أثار هذا المشروع، الذي تقدر قيمته بحوالي 11 مليار دولار، غضب الإدارة الأمريكية، وهناك مخاوف لدى إدارة ترامب حيال أن يساعد هذا الخط روسيا في إحكام قبضتها على إمدادات الطاقة الأوروبية، مما يقلل من حصة الولايات المتحدة في سوق الغاز الطبيعي المسيل في المنطقة الأوروبية...
نورد ستريم خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من مدينة فيبورغ في روسيا إلى مدينة غرايفسفالد في ألمانيا، يتألف الخط فعلياً من خطين متوازيين؛ وُضع الأول في الخدمة في شهر نوفمبر سنة 2011؛ أما الثاني فوضع في الخدمة في أكتوبر سنة 2012، يبلغ طول الخط 1,222 كيلومتراً وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت البحر في العالم، رغم المخاطر الجيوسياسية التي ينطوي عليها خط الغاز الروسي "Nord Stream-2" أو "السيل الشمالي-2" الذي يهدف إلى توصيل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً إلى أوروبا خاصة ألمانيا فإن الحكومة الألمانية أكدت أنها ماضية في المشروع رغم فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات قاسية على الشركات الروسية والألمانية المشاركة في المشروع، وعبرت برلين عن استعدادها ليس فقط لتحدي العقوبات الأمريكية، بل للتوصل إلى اتفاق مع أمريكا لشراء الغاز الأمريكي المسال، وهو الأغلى سعراً، ويتطلب إنشاء محطات إسالة بالمليارات.
خاضت ألمانيا صراعا دبلوماسيا مع فرنسا ودول شرق أوروبا خاصة بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث، من أجل إقناعها بجدوى "نورد ستريم-2"، ومدى أهميته لمستقبل الصناعة الأوروبية، وتصر ألمانيا على تنفيذ الخط الذي يعبر أسفل بحر البلطيق، ويمر في 5 دول هي روسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا، وينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وتشارك روسيا في المشروع بـ50%، بينما تشارك الشركات الألمانية بـ50% الأخرى، واعتمدت الحجج الألمانية على مجموعة من المحاور لإقناع شركائها الأوروبيين وهي:
- إن عام 2022 سيشهد توقف ألمانيا عن استخدام المحطات النووية التي تنتج الطاقة الكهروذرية، كما ستتوقف ألمانيا رابع اقتصاد في العالم وأكبر اقتصاد في أوروبا مع دول أوروبية أخرى عن استخدام الفحم لإنتاج الطاقة، بالإضافة إلى أن برلين ستحتاج مزيدا من الغاز مع دول الجناح الغربي في الاتحاد الأوروبي لرفع معدلات النمو الصناعي، وهو ما يستلزم ضمان ضخ الغاز بشكل دائم، وتشير الأرقام إلى زيادة معدلات الاستهلاك الأوروبية خاصة ألمانيا من الطاقة، حيث زاد اعتماد ألمانيا على الغاز إلى 30% عام 2018، كما وصل حجم الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي بنسبة 40%، بينما تحصل ألمانيا وحدها على 50% من حجم الواردات الأوروبية من الغاز، حيث استهلكت أوروبا وحدها 205 مليارات متر مكعب من الغاز بنهاية عام 2018.
- تراجع كميات الغاز التي تصل إلى أوروبا خاصة عبر الخط الروسي الأوكراني بسبب الخلافات بين كييف وموسكو، ورغم توقيع اتفاق جديد بين أوكرانيا وروسيا خلال الأسبوع الماضي فإن ألمانيا تخشى من تفاقم الخلافات الروسية الأوكرانية التي بدأت منذ عام 2014 بعد إعادة سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، واندلاع الحرب شرق أوكرانيا في إقليمي دونباسك ولوجانسك، وهو ما يهدد مرور الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا، وهذا سبب هام للتمسك الأوروبي بـ"نورد ستريم-2" رغم أنه يكلف 11 مليار دولار ويمتد إلى 1200 كيلومتر.
