصريحات إيلون ماسك مسؤولة عن انخفاض قيمة بعض العملات أو ارتفاعها.
بالطبع، يمكن أن تتأثر العملات المشفّرة، مثل الأصول الأخرى، بالمؤشرات الاقتصادية مثل أسعار الفائدة والتضخّم والعرض والطلب. لكن ما زالت بعض العملات المشفّرة، تصنّف باعتبارها أحد ملاذات المستثمرين الراغبين في تنويع المخاطر ضدّ التضخّم. «بتكوين» مثلاً، هي كذلك لأنها لا تصدّر ولا يتم التحكّم فيها من قبل أي سلطة مركزية، بل إن المعروض منها محدود وثابت. كذلك، تتأثر قيمة العملات المشفّرة بطلب السوق ومعنويات المستثمرين. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك الكثير من المشاعر الإيجابية أو «ترند» حول عملة معينة، قد يرتفع سعرها بسبب زيادة الطلب. وبالعكس، إذا كان هناك شعور سلبي أو عدم اهتمام بالعملة المشفّرة، قد ينخفض سعرها.
اضف تعليق