- تراجع إنتاج الغاز في أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي وهما هولندا والنرويج، بعد أن أعلنت الحكومة الهولندية أن إنتاج الغاز سيتراجع بشكل حاد بعد أن رصدت هيئة الزلازل الهولندية أن النشاط الزلزالي تزايد في الفترة الأخيرة نتيجة سحب الغاز من باطن الأرض، ولذلك تعمل هولندا في الوقت الراهن على تخفيض الغاز من حقل جرونينجين للغاز من 53 مليار متر مكعب نهاية 2019 إلى 12 مليار متر مكعب عام 2022.
- فاجأت النرويج الدول الأوروبية عندما أعلنت في شهر أبريل/نيسان الماضي أن الحقول النرويجية للغاز، التي جعلت من النرويج ثاني مورد غاز لأوروبا بعد روسيا، في طريقها للنضوب، وأن هناك حقلا وحيدا يمكن أن يزيد إنتاجه وهو حقل "ترول" الذي ينتج 40 مليار متر مكعب من الغاز في العام الواحد، لكن الحكومة النرويجية اعتذرت عن زيادة الإنتاج من هذا الحقل، نظراً لأن أنبوب نقل الغاز لا يمكن أن ينقل أكثر من السعة الحالية.
- وصلت أزمة الغاز في أوروبا إلى ذروتها عندما أبلغت الجزائر، وهي ثالث مورد غاز للاتحاد الأوروبي، الجانب الأوروبي أنها تستعد لوقف تصدير الغاز تماماً للقارة العجوز، بسبب زيادة الطلب المحلي في الجزائر ورغبة الحكومة الجزائرية في استخدام مزيد من الغاز في الصناعة.
ما السبب وراء معارضة الولايات المتحدة نورد ستريم ؟
أثار هذا المشروع، الذي تقدر قيمته بحوالي 11 مليار دولار، غضب الإدارة الأمريكية كما عارضه النواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهناك مخاوف لدى إدارة ترامب حيال أن يساعد هذا الخط روسيا في إحكام قبضتها على إمدادات الطاقة الأوروبية، مما يقلل من حصة الولايات المتحدة في سوق الغاز الطبيعي المسيل في المنطقة الأوروبية، وقال ترامب إن الخط، الذي من المفترض أن يمتد لحوالي 1225 كيلو مترا، قد يجعل ألمانيا "رهينة في يد روسيا"وأغضبت العقوبات الأمريكية روسيا والاتحاد الأوروبي أيضا إذ تقول موسكو والدول الأوروبية إن لها الحق في تحديد سياسات الطاقة ومصادرها، وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في وقت سابق من الأسبوع الجاري، إنها تعارض "هذه العقوبات العابرة للحدود الإقليمية" ضد خط الغاز نورد ستريم.
وتبنى هايكو ماس، وزير الخارجية الألماني، لغة أكثر حزما أثناء الحديث عن العقوبات الأمريكية على المشروع الأوروبي الروسي، قائلا إن الإجراءات الأمريكية تمثل "تدخلا في القرارات المستقلة التي تتخذها أوروبا" وقالت شركة أولسيز السويسرية الهولندية إنها علقت أنشطة تركيب الأنابيب بسبب العقوبات الأمريكية، كما تستهدف عقوبات أمريكية مشروع خط غاز روسي تركي "توركستريم"، وتتضمن تجميد أصول وإلغاء تأشيرات دخول الولايات المتحدة الخاصة بالمقاولين العاملين في المشروع.
عامل حاسم
عبرت واشنطن ضمنيا عن معارضتها لهذا المشروعن وخلال الصيف الماضي، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية على فرض عقوبات على الشركات الغربية التي تعمل بالتعاون مع الشركات الروسية المملوكة للدولة، كما لم تتردد واشنطن في إظهار معارضتها لمشروع خط الأنابيب "نورد ستريم-2"، هاجم وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تيلرسون، هذا المشروع مدعيا أنه "يقوض أمن الطاقة الأوروبي واستقرار القارة ككل" وعلل تيلرسون تصريحاته بأن خط الأنابيب ليس إلا "وسيلة جديدة" لروسيا من أجل "تسييس قطاع الطاقة".
لا ترتبط معارضة واشنطن لمشروع "نورد ستريم-2" الروسي بجملة من الأسباب الجيوسياسية فقط فبفضل تقنية التصديع المائي، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تصبح ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، بعد قطر وأستراليا وتؤمن إدارة دونالد ترامب أن الغاز الطبيعي المسال يمثل أحد أهم العوامل القادرة على تعزيز الميزان التجاري العاجز، في مواجهة الاقتصاديات الأخرى على غرار الصين وألمانيا.
أكد بعض المراقبين الدوليين أنه من الصعب أن تغير ألمانيا موقفها الحالي تجاه المشروع الروسي، رغم أن خط أنابيب الغاز الجديد لن يحد من تبعية ألمانيا والاتحاد الأوروبي لروسيا على مستوى إمدادات الغاز من جانبها، أكدت المستشارة الألمانية، أنجلينا ميركل، في العديد من المناسبات، أن "نورد ستريم-2" هو مشروع اقتصادي بامتياز، ويجب إبقاءه بمنأى عن السياسة، وأوضح الخبراء أن هذا المشروع سيضمن للدولة الألمانية إمدادات مستقرة من الغاز، من خلال الاستغناء عن الدول الوسيطة، خاصة بعد النزاعات التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا بسبب الغاز فضلا عن ذلك، من شأن هذا المشروع أيضا الحد من ارتفاع أسعار الغاز كما يمكن لألمانيا أن تصبح مركزا لتوزيع الغاز في القارة الأوروبية وذلك من خلال شراء كميات كبيرة منه تفوق احتياجاتها، لتقوم فيما بعد ببيع هذه الفائض إلى دول أوروبية أخرى.
من جهة أخرى، أكد بعض المراقبين الدوليين أنه من الصعب أن تغير ألمانيا موقفها الحالي تجاه المشروع الروسي، رغم أن خط أنابيب الغاز الجديد لن يحد من تبعية ألمانيا والاتحاد الأوروبي لروسيا على مستوى إمدادات الغاز وأن مشروع "نورد ستريم-2" أضحى مسألة مثيرة للجدل خاصة في خضم المواجهة التي تعيشها روسيا مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ووفقا لدراسة أجراها مركز أبحاث بروجل الأوروبي، تنشط شبكة أنابيب الغاز الروسية حاليا بنسبة 60 بالمائة كما أنه من المتوقع أن يشهد طلب دول أوروبا الغربية على إمدادات الغاز ارتفاعا طفيفا تدريجيا على مدار السنوات الخمسة عشر القادمة.
انقسام اوربي
تبقى المفوضية الأوروبية حذرة جدا حيال المشروع وفي ظل عجزها عن المعارضة، فإنّها تريد التأكد من أنّه يتواءم وقوانين سوق الطاقة الأوروبي، في مجال المنافسة على وجه الخصوص، ويرى العديد من المراقبين أنّ مقترحها لمراجعة سياسة الغاز الهادف إلى التأكد من أنّ الغاز الآتي إلى أوروبا يحترم أيضا سوق الطاقة الموحد (شفافية الأسعار، فصل الأعمال بين الموردين ومدراء البنى التحتية)، هو بمثابة وسيلة للإشراف على "نورد ستريم-2".
وتعدّ بولندا ودول شرق أوروبا أكثر المعترضين على مشروع "نورد ستريم-2" في المقابل، تعدّ ألمانيا المدافع الأبرز عنه، ما جعلها هدفا لانتقادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أقر عقوبات تشتمل على تجميد أصول وإلغاء تأشيرات أمريكية لرجال أعمال مرتبطين بمشروع خط الأنابيب، وكان ماركو جولي، من معهد الدراسات الأوروبية، قال أخيرا إنّ "الولايات المتحدة كانت دوما ضد هذا المشروع، مظهرة تناقضا جوهريا في السياسة الألمانية" التي من جهة تؤيد نظام العقوبات ولكنّها "لا تعترف بالبعد السياسي لـ"نورد ستريم 2" ويضم المشروع العملاق الروسي "غازبروم"، صاحب الغالبية فيه، وعدة شركات أوروبية: المجموعتان الألمانيتان "وينترشال" و"يونيبر"، المجموعة الهولندية-البريطانية "شل"، المجموعة الفرنسية "انجي" والنمساوية "أو. ام. في.".
كلٌ يخطط لمصالحه
سعت المستشارة الألمانية خلال شهر آيار/ مايو الماضي، إلى الحصول على موافقة الدولة الأوكرانية على مشروع خط أنابيب الغاز الروسي من أجل الحد من الانتقادات الواسعة، مع ضمان عدم المساس بالمصالح الأوكرانية ولا يعد الجدل القائم حول هذا المشروع أمرا هينا، حيث أكد مركز الإصلاح الأوروبي أنه في حال تدفق الغاز، الذي يصل إلى ألمانيا حاليا من خلال أوكرانيا، عبر خط أنابيب "نورد ستريم-2"، فستتوقف الحكومة الأوكرانية عن تلقي حوالي 1.800 مليون يورو سنوياً كرسوم على نقل الغاز عبر أراضيها، أي ما يعادل 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني.
في الأثناء، تبذل واشنطن جهودها للترويج لمنتجاتها في سوق الطاقة في القارة الأوروبية، الأمر الذي لم يشد اهتمام برلين على الرغم من تعدد العروض والفرص الأمريكية، في الوقت الذي عمدت فيه بعض الدول الأخرى إلى فسخ العقود التي تجمعها بالجانب الروسي وعلى سبيل المثال، وقعت بولندا اتفاقية إمدادات الغاز الطبيعي المسال مع الولايات المتحدة في سنة 2017 وبموجب هذا العقد، تزود الولايات المتحدة الأمريكية بولندا بتسع ناقلات غاز طبيعي مسال على مدار خمس سنوات متتالية ومن المقرر أن ترسو هذه الناقلات في المرفأ البولندي الجديد الواقع في شفينويتشيه على ضفاف بحر البلطيق، الذي يعد من أهم منشآت البنية التحتية الغازية في بولندا.
في الأثناء، لا زالت الولايات المتحدة الأمريكية في محادثات مع دول البلطيق الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، الرافضة لمشروع "نورد ستريم-2" الروسي، والتي عبرت عن خوفها من روسيا خاصة في ظل تبعيتها لها على مستوى إمدادات الطاقة وخلال نيسان/ أبريل الماضي، سافر رؤساء دول البلطيق، كيرستي كاليولايد، وريموندز فيجونس وداليا غريباوسكايتي، إلى واشنطن من أجل لقاء الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. ولعل إمدادات الغاز كانت من بين القضايا الرئيسية على جدول أعمال هذا اللقاء، تطمح بولندا في أن تصبح موزعا للغاز الطبيعي في القارة الأوروبية وهو ما سيعود عليها بالكثير من الفوائد المالية من خلال فرض الرسوم والضرائب، خلال السنوات الأخيرة، عملت دول البلطيق الثلاث على ربط قنوات إمدادات الغاز فيما بينها، وحتى مع دول أخرى على غرار فنلندا وبولندا، علاوة على ذلك، عمدت هذه الدول إلى استيراد الغاز من النرويج وإنشاء محطة إعادة تحويل الغاز في الميناء الواقع في مدينة كلابيدا الليتوانية كما تدرس هذه الدول الثلاث بناء ميناء "بالديسكي" الجديد في إستونيا.
من جهتها، اقترحت وارسو، العاصمة البولندية، بناء خط أنابيب تربطها بالنرويج، ويمكن أن يحمل الغاز من بولندا إلى وسط وشرق أوروبا وتطمح بولندا في أن تصبح موزعا للغاز الطبيعي في القارة الأوروبية وهو ما سيعود عليها بالكثير من الفوائد المالية من خلال فرض الرسوم والضرائب أما المجر وسلوفاكيا فأعربتا عن نيتهما في بناء خط أنابيب للغاز يربط بين الشمال والجنوب الأوروبي لتسهيل وصول الغاز من رومانيا وبلغاريا إلى أراضيهما.
اضف تعليق